الكتابة الاستعمارية حول مغرب القرن 19م


بين القبول والرفض
لقد شكل القرن التاسع عشر منعطفا حاسما في تاريخ المغرب حيث تصاعدت الأطماع الأوربية الاستعمارية “الفرنسية والاسبانية والبريطانية “، وسط تحولات داخلية وخارجية ، وفي هذا السياق شكل المغرب مادة دسمة للكتابات الأوربية العديدة التي جمعت بين الوصف الجغرافي والاجتماعي والتحليل السياسي، وبناءً على ذلك تسعى هذه القراءة – التي وافانا بها الاستاذ “علال بنور” مشكورا – إلى الوقوف عند تمثلات المغرب في الخطاب الاستعماري خلال القرن 19، ساعية إلى تأكيد الحاجة إلى استحضار الصوت المغربي في الكتابة التاريخية بعيدا عن الروايات المفروضة. ومع كل ذلك تظل الكتابة الاستعمارية – بما لها وما عليها – مرآة لصراع طويل بين إدارة السيطرة ورغبة التحرر… (ألوان)
———————————-
ورد في مقدمة كتاب ” بين الزطاط وقاطع الطريق ” للمؤرخ عبد الاحد السبتي، تقسيما للمسالك التي قطعها الاخباريون الأوربيون للموصول إلى معرفة واقع المغرب الجبلي والسهلي جغرافيا واجتماعيا، سلكوا الطريق إليه عبر مسلكين هما: السفارات الأجنبية الموجودة بمدينة طنجة، كان مقرها المعروف ب “دار النيابة” وهي مقر قناصل ممثلي ” الأجناس” على حد تعبير الاخباريين المغاربة.
أما الطريق الثاني، تمثل في طريق خرائط وتدوينات المستكشفين الأجانب. لم يخرج هؤلاء البحاث عن أهداف امبريالية القرن 19م، يتقاسمون في خدمة حكومات دولهم للتمهيد لعملية الاحتلال. فإذا كانوا يختلفون في المادة التي يقدمونها من موقع تخصصاتهم، من كتابة الرحلة إلى الجغرافية والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا إلى الوظيفة الدينية والوظيفة العسكرية والدبلوماسية ، فإنهم يجتمعون نحو غرض واحد هو تقديم خدمة لتسهيل الاحتلال العسكري، كل واحد أو مجموعة من موقعها، كتبت عن المغرب كتبا وتقارير، يجتمعون في فكرة الاستعمار الذي يعني الاستغلال .دون الرحالة معطيات لم تكن تثير فضول واهتمام الاخباريين المغاربة في فترة القرن 19م. وهي اليوم، أصبحت من صلب اهتمام الباحث التاريخي في الحياة الاجتماعية من عادات وذهنيات .
فضلنا عنونة هذه الدراسة ب “الكتابة الاستعمارية” عوض “الكتابة التاريخية”، لاعتبار أن ما كتب حول مغرب القرن 19م متعدد التخصصات، من الرحلات إلى السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتقارير الصحافية والدبلوماسية والكتابات التاريخية والجغرافية. ومن المؤكد أن هذه التخصصات، كتب فيها ضباط المخابرات والجنيرالات والدبلوماسيون والصحافيون والجغارفة والمؤرخون والأنثروبولوجيون والسوسيولوجيون والاثنولوجيون ورجال الدين، ومجموعة ما سمي ب “البعثة العلمية الفرنسية “. هؤلاء البحاث وفروا معطيات مصدرية حول المغرب. وبالرغم من اختلاف طبيعة وأهداف الكتابات الأجنبية مع اختلاف جنسياتهم ووظائفهم، يبقى لهم غاية واحد، هي تقديم خدمات للاحتلال العسكري. وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة والجحود بها، فإنها ستشكل معطيات تاريخية لأهميتها في البحث التاريخي مع مرحلة الاستقلال.
انهم حضروا للمشروع الاستعماري بتعدد المصنفات والتقارير المتضمنة للصور والخرائط إضافة للمتون، التي وصل عددها إلى حوالي 280 كتابا ولربما العدد أكثر من ذلك، حول المدن والبوادي والزوايا، مع الوصف الجغرافي للسهول والهضاب والجبال والانهار في جزئياتها الدقيقة، اهتمت التقارير والمقالات الصحافية والكتب بكل اشكال التنظيمات القبلية والدينية والمخزنية، ومظاهر الحياة من عادات وتقاليد وذهنيات، ولم يتركوا موضوعا إلا وتطرقوا إليه. ومع نهاية القرن 19م، تمأسست الكتابات تحت اشراف “ البعثة العلمية الفرنسية” التي تأسست منذ1904 من طرف السوسيولوجي الفرنسي (ألفريد لوشاتوليي)، فتعاقب على إدارة هذه المؤسسة، كل من (اوجين إتيان) و (ميشو بيلير) و(جورج سلمون). كان يصدر باسم تلك البعثة، العديد من الدراسات التي انتظمت في اصدار دوريتان هما: Les Archives Berbers et Les Archives Marocaines، سيتحول اسمها فيما بعد إلى (شعبة سوسيولوجيا الشؤون الأهلية)، وفي سنة 1925 سيتحول هذا الاسم إلى (معهد الدراسات العليا المغربية). ومن هنا لا بد من الوقوف عند مصطلح الأهالي الذي يقصد به سكان منطقة جغرافية.
في اعتقادنا أنه يحمل شحنة أيديولوجية عنصرية ومفردة قدحية، لذلك يقترح اليوم ترجمة les indigènes بالسكان. اهتم معهد الدراسات العليا المغربية – الذي كانت بنايته بالرباط، واليوم هو كلية الآداب – كسالفه بجمع الوثائق المادية والرمزية وتدوين المعطيات الشفاهية لحياة القبائل، وبذلك، قاموا بمسح كاشف للقبائل والزوايا عبر جغرافية وتاريخ المغرب، من فترة الإمارات إلى فترة تأسيس الدول التي مرت بالمغرب. وهكذا ساهمت البعثة العلمية في تشخيص الواقع الاجتماعي والسياسي للمغرب خدمة للسياسة الاستعمارية.
تأكد أن الدراسات الاجنبية حول مغرب القرن 19م، لم تترك جانبا إلا وتطرقت إليه من التنظيمات السياسية المخزنية والقبلية إلى الزعامات القيدوية، إلى الإنتاج الفلاحي والحرفي والأسواق والتجارة والعلاقات الاجتماعية. هذه الموضوعات، برع فيها السوسيولوجيون من أمثال (ادموند دوتي) و(أوكيست مولييراس) و(شارل دو فوكو) و(أرنست كلنير) وغيرهم. كما برع فيها رحالة متنكرون في زي إسلامي، مثل (روني كايي) و(ميشال فيوشانج)، هذا الأخير، تنكر في هيئة امرأة للتوغل في تضاريس قبائل الاطلس الصغير.
تتفق الدراسات الأجنبية حول مغرب القرن 19م في موضوع علاقة المخزن بالقبيلة، معتبرة أن المخزن مؤسسة قاهرة للقبائل أكثر من المدن، عبر فرض الضرائب الثقيلة، وبالتالي إن مهمة الجهاز المخزني هو الابتزاز والتسلط. ولسيادة المخزن على القبائل والمدن، اعتمد على آليات للردع منها: تشتيت القبائل وبناء القصبات بجوار القبائل المتمردة، تطبيق سياسة “فرق تسد” أي ضرب قبيلة بأخرى وتشجيع القواد لضرب القبائل المتمردة، منح ظهائر التعيين المخزني لأعيان القبائل والقواد بغية السيطرة عليها، منح ظهائر التوقير للأسر الشريفة والزوايا والمتصوفة بكل تصنيفاتهم. وبذلك خلق المخزن فئة اجتماعية مخزنية التي ستعرف فيما بعد بالعائلات المخزنية. وتبعا لذلك، نطرح سؤالا: لماذا ركزت الكتابات الأجنبية على موضوع القبيلة في علاقتها مع المخزن ولم تعر اهتماما أكبر للحواضر؟ ولماذا درست العلاقات الافقية والعمودية للقبيلة ولم تدرس المدينة بنفس الشكل؟ ولماذا أعطت اهتماما في الكتابة للزوايا وظاهرة الشرف والبركة؟ يبدو أن تعامل البحاث الأجانب مع مكونات القبيلة كمفهوم انثروبولوجي أكثر من تعاملهم معها ككيان تاريخي قابل للتطور، بمعنى من المعاني، أن هذه الكتابات في جوانبها السلبية سلخت من القبيلة وظيفتها التاريخية، وأزاحت عنها واقعها المدرك والمفكر فيه على طبيعته.
اعتقد، أن من بين أهداف ابراز خصائص القبيلة، هو معرفة الطابع التقليدي لغرابته عن أوربا لإعطائها الطابع الفلكلوري، وفي ذات الوقت، أن الغزو الأوربي اعتبر نفسه حاملا لرسالة حضارية تكلفت بها فرنسا في المغرب، كما دعا إلى ذلك المنظر الاستعماري Arthur Gobineau خلال القرن 19م في ترويجه لظرية تفوق العنصر الآري والحتمية الجغرافية. وهو القائل: أن فرنسا تحمل رسالة حضارية للشعوب الفقيرة بشمال افريقيا، اعتمادا على الانتماء العرقي والجغرافي. ترك البحاث الأجانب مسحا شاملا للمغرب في بنيته الطبيعية من مسالك وطرق، وبنيته البشرية من عرب وأمازيغ في شكل دراسات عن المجتمع المغربي في موضوعات مختلفة، التي لم يستطع الاخباريون المغاربة الوصول اليها كتابة. ومن هنا، يجب التأكيد أن فترة القرن التاسع عشر، لم يعرف تدوينا مصدريا من طرف الفقيه والاخباري المغربي إلا شحا مقارنة مع القرون السابقة بالمغرب.
ومن تم نتساءل: ما هي أسباب ضعف التدوين المغربي خلال القرن التاسع عشر؟ لذلك، كان للبحاث الأجانب الفضل الكبير لما تركوه من مادة مصدرية للباحث التاريخي مع مرحلة الاستقلال، خاصة مع الطلبة الرواد في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وذلك، موضوع آخر يلزم النبش فيه. انصافا للتاريخ والشرط المنهجي الذي يجب أن يتحلى به الباحث التاريخي. يجب القول: أن كل ما تركه الأجانب من دراسات المكشوف عنها وغير المكشوف منها تبقى مهمة، أنهم وفروا للباحث التاريخي اليوم مادة تاريخية بما فيها الكتابة الصحافية والتقارير الاستخباراتي والعسكرية، أتاحت إمكانية الوصول إلى انجاز دراسات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والذهنيات والزوايا ومؤسسة المخزن والقبيلة، وعلى ضوء هذه الدراسات ظهر مؤرخون جدد وعلى قلتهم، يدعون إلى البحث في تاريخ المهمشين وتاريخ البوادي والأسواق الموسمية المرتبطة بالقبائل على غرار الاتجاه الذي سلكته مدرسة الحوليات الفرنسية.
انطلاقا مما سبق، أريد أن أثير في هذه الدراسة قضية كثيرا ما تزعج المؤرخين المغاربة الرواد والمحدثين، يتعلق الأمر بكتابات الأجانب حول تاريخ مغرب القرن 19م التي تحظى بالرفض، الشيء الذي قسم المؤرخين المغاربة إلى فصيلين، فصيل يدعو إلى التعامل مع الكتابات الاستعمارية بحذر مع رفض المفردات والمفاهيم والمصطلحات التي وردت في كتاباتهم، كما اعتبر المؤرخ المغربي إن جميع طروحات الدارسين الأجانب تكن عداء للمغرب. وفصيل آخر يدعو إلى رفض التعامل النهائي والمطلق مع الكتابات الأجنبية آنذاك، لأنها تمس بتاريخ المغرب. وفي مستوى آخر ظهرت ثلاثة آراء: الرأي الأول يرى أن الكتابات الأجنبية شوهت تاريخ المغرب. الرأي الثاني يؤكد على ضعف الكتابة التاريخية المغربية التي قادها الإخباريون والفقهاء المؤسسون للنواة الأولى لتيار التاريخ الوطني. الرأي الثالث يرى أن القرن 19م أخذ حقه من الاهتمام بالكتابة التاريخية من طرف المؤرخين المغاربة. ومهما يكن، يظهر أن الباحث التاريخي المغربي اليوم، لا يمكنه بأي حال من الأحوال الاستغناء عن الموروث التاريخي المتعدد الوثيقة الذي تركه الأجانب. متى سيتوقف المؤرخ المغربي عن الرد على الكتابات الاستعمارية، ليبدأ في كتابة تاريخ مغرب القرن 19م ؟ هل يمكن التخلي عن مصدرية الأجانب لصياغة تاريخ مغرب القرن 19م؟
إن الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمات القبلية، وعلاقة المخزن بالقبائل والنظم الغذائية بالبوادي، التي أغرت البحاث الأجانب، جعلتهم ينتبهون إليها بالكتابة. غير أنها لم تتر فضول الاخباريين المغاربة خلال القرن 19م على قلتهم، ولم يأت اهتمام المؤرخين المغاربة الرواد والمحدثون بالموضوعات التي اثارها وتناولها كتابة الباحثون الأوربيون إلا مؤخرا بعد الاستقلال. فجاءت البحوث الجامعية منذ السبعينيات من القرن الماضي – حيث وجود كليتين للآداب فقط الرباط وفاس – جوابا عن الفراغ في الكتابة التاريخية خلال القرن 19م، أو ردا على الدراسات الأجنبية المتضمنة لنظريات، موظفة مفردات جديدة في الكتابة حول المغرب. عموما، هي أجوبة فيها المرفوض والمؤيد لأطروحات الكتابات الأجنبية التاريخية خاصة تلك المتعلقة بالرحلات. غير أنه، يجب أن نسجل، أن الكتابات التاريخية المغربية المؤيدة لأطروحات الأجانب تبقى خجولة مضمرة، ومن هنا نطرح سؤالا: إلى أي حد استطاع المؤرخون المغاربة الرواد والمحدثون الرد على الكتابات الأجنبية؟ ولماذا تم التعامل معها بانتقائية ولم ترفض جملة وتفصيلا؟
نلاحظ، أن المواضيع التي انكب على دراستها المؤرخون المغاربة منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي إلى اليوم، اتخذت اتجاهين: منحى اقتصادي ومنحى اجتماعي بعيدا عن التاريخ الحدثي. فقاربت الدراسات الجمع بين موضوعات تاريخية في علاقتها بالعلوم المجاورة للتاريخ. فجاء المنحى العام في اتجاه مدرسة الحوليات الفرنسية. هل هذه الدراسات جاءت ردا عن اطروحات الكتابات الأجنبية رافضة المفاهيم والمفردات والمضامين التي وردت في مغرب القرن 19م؟ أم جاءت للإجابة عن سؤال الرفض والقبول؟
خلاصة، إن القرن التاسع عشر افتقد إلى المادة المصدرية المغربية، باعتبار أن المؤهلين هم الفقهاء والاخباريون على قلتهم، لم يخلقوا تراكما مصدريا. لذلك، لا محيد عن الأخذ بالكتابات الاستعمارية مهما اختلفت تخصصاتها وتنوعت موضوعاتها، تبقى أساسية للاعتماد عليها في قراءة وكتابة تاريخ المغرب في هذه الفترة، بدون رفضها وهناك ثلاث قضايا تاريخية عانت منها القبائل في علاقتها مع المخزن يلزم العودة إليها. هي: غياب الديموقراطية وثقل الضرائب والنزاعات حول الأرض.
*المراجع:
1/ محمد الأمين البزاز المجلس الصحي الدولي في المغرب 1792 – 1929 -منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية – الرباط ط: 2000.
2/ محمد الأمين البزاز تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر -منشورات كلية الاداب -الرباط. ط:1992
3/ عبد الاحد السبتي: بين الزطاط وقاطع الطرق – أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار- دار توبقال للنشر – ط: 1 .2009
4/ عمر أفا: تاريخ المغرب المعاصر – دراسات في المصادر والمجتمع والاقتصاد – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط -ط: 1. 2002.
5/ محمد المنصور: المغرب قبل الاستعمار- المجتمع والدولة والدين 1792 – 1822.ترجمة: محمد حبيدة. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. ط: 1. 2006.
6/ J. L. Miege. Le Maroc et l’Europe 1830 – 1894.ed.de le port. Rabat 1989.
7 / M. Kenbib. Les protections étrangères au Maroc aux 19eme siècle début du 20 siècle.
8/ ch. A. Julien. Hassan 1ere et la crise marocaine aux 19eme siècle in Africaines.