ديوان “على مرمى كلمة” للشاعرة عزة رياض

ديوان “على مرمى كلمة” للشاعرة عزة رياض

سردية جسدية مكثفة

             حميد عقبي

نتوقف مع أحد نصوص ديوان “على مرمى كلمة” للشاعرة المصرية عزة رياض، حيث يقدم هذا النص مشهدًا شعريًا كثيفًا يتقاطع فيه الجسد الأنثوي مع الطبيعة، ليخلقا معًا فضاءً رمزيًا للصراع، الحماية، والانتهاك. يعتمد هذا النص على الصور المتتابعة التي تمكنت من خلق إيقاع  داخلي غني بالمعاني، ونجحت عزة رياض لحد جيد من خلق استعارات جعلت من الجسد مركزًا دلاليًا تنبثق منه ثنائيات وعوالم متباينة ومتضادة.

النص:  على مرمى كلمة

الشاعرة : عزة رياض

أنامُ على ضفّةِ نهرٍ مهجور،

لم أُتقِنْ لغةَ النقيق،

لذلك تقفزُ الضفادعُ فوقي

كسمكةٍ نافقة.

عصفورُ النهرِ يقطعُ مسافةً طويلة

ليبنيَ عُشَّه على خاصرتي.

الوردُ الذي افترشَ سطحَ الماء

تقدَّم نحوي ليُخبِّئ جسدي.

صرتُ أنا والوردَ تلاً كبيراً

يقفُ فوقه صيادو العصافير،

وفي كلّ إخفاقةٍ: رصاصة،

ينجو عصفورٌ

يأوي إلى خصري

كقلعةٍ آمنة.

عرفتُ لماذا هجرَ النهر،

ولماذا لم أُتقِنِ النقيق،

ولماذا

اختارَ القناصةُ تلّاً يرتجّ،

ولماذا

افترشَ الوردُ جسدَ امرأةٍ

لا تقوى على النهوض.

في هذا النص، يضمر الجسد خصوبة تقاوم الانطفاء، رغم أن افتتاح القصيدة جاء بصورة خافتة: “أنام على ضفة نهر مهجور“. فرغم الهجر والجفاف، تظل الخاصرة قادرة على أن تكون موضعًا لبناء عشّ، والورد يقترب ليخفي الجسد لا ليدفنه، بل ليحميه، في مشهد حسي يجمع بين الرغبة في الاختفاء والرغبة في النجاة. هنا، لا يموت الجسد لكنه يتحوّل، يُعاد تشكيله بوصفه ملاذًا آمنًا.

هذا الجسد لم ينغلق على ذاته، بل يتحول لموقع متوتر للصراعات: جسد يحتله الصيادون والعصافير. العصافير تمثل الكائنات الهشة، العزلاء، الباحثة عن الأمان. الصيادون، في المقابل، يحوّلون الطبيعة – بما فيها الجسد – إلى ساحة قتل وتخريب ويحتلونها. ومن خلال هذه التوترات، يتشكل الجسد الأنثوي إذن كتضاريس متحركة: يتحول إلى تلّ، ويرتجّ من وطأة التصويب المستمر، لكنه في الآن نفسه يمنح الخصر وظيفة قلعة آمنة لعصفور ينجو من الموت.

في زمن الصراعات والرصاص المصوّب والطائش ووسائل الإبادة والتدمير، لا يتحوّل الجسد الأنثوي إلى ضحية صامتة، بل إلى نقطة مقاومة واحتواء. القصيدة لا تبكي الجسد، بل تُعيد إليه فاعليته وقداسته عبر مجاز الطبيعة، لتجعل منه كائنًا حيًا يحمل الحياة والموت معًا في آن.

في هذا النص، تستبطن الشاعرة المصرية عزة رياض حالة اغتراب وجودي وثقافي حادة، تجعل من الجسد واللغة والطبيعة فضاءات يعاد تشكيلها في ضوء هذا الانفصال العميق عن المحيط. ومنذ السطر الأول، تتجلى المفارقة: “أنام على ضفة نهر مهجور” — ليس النهر مصدر الحياة المعتاد، بل هو كيان مهجور، مثله مثل الجسد ذاته. وتتابع الشاعرة بالقول: “لم أُتقِن لغة النقيق“، وهي عبارة تتجاوز بعدها الحرفي لتشير إلى عجز الذات عن التماهي مع لغة محيطها، أو رفضها لها. “النقيق” هنا قد يُقرأ كرمز لـ”الضجيج الاجتماعي“، أو “الخطاب الجمعي” الذي لا تشعر الذات بالانتماء إليه — خطاب قائم على الفوضى، التكرار، الوصولية، يصل حد التفاهة.

تُقابل الذات هذا الاغتراب بالتحول إلى موئل آخر: جسدها يصبح ملجأً لعصفور، ويختبئ الورد فوقه. هذا التحول يعكس رغبة في إعادة تعريف العلاقة مع الجسد والعالم، ليس كعنصر خاضع، بل ككائن حامٍ، وملاذ للمهمّشين (العصافير). لكن هذا الفضاء الحميم سرعان ما يُنتهك، إذ يقف عليه القنّاصة، وتُوجَّه إليه الرصاصات، في استعادة قاسية لعنف الثقافة الذكورية أو المجتمعات التي تلتهم الأنوثة والاختلاف.

من هذا المنظور، يمكننا قراءة هذا النص أيضًا كقراءة ناقدة للنسق الثقافي المحيط بالشاعرة — نسق يهمّش المختلف، يبتلع الأصوات الخارجة عن السرب، ويحوّل الحقل الحيّ (الجسد، القصيدة، الأنوثة) إلى ساحة قنص رمزية.

وهكذا، تجمع القصيدة بين شاعرية الصورة ومأساوية الموقف، لتعبّر عن أنوثة تحاول أن تنهض في عالم لا يفهم لغتها، بل يسعى لتدجينها أو اصطيادها، في توازن دقيق بين الحسي والمجازي، الرفض والانتماء، الحياة والكمين.

ختامًا، يمكننا القول بأننا مع شاعرة تمكنت من نسج سردية جسدية مكثفة، تحوّل فيها الجسد الأنثوي إلى فضاء رمزي تتقاطع فيه ملامح الحماية، التهديد، الانتماء، والاغتراب. سعت الشاعرة إلى تجسيد هذا النسيج بشكل صوري ودلالي متجدّد، تمكنت أن تفلت من التكرار أو النمطية، وتستعيض عنهما بتوالد صور متحوّلة: الجسد ضفة، خاصرة، تلاً، وقلعة. هذه التحوّلات لم تُوظف لتخدم الوصف وحده، الأكثر دهشة أنها منحت الجسد طاقة سردية تتجاوز

الصمت أو التلقي، ليصبح مركزًا للنجاة والمقاومة. كما أن التداخل بين الكائنات (الورد، العصفور، الضفادع) يُصبغُ على الجسد حياةً متعددة الطبقات، تجعل منه كيانًا متفاعلًا مع محيطه في صراع جمالي ووجودي مع القنص والإلغاء. بهذه التقنية، خلقت الشاعرة قصيدة تحتفي بالأنوثة دون أن تكرّسها نمطًا مكررًا.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *