تأملات للكاتب مهدي عامري…

عالم مجنون
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، لكن في شكل مهزلة دامية تتقاطع فيها الجغرافيا مع الخيانة، والدين مع المصالح، والعقل مع الغيبوبة، ذلك أن العالم اليوم يُدار بلغة القوة لا بمنطق الحق. ولعل المثال الأوضح على هذا الاختلال هو التعامل الدولي مع إيران، الدولة الإسلامية التي لم تستخدم النووي قط، ومع ذلك تُمنع حتى من التفكير في امتلاكه، فقط لأنها مسلمة وخارجة عن الفلك الغربي؛ بينما تُبرّر حيازة السلاح ذاته لدول استخدمته فعليًا، مثل الولايات المتحدة التي قتلت مئات الآلاف في هيروشيما وناغازاكي، ثم خرجت إلى العالم بثوب المنتصر لا المعتذر، مما يدل على أن السلوك الإجرامي قد يُكافأ إذا كان صاحبه قوياً بما يكفي لفرض سرديته. وهنا تتجلى المفارقة الكبرى: أمريكا، التي ترفع شعار الديمقراطية، كانت أول من أهان الإنسان نوويًا، وإسرائيل، التي نشأت على أنقاض فلسطين، وسّعت حدودها بالقوة، ثم تلبست ثوب الضحية، ليمنحها الغرب غطاء أخلاقيًا زائفًا. ومن هنا، حين تطالب دولة مسلمة بحق الردع أو حتى الاكتفاء الذاتي في مجال السلاح، تُفتح دفاتر العقوبات، وتُقلب الطاولات، وتُستدعى الأخلاق لا للدفاع عن الإنسان بل لحماية موازين القوى. وبالتالي، فإن العدالة في هذا العالم ليست سوى أداة تُطوَّع حسب مصلحة الأقوياء. ومن ثمّ، يُطلب منا نحن المسلمين أن نبتلع الإهانة، ونصمت مقابل البترول، ونقايض كرامتنا بأمن هش سرعان ما يتبخر عند أول أزمة. لقد أصبحت فلسطين، في أعين القوى الدولية، مجرد نشرة أخبار رتيبة، لا قضية وجودية، فنعدّ شهداءها كما نعدّ الساعات، ونذرف الدموع في المنابر، ثم نغط في النوم العميق. وكلما ازداد جمودنا، ازداد وهم “السلام” ترسّخًا، رغم أن الواقع لا يقدّم لنا إلا العلقم، ويُخدّرنا بشعارات جوفاء. إن تدمير غزة، وقطع أبسط شروط الحياة عنها، لم يُحرّك ضمير العالم، لأن القاتل معروف والمقتول معروف، ولأن المعادلة لا تتغيّر إلا إذا تغيّر ميزان القوة، وهو ما يدفعنا إلى طرح السؤال الجوهري: هل العالم أعمى، أم أنه يرى ولا يريد أن يتكلم؟ وما يزيد الطين بلّة، أن ما حدث لفلسطين ليس معزولًا، بل هو امتداد لسلسلة طويلة من الجرائم التي طالت العراق وسوريا وليبيا واليمن، تحت شعارات “الحرية” أو “الشرعية”، في حين أن الجوهر كان دومًا: إعادة تفكيك ما تبقّى من العالم الإسلامي. وبما أن إسرائيل هي القاعدة المتقدمة لهذا المشروع، فإن دعم الغرب لها ليس محبة، بل شراكة استراتيجية؛ لأنها تُمارس بالوكالة ما يخجل الغرب من فعله مباشرة، ولأنها تمثل “مرآته الأخلاقية” المشروخة. وبالتالي، فإسرائيل ليست فقط دولة احتلال، بل منظومة عنصرية محمية بمصالح دولية، ترعاها مؤسسات الإعلام والسياسة والمال، وتُقصي وتُشوّه كل من يجرؤ على انتقادها. أما نحن، فأمتنا تُثقلها الخطب الفارغة، وتُخدَّر شعوبها بثقافة التفاهة، ويتحول بعض علمائها إلى وعّاظ من ورق، مما يطرح تساؤلًا وجوديًا: كيف تسقط أمة بهذا العمق الحضاري في مثل هذا السبات؟ أين فريضة الوعي؟ أين الغيرة على الدم والعرض؟ بل أين الواجب الأخلاقي تجاه المظلوم؟ إن القضية الفلسطينية ليست مجرد تراب مُحتل، بل مرآة لوعينا الجماعي، وكلما تدهورت حالها، انكشفت هشاشتنا الداخلية. فالخسارة ليست فقط في الأرض، بل في المعنى. لقد ضاعت البوصلة، ولم نعد نعرف من نحن، ولا ماذا نريد، ولا إلى أين نسير. والمشكلة لم تعد محصورة في امتلاك السلاح، بل في فقدان الكرامة، لأن من لا يدافع عن كرامته لا يستحق الحرية، ومن لا يغضب لغزة فقد ماتت فيه إنسانيته. ولأننا نعيش في عالم يُمنَح فيه القاتل جائزة نوبل للسلام، وتُوصم المقاومة بالإرهاب، ويُحاسب الضحية على صوته لا على جراحه، فإننا بحاجة ماسّة إلى إعادة صياغة وعي الأمة، لا بالخطابة، بل بالفعل. ففلسطين لم تكن يومًا حدودًا، بل معيارًا للوجود، والكرامة لا تُشترى، بل تُنتزع، والعدو، مهما تجمّل، يظل عدوًا. لقد كانت إسرائيل، ولا تزال، مشروع تفتيت لا سلام، ورأس حربة في جسد الأمة. وهذه اللحظة التي نعيشها ليست سياسية فقط، بل وجودية؛ فإما أن نستفيق ونتوحد، أو نندثر في الشتات. والتاريخ، كما علّمنا، لا يرحم الغافلين، ولا ينتظر الكسالى، ولا يصبر طويلًا على المتفرجين. فآن لنا اذن أن ننهض، لا بردود الأفعال، بل بمشروع متكامل يعيد إلينا الوعي، ويستعيد للأمة معناها، ويُخرجها من هوة الخضوع إلى أفق الشهادة والكرامة.