رواية ” النسر” ليوسف خليل السباعي

قراءتان على سبيل الافتراض

القراءة الأولى:
هذه الرواية حداثية جدا جدا . ولا مقدرات لي ولا أدوات لفك ألغازها أو لتفكيك ميكانيزماتها واستنباط معانيها. فهي تنغل بالرموز، وتعتمد لغة معتمة على بساطتها. وشخصياتها تنتقل في فضاءات المقهى كما في الشاطئ بمدينة ” مرتيل” على ما يبدو، في زمن صيف قائظ. تعتمد على حوارات مرتادي المقهى ومنهم “الشيخ عبد الله” و”عبد الرحيم ” وتلامس حياة”عبد القاهر”و”كوثر” وكلبها .
تبتدئ بلقاء الشيخ وعبد الرحيم حول الطريق (رمز مفتوح على كل تأويل ) الذي ينبغي أن يسلكه وتنتهي بانتحار عبد الرحيم ، مرورا بالمسخ الذي طال الشيخ المتحول إلى نسر (رمز ثان مشحون ) يظهر ويختفي (كثعلب زفزاف) . ثم تنتهي الرواية التي يمكن شربها في جرعة واحدة مفتوحة على ألف سؤال وسؤال ….
أمام عجزي الكبير في البحث عن معنى ما، فكرت في الاستنجاد ببعض معارفي لعلهم يسعفونني ببعض ذرات المعنى المبحوث عنه. استعنت بالفضاء الأزرق فلم أغنم إلا ببضع شذرات، مؤكدة حدسي بأننا أمام نوع جديد من الإبداع يكسر التقاليد والأعراف النمطية، اشتق لنفسه نموذجا جديدا
يمزج كل الأصناف، ويمتح من الغرائبي والفانطاستيكي وتستباح فيه اللغة، تنتهك حرمتها باستعمال اللفظ الشائع (أو أقل) وهذا النوع من الكتابات لا يجب التطاول عليه والغوص فيه، وأعترف أني أحتاج لسنوات ضوئية لأتدارك الأمر وألحق بالركب وأفهم. ولم يبق أمامي إلا أن ألجأ إلى مخزوني الأدبي والثقافي (والنقدي حتى) وهو موضوع ما سأصلت عليه مضمون القراءة التالية .
القراءة الثانية
هناك شبه إجماع لدى أهل الأدب ( القدامى والمحدثون )، مفاده أن الرواية بناء وفكرة وأسلوب (باختصار شديد ) .
فاذا كان البناء هو تجهيز للأدوات التي يستعملها الكاتب لإنضاج التصميم والهندسة اللازمين، لوضع تصور عام للأزمنة والأمكنة التي تؤطر العمل وتتيح للشخصيات أن تتحرك وتنتقل كيفما تشاء … والبناء -أيضا – هو التحكم في الحبكة وضبط الذروة وتدبير الأزمة وخلق لحظات التوتر والتشويق وإبقاء الباب مفتوحا على كل التأويلات والفرضيات ….
فإن الفكرة يمكن إيجازها في الرسائل التي يسعى الكاتب إلى إيصالها للقراء وتقاسمها معهم . وقد تمتح – الفكرة – من روافد فلسفية وغيرها ، وقد تكون قضية عادلة تشغل الرأي العام وتنتصر للمظلومين والمهمشين … وقد تلقى الفكرة استحسان القراء وقبولهم كما تلقى معارضة واختلافا عندهم ، وهذا كله وارد في عالم الفكر … والكل يتوقف على القدرات الإقناعية للكاتب ومهاراته الدفاعية واللغة التي يستعملها أخيرا، حيث المبتدأ والخبر فتشد القارئ وتأسره بجماليتها وتراكيبها وأساليبها كما تنفره.
اللغة الجميلة الراقية تسر الأذن وتبقي القارئ مشدودا ومنغمسا في المتن الروائي متماهيا مع الحكي مترقبا معرفة البقية المتبقية ….
والنص الذي يحمل عنوان ” النسر” ضرب بهذه الركائز الثلاث على الأقل عرض الحائط. البناء مفكك ومتقطع ( ليس دفاعا عن الدالة الخطية في الرواية) فهل يمكن اعتبار انتحار عبد الرحيم ذروة وتوترا في النص؟ وهل يمكن اعتبار وفاة عبد الرحيم حدثا؟ وهل اختفاء هيلين أو كوثر يستحق كل الاهتمام ؟ وهل باح المسخ بكل أسراره (في رواية كافكا، على الأقل، فإن كريكور قد سحقته الآلة الرهيبة للنظام الشمولي السائد وعرته من آدميته) ، في حين يمكن اعتبار المسخ الذي طال الشيخ مجرد قفزة في الهواء.
أما عن الفكرة، فالمقهى وثرثرة المرتادين …سرقة بنك … اغتناء مشبوه … انتحار … علاقة مبهمة بجميلة شقراء وكلبها … فكلها – في نظري – أفكار سطحية ولا تحمل في ثناياها أي جديد. وليس هناك ما يثير الاستفزاز (لا إدانة صريحة لواقع اجتماعي بئيس، ولا انتصار لقضية عادلة، ولا عمق فلسفي يستنار به)
اما اللغة فقد كانت هي الطامة الكبرى في هذا النص …فهي مهلهلة جدا جدا لكن اذا كان هذا الإختيار مقصودا بدعوى التمرد و”الثورة” على ما هو دارج ونحت أخاديد لغة بديلة، فليذهب التمرد للجحيم مادامت اللغة قد ذبحت ذبحا في ذاك “النسر”. إضافة إلى هذا فإن النص يعج بالأخطاء (غير المطبعية طبعا) . أزيد من 38 خطأ إملائيا ونحويا كان من الممكن تلافيها بقليل من التركيز والمراجعة قبل حمل المطبوع إلى الطبع .
أخيرا ، أملي أن يتسع صدر الكاتب “يوسف السباعي” للملاحظات المشار إليها أعلاه خدمة لتطوير النقد الأدبي البناء والنقاش الراقي. فالكاتب والناقد كما يقول الزميل “خالد البقالي القاسمي” لا يتنازعان أية ريادة أو زعامة تذكر …هما الإثنان قابعان يتأملان اللوحة من الداخل أو من الخارج سيان ….المهم هو التعدد والاختلاف وهذا لا يفسد للود قضية .
ملحوظة : كتبت هذه الورقة قبل يومين وانتظرت حتى أشاهد التقديم وأضع ورقتي على المحك، وها أنا أنشرها دون حذف أو زيادة، بهدف توسيع آفاق النقاشات البناءة.
12 أبريل 2025
العزيز الحسين
تطوان . المغرب