الجسد بوصفه نصًا شعريًا خلاقًا…

الجسد بوصفه نصًا شعريًا خلاقًا…

نصوص الشاعرة ثريا بن الشيخ.. نموذجًا

             حميد عقبي

لا تكتب الشاعرة المغربية ثريا بن الشيخ القصيدة كما لو أنها مجرّد خطابٍ عاطفيّ أو تفريغٍ وجدانيّ؛ لكنها تمارس فعل الكتابة بوصفه طقسًا روحيًّا وجسديًّا معًا، تُذيب الحواس في دواخل المعاني، كأنها تستدعي اللغة من عمق اللحم والدم، تبتعدُ من سطح الكلمات. في نصها الشعري “لك وحدك“، من ديوانها (ويحك من صمت المحراب)، تظهر ملامح تجربةٍ بديعة تتجاوز الانفعال الشعري التقليدي لتقارب عتبات التصوّف، دون أن تتخلى عن الجذر الحسيّ للأنوثة المتوهّجة العطرة التي تسكن لغتها.

هنا، لا يصبح الجسد موضوعًا للحب، بل مصدره، لغته، وأداته؛ فهو الكيان الذي ينبض بالحروف، وتنسكب المشاعر في محبرته، وتفوح نسائم القصيدة من خلال أوصاله، أضلاعه، ظلّه، وشَعره. يحضر الحبيب لا كاسمٍ أو ملامح، بل كطيفٍ يُحلّق ويتحرّك، ويتمركز داخل هذا الجسد، يتردّد صداه في كلّ الفراغات، ويُستدعى عبر الحنين، والهمس، والصحوة الخاشعة.

‫الشاعرة والباحثة المغربية ثريا بن الشيخ: الحب شريعة لا ذريعة ...‬‎
                  ثريا بن الشيخ

ثريا بن الشيخ تُعيد تعريف العلاقة بين الذات واللغة، بين العاشقة والكلمة، عبر انزياحاتٍ شعريّة تجعل من كلّ ما هو داخليّ مادّةً شعريّة، وتخلق من كلّ ما هو صامتٍ مصدرًا للصوت. تنسج نصًّا يضجّ بالشغف، ثم يتصاعد في همسٍ رقيقٍ حتى يبلغ ذروةً شعوريّة تتجلّى في عبارة (لنشربْ معًا نخبَ الجنون)، التي تُشكّل إعلانًا شعريًّا بالتحرّر والانصهار الكامل في العشق.

وهكذا، يغدو الشعر عند ثريا مساحةً جسديّةً ووجوديّة، تكتبه المرأة بوصفها كائنًا كامل القداسة، يُعيد صياغة ذاته من خلال المحبّة، واللغة، والتوهّج الصامت الذي يحترق من الداخل.

النص: من ديوان: ويحك من صمت المحراب

لَكَ وَحْدَكَ ..

مَا بَالُهُ الشَّوْقُ

يَنسَكِبُ لَهيبًا شَفّافًا

يَتبعثَرُ في مِحْبرتي

فَتَنْبِضُ عِشقًا

يَتَبدّدُ نورًا

تَنْثُرُهُ أَوْصالي

بَيْنَ عقلي وظِلّي

وشَعري وأضْلُعي

إنْ غَفَوتُ صَحا الهَمْسُ

رَخيمًا يَتَردّدُ صَداهُ

في كُلِّ فَراغاتي

يُناديكَ

يُناجيكَ

لا تُعْلِنْ طُقوسَ الاِشْتِعالِ

حَتّى آتيكَ

إنْ صَحوتُ خاشعةً

أَثْمَلَني الحَنينُ

لِحَرْفٍ يَخْرُجُ

مِنْ صُلْبيَ الحَزينِ

تَسْكُنُهُ أَنْتَ

وَحْدَكَ

لِنَشْرَبْ مَعًا نَخْبَ

الجُنووون ..

البُعد الصوفيّ والروحانيّ: من الكتابة إلى التجلّي

تحت السطح العاطفيّ الظاهر في هذا النص، نشعر أن ثمّة أبعادًا صوفيّة وروحانيّة عميقة، تتمرّد وتتجاوز الخطاب الغزليّ التقليديّ، كأننا مع محاكاةٍ تشبه تجارب التوحّد العرفانيّ والوجد الروحيّ التي عرفها شعراء الصوفيّة النقيّة. فالحب هنا لا يتجسّد في صورة معشوقٍ ملموس، بل خُلِق كطيفٍ يسكن الجسد، ويتسلّل إلى المحبرة، ويهتف في الفراغات، وكأنه حضورٌ غيبيّ يُضيء الباطن: الروح والدواخل، لا الخارج والظاهر.

نقرأ:

(إن غفوتُ صحا الهمس

رخيماً يتردد صداه

في كل فراغاتي)

هذه الصورة قريبة من تجارب الفناء الصوفي، حيث لا يندثر الوعي، بل يتحوّل؛ إذ في لحظة الغياب الجسديّ، تصحو الذات على حضورٍ آخر، هو “الهمس”، الصوت الخفيّ الذي يسكن القلب لا الأذن. وتردّده في “الفراغات” يُذكّرنا بمفهوم السُّكر والوله الإلهيّ الساحر، أو الوجد العميق الذي يتخلّل الكائن ويملأه بالجمال.

كما أن العبارة المفصليّة:

(لا تُعلن طقوس الاشتعال حتى آتيك)

تشي بأبعاد طقسيّة محضة، تتجاوز الخطاب إلى الوصل والحضور الروحيّ الكامل. نلمس وجود نوع من “الاحتراق المقدّس”، تنتظره الشاعرة، كونها تسعى لأن تتجلّى فيه وتكتمل.

حتى ختام النص:

(لنشرب معًا نخب الجنون)

هنا المجاز العاطفيّ يأخذ أيضًا بُعدًا صوفيًّا، يُحاكي “كأس الخمر الروحيّ” لدى الحلاج وابن الفارض. إنه نخب التمازج والانصهار الكامل الذي لا رجعة فيه، بين العاشقة والمعشوق، بين الجسد والنور، بين اللغة والصمت.

الجسد بوصفه نصًّا شعريًّا

في نص لك وحدك، يتحوّل الجسد إلى فضاء شعريّ خلاّق ودلاليّ، يُنتج الشعر كما تُنتجه المحبرة. لا تستعيره ثريا بن الشيخ كرمزٍ خارجيّ أو بطرقٍ فخمةٍ مصطنعة، بل تُبدع في جعله منبع اللغة ومجال تردّدها.

(تنثره أوصالي

بين عقلي وظلي

وشعري وأضلعي)

في هذا المقطع، تُوزَّع الكتابة بين أعضاء الجسد، وكأن الحواس والعقل والشَّعر والضلوع، كلّها تكتب معًا. هنا يتجاوز الجسد كونه مجرّد وعاءٍ للرغبة، وتُنزّهه الشاعرة عن المادّة دون أن تُلغي اللذّة؛ ففي هذا النص، تخلق منه ما يشبه فنّ كيمياء ولادة القصيدة.

تكرار الصور الجسديّة:

(الظل، الصُلب، المحبرة، الشعر، الأوصال)، يكشف عن رغبة في امتلاك الجسد شعريًّا، لا بوصفه موضوعًا أنثويًّا مستهلكًا يفنى ويندثر، ولكن ككيانٍ شعوريّ، ووسيلة تفاعلٍ معرفيّ مع العالم.

تكتب الشاعرة بجسدها، لا عنه أو عن رغباتٍ صغيرة، وتخلق منه ميراثًا نسويًّا حديثًا، تسعى فيه المرأة لأن تكون ذاتًا فاعلة، لا مفعولًا به شعريًّا.

الجسد يحترق من الشوق ويُشعّ نورًا ساحرًا، يُنتج الحنين، ويجلب الحبيب من الغياب، كأن الآخر لا يوجد خارجه، بل في ارتعاشاته الشعريّة.

موسيقى الهمس واحتراق المعنى

يمتاز هذا النص من ديوان ويحك من صمت المحراب”

بثنائيّة بديعة من الهمس الشعريّ والانفجار الداخليّ. فموسيقاه لا تُولي الشاعرة الأهميّة الكبرى للإيقاع الظاهريّ، لكننا نُحسّ به في توتّر العبارات، في التردّد الناعم السلس للأفعال، وفي ارتعاشات الحروف الهمسيّة: (صحا الهمس، رخيماً، يتردد، فراغاتي). هذا التكوين الصوتيّ الداخليّ يمنح النصّ أناقةً ونغمةً صوفيّة خافتة، تُوازي تلك التجربة الروحيّة التي تُحرّك النصّ من بدايته حتى ذروته.

الهمس أشبه بالوسيط التواصليّ بين الذات ومحبوبها الغائب/الحاضر، بين الكاتبة وجسدها، وبين اللغة وصمتها. إننا مع أصداءٍ روحيّة تبحث عن ذروة الاكتمال، فتوقظ الصوت من داخل الفراغ، والسبات، والعدم. يتحوّل الشوق إلى نداءٍ شجاع.

إذن، في الختام، يمكننا أن نستنتج أنّه لا يُمكننا فصل جسد النصّ عن موسيقاه؛ فالإيقاع هنا ينبع من الارتجاف الذي يزلزل الداخل، ومن تقاطعات الحبّ والغياب، من الشعر حين يُكتب بكيمياء الروح، لا بالعقل وحده أو بالنظريات والقواعد اللغويّة والجماليّة. وهكذا، تُجسّد ثريا بن الشيخ نموذجًا لكتابةٍ أنثويّة جسديّة خلاقة، لا تخجل من الحنين، ولا تخشى التوهّج.

نحن مع شاعرة تكتب بروحها كتابة تسعى إلى خلق طقوس وجوديّة شعريّة خلاقة، تحتفي فيها اللغة بالجسد، ويتحوّل فيها العشق إلى مسارٍ للمعرفة والخلاص. نصوصها تدعونا لأن نُصغي للهمس، لأن نكتب بجسدنا، ونُحبّ كأننا نكتب…

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *