قصة قصيرة: من سلسلة صناديق نساء

قصة قصيرة: من سلسلة صناديق نساء

صندوق العروس

بقلم: فدوى كدور

لم يكن في جنازتها بكاء، بل صمتٌ يتيم، كأنما يعتذر عن الحزن.
الجارات جئن بأقدام معتادة، كما يأتين للغسيل، أو كأنهن يسددن دين حضورٍ مؤجل.
الرجال تبادلوا المواساة بسرعة من يخشى أن يتأخر عن النسيان.
أما الأبناء، فانشغلوا بتوزيع إرثها كما يُفرَغ بيت من الغبار.
لكنها – الحفيدة – وحدها لم تقتنع أن الجدة ماتت؛ فالنساء لا يمتن، إنهن يختبئن… في صناديق.
تسللت إلى الغرفة التي كانت تُغلق بالمفتاح أكثر مما تُفتح بالقلب.
وهناك… تحت السرير الحديدي، صندوق باهت بلونه الخشبي، يغطيه وشاح صوفي مخطط بالأبيض والأحمر. كان يُقال إنه “جهاز العروس”
لكن لا أحد قال: أية عروس؟ وأي جهاز؟ ولماذا ؟ ومتى؟.
رفعت الغطاء كمن يفتح تابوتَ ذاكرة.
فاجأها عطرٌ غريب… عطر لم يكن في قارورات، بل مزيج يابس من العنبر وخيانة الأمل،
عطر يشبه حكاية قُطعت نصفها ودُفن ما تبقى في صدر امرأة.
في الأعلى، فستان زفاف أصفر من جذلان الزمن، باهتٌ كأنه اعتذر عن الفرح منذ عقود. كان كشمسٍ غاربة تتدلى منها خيوط مذهبة بهتت، يشبه ابتسامة عروس قُدّمت لجلادها.
تحت الفستان، دفتر قديم مربوط بخيط أحمر، كأنه ما زال ينتظر وعدًا لم يأتِ. وعنوانه، محفور بخطٍ غائر كأنما نُقش بأسنان الألم:
“وصايا العروس التي لم تُزفّ.”
الصفحة الأولى تقول:
“كنت سأكون عروسًا، لولا أنني كنتُ إنسانة. لم أُرزق بفرصة الحب،
بل رُزقت بلعنة لا أعرف فيها العريس.”
ثم تتالت الوصايا كالسكاكين:
الوصية الأولى: “إن قلنَ لكِ إن الزواج عبادة، فاسألي: لِمَن تُرفع هذه الصلاة؟”
الثانية: “إذا همسوا أن الصمت حكمة،
فافْرُغي فمكِ من الطباشير، وتكلّمي.”
الثالثة: “لا تصدّقي أن الحب يأتي بعد الزواج؛ فالحب لا يحبّ الترتيب الإداري.”
الرابعة: “حين يقولون إن الطاعة فضيلة،
اسألي: طاعة مَن؟ للزوج؟ أم للعُرف؟ أم للقبيلة التي لا تُخطئ؟”

الخامسة: “حين ترتدين الأبيض، تذكّري:
الأبيض لا يمحو السواد الذي يأتي بعده، إنه فقط لونٌ للتمويه.”
صفحة بعد أخرى، كانت الحفيدة تكتشف أن جدتها لم تكن تلك العجوز الطيبة الصامتة، التي تخيط القفاطن وتُكثر من الأدعية، بل امرأة حاولت الهرب ليلة عرسها… لكنهم أعادوها كما تُعاد الخراف الشاردة إلى الذبح، كـ”بضاعة مسترجعة”، تحت تهديد العار، وتلك الطعنة الأبدية المسماة: “ماشي بنت الناس.”
وجدت بين الصفحات قصيدةً كُتبت بدموع الحبر: “أنا امرأة معلّقة على شماعة العادات، عروسة في صورة، وجثة في مرآة.” وفي صفحة شبه ممزقة: “كنتُ أتدرّب على الموت كل ليلة، حتى نسيتُ كيف أعيش.”فجاة، شعرت الحفيدة أن الغرفة تهتز، وأن الفستان يتحرك ويتنفس ككائنٍ حي، وأن الضوء المتسلل من النافذة يتكسر على الخيوط كأنما يرتجف جوفا، ثم… رأتها.
الجدة. واقفة خلف الفستان، تبتسم بشحوب القمر الأخير، وترفع إصبعها إلى فمها، لا لتأمر بالصمت، بل لتقول:
“تحدّثي… فأنا لم أفعل.”
“تكلّمي… فقد صمتُّ دهرًا.”
في اليوم الأربعين، أخرجت الحفيدة الفستان، وعلّقته في الهواء كمن يعلّق جثمان المعنى. تجمهر الجيران، قال بعضهم إنها جُنّت، ووقفت نساء الحي مبهورات بالصمت المجنون.
قالت لهنّ: “هذا الفستان لم يُلبَس…
لأنه رفض أن يكسو جسدًا لا يريد. وكل فستان يُفرض، هو مقصلة من حرير… هو كفنٌ أبيض بحواف.”
ثم أحرقت الصندوق. لكن الدفتر…احتفظت به. وفي الصفحة الأخيرة كتبت:
“بدأت أكتب،
وكلّ حرف،
ينزع عني ثوبًا لم ألبسه.”

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *