حين يتحول الشاعر الى لغة واللغة الى كون متخيل

… في البومات “آدم الثاني” لعلوان الجيلاني

يبدأ ديوان “ألبومات آدم الثاني” للشاعر والأديب اليمني علوان مهدي الجيلاني من عنوانه الذي يحمل إيحاءات عميقة. فاسم “آدم” يرمز إلى البدايات، في حين يشير “الثاني” إلى تجدد الإنسان عبر العصور. هنا، لا يقدم الجيلاني نصوصاً شعرية فحسب، بل يحفر في طبقات الوجود ليبحث عن دور الشعر في تشكيل الهوية، ويستكشف اللغة كجسر يربط بين الماضي والمستقبل.
يمثل هذا الديوان الكتاب الثامن والعشرين في مسيرة الجيلاني الأدبية، ويحتوي على 104 صفحات موزعة على ثلاثة محاور: شعراء، وشعر، ونصوص. وقد صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية في أبريل من هذا العام 2025.
المحور الأول: “الشعراء”.. حراس اللغة وصنّاع المعنى
يبدأ الجيلاني رحلته في محور “شعراء”، مستعرضاً سؤالاً جوهرياً: هل يخلق الشعراء اللغة أم تخلقهم؟
من خلال رؤية شعرية فلسفية، يؤكد أن الشعر ليس مجرد كلمات منمقة، بل هو “توأم الوجود الإنساني“. منذ فجر التاريخ، يرافق الشعر الإنسان، معبراً عن دهشته ومجسدًا لأحاسيسه. الشعراء هنا ليسوا مجرد ناقلين للكلمات، بل هم “اللغة ذاتها“، يملؤون الكلمات الباهتة بالحياة، ويحوّلونها إلى أنغام ساحرة.
يستعير الجيلاني صورة كونية ليعبر عن فكرته: “الشعراء يراقبون النجوم، لكنهم لا ينشغلون بالتقويم، بل بما وراءه من جماليات”. فالشاعر لا يقتصر على وصف العالم، بل يخلق عالماً موازياً، حيث تتحول الكلمات إلى كواكب مضيئة، وتصبح القصيدة فضاءً للتأمل والبحث عن المعنى الضائع.
بهذه الطريقة، يعيد الجيلاني تشكيل مفهوم الشعراء كحراس للغة وصنّاع للمعاني، ليظهر أن دورهم يتجاوز الحدود التقليدية، ويعكس عمق التجربة الإنسانية.
المحور الثاني: “الشعر”.. بين الميتافيزيقا وعصر الذكاء الاصطناعي

في محور “شعر“، ينطلق الجيلاني من فكرة “الميتاشعر” (الشعر الذي يكتب عن الشعر)، ليرسم علاقةً جديدةً بين الإنسان واللغة في عصر التكنولوجيا.
يطرح سؤالاً مقلقاً: هل يمكن للشعر أن يبقى حياً في زمنٍ تُهيمن عليه الآلة؟ يجيب من خلال نصه بأن الشعر “كائنٌ حي“، يتنفس مع كل عصر، ويتجدد كـ”آدم الثاني” الذي يولد من جديد في كل حقبة. فكما كان الشعر لغةَ الأسطورة والكهانة في الماضي، فهو اليوم يحاور الذكاء الاصطناعي، ويظل الشعلة التي تنير ظلام اللا معنى.
يستكشف الجيلاني علاقة الإنسان بالوجود، حيث يتحدث عن تحولات بسيطة تكتسب دلالات عميقة. يتضح أنه يستخدم اللغة كأداة لإضفاء المعنى على كل شيء، مُبرزًا كيف أن الكلمات يمكن أن تعيد تشكيل الواقع. هنا، يبدو أن الوجود نفسه يتداخل مع الشعر، فيصبح كل حدث بسيط مُحملاً بمعانٍ وجودية تتجاوز الظاهر.
يبرز أيضًا حساسية الشاعر تجاه الوجود والتجربة الإنسانية. يُظهر أن الزوال ليس مجرد فكرة، بل هو شعور يرافق كل لحظة من لحظات الحياة. تأتي الصورة الشعرية كغلافٍ يحيط بالمعاني العميقة، مُعبرة عن التوتر بين الأناقة والعبثية، وبين الهشاشة والقوة. إن هذا التباين يُحفز القارئ على التفكير في طبيعة وجوده وما يكتنفه من تناقضات.
يؤمن بأن الشعر “ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية“. في عالمٍ تتسارع فيه التحولات، تبقى القصيدة”مساحةً للمقاومة”، مقاومة النسيان، مقاومة التشيؤ، ومقاومة انفصال الإنسان عن جوهره.
المحور الثالث: “نصوص” تجارب إنسانية متداخلة
في المحور الثالث، تتجلى مشاعر عميقة تعبر عن تجارب إنسانية متداخلة. يبدأ النص الأول كأنه ممر طويل مغطى بغبار الطلع، يستحضر رائحة “البردقوش”، حيث تشتعل الكلمات برقة كأنها شمعة، لتكشف عن ذكريات لا ترغب في نسيانها.
في النص الثاني، تتصارع أفكار القلق كما لو كانت خفافيش في المخيلة، مما يعكس شعور العزلة والتشتت. تتداخل حيوات مختلفة في النص الثالث، حيث تُبرز الفوضى والترتيب هشاشة اللحظات.
أما في النص الرابع، فتنعكس أزمة الانفجارات العصبية على تجربة التوتر والفراغ، بينما ينضح النص الخامس بدفء وسحر، لكن خلف هذا الدفء يكمن جلد سميك من الأسرار، مما يعكس صراعات داخلية معقدة.
تتراكم هذه النصوص لتشكل تجربة إنسانية غنية، مفعمة بالمشاعر المتناقضة، حيث تعكس كل كلمة صراعًا بين الألم والأمل. نستنتج من هذا التنوع الغني أن الجيلاني لا يكتفي بتصوير الوجود، بل يسعى لفهم تعقيداته، مما يجعل كل نص شاهدًا على تجربة إنسانية عميقة.
اللغة والأسلوب في شعر الجيلاني
يقدم الجيلاني شعرًا “مشحونًا بالانزياحات“، يرفض المألوف وينزع نحو خلق عالم شعري موازٍ. إنها لغة “تستحضر الغياب وتجسد المُعتم”، حيث تتداخل المفردات القديمة مع المصطلحات الحديثة، كأنما يُصارع الزمن بسلاح الكلمة. نجد في نصوصه عبارات مثل:
اللغات كواكب جرداء باهتة، نملؤها نحن بالدماء
هنا، لا تكتفي اللغة بوظيفتها التواصلية، بل تصبح فعل خلق جديد، كأن الشاعر يعيد تشكيل الكون من خلال المفردات. يمتزج في أسلوبه التجريد الفلسفي مع الصورة الشعرية الحية، مما يخلق نسيجًا نصيًا غنيًا بالدلالات. فهو لا يكتب قصيدة تقليدية، بل يكتب تأملات موزعة على شكل كلمات، حيث يتحول كل سطر إلى فكرة قابلة للتوسع.
يستخدم المفارقة كأداة أساسية، فيجمع بين المتناقضات:
القديم والجديد “آدم والذكاء الاصطناعي“.
المادي والميتافيزيقي “الكواكب واللغة المجهولة“.
الواقعي والأسطوري “الشعراء والأنبياء“.
يبرز ما يُعرف بالميتاشعر “الشعر الذي يكتب عن الشعر“، حيث يناقش الجيلاني عملية الخلق الشعري ذاتها. فهو لا يقدم قصيدة عن الحب أو الطبيعة، بل يقدم قصيدة عن كيفية ولادة القصيدة، كما في قوله:
نحن لا نبحث عن اللغة، نحن اللغة التي تبحث عن نفسها.
هذا الأسلوب يضع القارئ أمام مرآة مزدوجة، ينظر إلى النص، وفي الوقت نفسه، ينظر إلى كيفية تشكله.
لا يكتفي الجيلاني بانزياحات اللغة، بل يخلق انزياحات وجودية، حيث يطرح أسئلة مثل:
ماذا لو كان الشعراء هم من يخلقون المعنى وليسوا مجرد ناقلين له؟
ماذا لو كانت الكلمات أقدم من البشر أنفسهم؟
هنا، يصبح الأسلوب متراصًا بالاستفهامات البلاغية، وكأنه يدعو القارئ إلى المشاركة في صنع المعنى، لا إلى استهلاكه.
يحفر في أعماق الوجود بلغة الضوء والظل
علوان مهدي الجيلاني شاعر لا يشبه سوى نفسه، حاملاً مشعلًا من الأسئلة التي تلامس أغوار الروح. يغوص في دهاليز اللغة كما يغوص المنقب عن الجواهر في باطن الأرض. إنه “موسوعة تمشي على قدمين”، فهو لا يكتب ليرضي أحدًا. كلماته تنبع من وجع حقيقي، ومن فرح حقيقي، ومن حيرة إنسانية لا تنتهي. في ديوانه “ألبومات آدم الثاني”، لا يتحدث عن الشعر، بل “يتنفس شعرًا”، وكأنه يكتب بدم القلب لا بحبر القلم.
يجلس الجيلاني على “كرسي بين العصور“، فقدماه في تراب الماضي، وعيناه في سحاب المستقبل. هو ابن التراث اليمني العريق.
* كاتب وباحث من اليمن