صراع الوجود وسؤال المعنى..

صراع الوجود وسؤال المعنى..

… قراءة فنية في قصيدة  للشاعر رحيم الغرباوي

     * د. آمال بو حرب

                     قصيدة: “ما بال دهرك”

يُجسِّد صراع الإنسان مع القدر أحد أعمق الإشكاليات الفلسفية التي شغلت الفكر البشري منذ القدم. ففي الميثولوجيا اليونانية، نجد “أوديب” الذي يحاول الهروب من نبوءته، ليكتشف أن محاولته اليائسة هي ما قاده إلى تحقيقها، فيصبح نموذجاً للصراع التراجيدي بين الإرادة الحرة والقدر المحتوم (سوفوكليس، “أوديب الملك”) أما في الفلسفة الوجودية، فيرى كامو أن مواجهة العبث تكمن في التمرد المستمر، إذ يقول في “أسطورة سيزيف”: “يجب أن نتخيل سيزيف سعيداً”، لأن قبوله لعقوبة دحرجة الصخرة هو انتصارٌ على اليأس. وفي المقابل، يرفض نيتشه فكرة القدر السلبية، داعياً إلى “حب القدر” كتأكيد للحياة رغم قسوتها. هذه الثنائية تتجلى في قصيدة “ما بال دهركللدكتور رحيم الغرباوي، حيث يُصوَّر الدهر كقوة عابثة لا تُعقل “ولا يسلاه إلا النافق الخرف”وكأن الشاعر يطرح سؤال كامو: كيف نعيش في عالمٍ لا معنى له؟

الإجابة هنا تأتي مُحمَّلةً بالسخرية المُرّة: “الصبر جميلٌ وبعض الصبر منقصة“، فالصبر يتحول إلى ضرب من العبث إذا كان بلا حكمة، تماماً كسيزيف الذي يُدرك أن صخره لن يصل إلى القمة أبداً. لكن القصيدة تذهب أبعد من ذلك، فتكشف عن حيرة الشعراء أمام الوجود، كما قال هايدجر: “الشعر هو اللغة التي تُنقذنا من ضجيج العالم”، لكنها هنا تصبح لغةً للجرح الذي لا يندمل. المضمون والفكرة المركزية: تعيد القصيدة صياغة الموروث العربي في صراع الإنسان مع الدهر عبر رؤية فنية وفلسفية متعددة الطبقات. فمن ناحية، تستحضر التصور الجاهلي للزمن القاسي (كما في شعراء المعلقات)، لكنها تطوره عبر منظور وجودي معاصر يجعل من الدهر كائناً شريراً (“لا يسلاه إلا النافق الخرف”) يرمز إلى عبثية الوجود. ومن ناحية أخرى، تتحول القصيدة إلى مرآة نقدية للمجتمع من خلال تصويرها “النافق الخرف” كتجسيد للانتهازية والزيف الاجتماعي الذي يزدهر في عصور الانهيار، في إشارة إلى ما أسماه نيتشه بـ”أخلاق العبيد”. أما على المستوى الفلسفي، فتلامس القصيدة أعماق المأساة الوجودية عندما تقدم الصبر كفضيلة متناقضة (“الصبر جميلٌ وبعض الصبر منقصة”)، في صورة تذكرنا بتمرد سيزيف عند كامو ضد مصيره العبثي. هذه الأبعاد المتداخلة -التراثية والاجتماعية والوجودية- تخلق نصاً شعرياً مكثفاً يعيد تشكيل الموروث عبر رؤية معاصرة، ليجعل من الصراع مع الدهر استعارةً للوضع الإنساني المأزوم في العصر الحديث.
التحليل البنائي: يتمحور البناء الدرامي للقصيدة حول حوار تراجيدي مع الدهر، يبدأ باستفهام مأسوي يستنكر دوام قسوة الزمن “ما بال دهرك لا يبلى”، ثم يتصاعد ليصف وحشية الدهر الذي لا يرضيه سوى النفاق والضعف “ولا يسلاه إلا النافق الخرف”، لينتهي باستسلام مرير لمشيئة الأقدار “أبحرْ فقد شاءت الأقدار”. ويعزز الشاعر هذا الإحساس بالعجز من خلال تكرار أدوات النفي والاستفهام “ما بال” و”ليس” التي تؤكد عجز الإنسان أمام سطوة الزمن. كما تبرز المفارقة المرة في قول الشاعر “الصبر جميلٌ وبعض الصبر منقصةٌ”، حيث يكشف هذا التناقض الظاهري عن الصراع الداخلي بين قبول القضاء ورفضه، بين فضيلة الصبر وإدراك عبثيته في مواجهة قدر لا يرحم.
الصور الفنية: تتميز القصيدة بثراء الصور الفنية التي تعمق دلالاتها الوجودية. فمن خلال التشخيص، يتحول الدهر من مفهوم مجرد إلى كائن متوحش ذي إرادة شريرة “لا يسلاه إلا النافق الخرف” في صورة تذكرنا بأساطير الزمن الكاسح التي تلتهم أبناءها. أما الرمزية فتكثف المعاني عبر: “الفجّ الغليظ القلب” الذي يجسد قسوةً صادقةً في عالم زائف، و”جيف” التي تختزل مصير الضحايا كحطامٍ بشريٍّ تخلفه عجلة الأقدار. وتكتمل هذه اللوحة الفنية بالصور المائية التي تحمل دلالات العبث، حيث يتحول “ماء الطيش” إلى نقيض للحكمة، و”أبحر” إلى استعارةٍ لمغامرةٍ مصيريةٍ في بحرٍ من اللايقين، مما يعكس فكرة العبث الوجودي الذي لا خلاص منه. هذه الصور المتداخلة تخلق نسيجاً شعرياً متماسكاً يربط بين قسوة الواقع وعبثية المقاومة.
اللغة والأسلوب: تتخذ القصيدة لغة فلسفية حادة تعبر عن أزمة الإنسان الوجودية مع القدر، حيث تتناثر الاستفهامات الإنكارية “وهل للموبق الترف؟” كصرخات استنكارية تعكس حيرة الذات أمام قسوة الوجود. وتتخذ هذه اللغة طابعاً قاسياً عبر مفردات موحية مثل “جيف” التي تحيل إلى الجثث المهملة، و”موبق” المشحونة بدلالات الهلاك الكامل، و”خرِف” التي تجسد التفاهة والانحطاط، مما يخلق جوّاً كابوسياً من المعاناة. ويعزز الشاعر هذا التأثير عبر استخدام السجع المتناغم في “يهمي/ يسف” و”ينكشف/ يبدده” الذي يخلق إيقاعاً آلياً متكرراً، أشبه بدقات ساعة لا تعرف التوقف، في محاكاة فنية لاستمرارية الزمن وقسوته التي لا هوادة فيها. هذه العناصر اللغوية المتضافرة تخلق نسيجاً تعبيرياً متماسكاً يعكس رؤية الشاعر الكئيبة للوجود الإنساني.
الإحالات الثقافية والدلالات: تستند القصيدة إلى إرث ثقافي عريق يتمثل في فكرة صراع الإنسان مع الدهر التي تواترت في الشعر الجاهلي “كما في معلقة زهير بن أبي سلمى”، غير أن الشاعر يعيد تشكيل هذا الموروث عبر رؤية حداثية تخلع على الصراع أبعاداً وجودية جديدة. وتتجاوز النصوص مجرد الصراع مع الزمن إلى نقد اجتماعي لاذع، حيث يشير تعبير “النافق الخرف” إلى نمط الانتهازيين الذين يزدهرون في ظل الأزمات، في صورة تذكرنا بتحليل نيتشه لـ”أخلاق العبيد” التي تزدهر في عصور الانحطاط. أما على المستوى الوجودي، فتكشف القصيدة عن رؤية عبثية للعالم، خاصة في البيت الذي يذكر أن “الصبر جميلٌ وبعض الصبر منقصة”، مما يعكس الفكرة الكاموية عن عدم جدوى المقاومة في مواجهة قسوة الوجود، كما عبر عنها كامو في “أسطورة سيزيف” عندما وصف الصراع الإنساني ضد المصير كصراع عبثي لكنه مشرف. هذه الطبقات المتداخلة من الدلالات تحول القصيدة إلى عمل فني يجمع بين العمق التراثي والرؤية المعاصرة.
الشعر والفلسفة في مواجهة عبثية الوجود: يجوز القول في خاتمة هذه القراءة أن قصيدة “ما بال دهرك” للدكتور رحيم الغرباوي تمثل نموذج أدبياً مكثفاً لصراع الإنسان الوجودي مع القدر، حيث تندمج الحكمة الفلسفية مع الإبداع الشعري في بوتقة واحدة. فالشاعر، عبر لغته التي تتراوح بين الغضب الثائر والسخرية السوداء، لا يقدم حلولاً جاهزة، بل يكشف عن زيف محاولات الفهم المنطقي للقدر “أليس ينبي بما لا يرتضي الأسف؟” والنهاية المفتوحة للقصيدة “أبحرْ” تترك القارئ على حافة الهاوية، توحي بأن الغرق في المجهول قد يكون المصير المحتوم، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام تأويلات متعددة، كأنها تستحضر مقولة الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور: “الحياة تُفهم إلى الوراء، لكنها تُعاش إلى الأمام” كتاب “خوف ورعدة”.
هذا التناقض الجوهري بين الفهم والعيش هو ما يلتقطه الشعراء العظام ويحولونه إلى كلمات تنبض بالحياة. فقصيدة الغرباوي، بصورها القاسية وإيقاعها المتقطع، تذكرنا بتأملات بليز باسكال في الإنسان كـ”قصبة مفكرة”، وهي فكرة وردت في كتابه “خواطر” حيث قال: “الإنسان مجرد قصبة، أضعف ما في الطبيعة، لكنها قصبة مفكرة”. ربما يكون هذا هو جوهر الصراع الوجودي الذي تعبر عنه القصيدة: الاعتراف بقسوة القدر مع رفض الاستسلام، والإيمان بأن الإنسان، رغم ضعفه، يحمل في داخله قدرة على التفكير والمقاومة.
في هذا السياق، يظل الشعر والفلسفة توأمين في مواجهة اللامعقول، كما أشار ألبير كامو في “أسطورة سيزيف”فالشعر، كالفلسفة، هو محاولة لإنقاذ الذات من الغرق في صمت الكون، حتى لو كان هذا الإنقاذ مؤقتاً. وكما قال الشاعر الفلسفي محمد عفيفي مطر: “الشعر هو البصيرة التي ترى العالم كما هو، ثم تعيد خلقه من جديد “من كتاب “أقول لكم” وهكذا، تتحول القصيدة من مجرد نص أدبي إلى وثيقة إنسانية تعكس رحلة الإنسان الأزلية في البحث عن المعنى، بين قسوة القدر وإصرار الإرادة، بين اليأس والأمل، بين السقوط والنهوض. وهي بذلك تثبت مقولة طه حسين التي أصبحت إرثاً ثقافياً: “الشعر ديوان العرب، ومرآة المجتمع التي تعكس آلامه وآماله”.

ما بال دهرك..

ما بالُ دهرك لايَبلى
ولا يقفُ،
وليس يسلاهُ
إلا النافقُ الخرِفُ؟
هذا هو الدهر لاغولٌ يشابههُ
وليس يُزرى بما يهمي
وما يسفُ!
لو كنتَ فجَّاً غليظ َالقلبِ
ما حَكَرتْ دنياك
شيئاً …
وهل للمُوبِقِ التَّرَفُ ؟ !
أجل سيُنبيك ما رابتهُ
غصَّتُهُ
أ ليسَ ينبي بما لايرتضي الأسفُ؟

أبحرْ فقد شاءتْ الأقدار في وطنٍ
أنْ يُبتلى القوم
ما شاءت بهم جيفُ.
صبرٌ جميلٌ
وبعضُ الصبر منقصةٌ
إذا سقاهُ بماء الطيش مُزدلِفُ
فالليلُ ليسَ لهُ شيءٌ يبددهُ
سوى النهارِ
كذاك الدهر ينكشفُ.

*ناقدة / تونسية

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *