( 4 في القنطرة جلجلة: (الجزء الثاني
في القنطرة جلجلة
لم يتم اللقاء مع مفتشي الشرطة على أحسن ما يرام. كانت خيبته كبيرة جدا. من وجهة نظره، لم يتعاملا مع شكايته كما كان يفترض. كانت الطامة أنهما أخضعاه إلى استجواب لم يتمالك معه نفسه وكاد، أكثر من مرة، أن يصرخ في وجههما. اختفت الكلمات العذبة، المنمقة والضاربة في الحسن والدلال، من شفتي إلهام. كما أن مرتجى أظهر تفوقه الذكوري بأن سحب البساط من تحتها وكان له نصيب الأسد في الأسئلة، الواحد أكثر استفزازا من الآخر. أدرك متروي أن دخوله إلى مخفر الشرطة لم يكن مرحبا به من طرف الجميع ولا كانت، أصلا، بادرة مستحسنة. كان العميد، رئيس المخفر، يراقب الاستجواب عن كثب. الاستجواب كان أقرب إلى الإهانة. سئل عن إسمه الحقيقي، وطلب منه الإدلاء ببطاقته الوطنية، وتأكيد مكان ازدياده وإقامته الحالية. كانت إجاباته كلها مقنعة، ما عدا جوابه حول اسمه الحقيقي. لم يكن مختلفا عما عرف به: متردي. حاول تفسير الاختلاف بكون هذا اللقب كان مصدر إزعاج أخلاقي لعائلته، نظرا لحمولته غير الأخلاقية. ولكن مفتشي الشرطة لم يكثرتا، وأثارا انتباهه إلى أن هناك محاكم يمكن اللجوء إليها لإصلاح الأسماء والألقاب التي تخدش الحياء العام. وما كان على أحد أفراد عائلته إلا أن يقوم بالمتعين في مثل هذه الحالة. وبلغت الإهانة ذروتها عندما لاحظ مترجي أن بطاقة متروي الوطنية تحمل عنوانا سابقا، وأن عليه أن يجددها؛ كما أن عليه الإشارة بوضوح إلى مكان إقامته الفعلي. كانا يسخران منه، كان ذلك واضحا وضوح الشمس في كبد النهار. فإذا كانت بطاقته الوطنية تشير بوضوح إلى عنوانه القديم في تافراوت، وأنها ما زالت صالحة، فمن أين له أن ياتي بشهادة الإقامة الفعلية، وهو يسكن قنطرة؟ أما عن الشكاية، فقد أخبره مترجي بأن العربة توجد في مكان خلاء وبناء عليه، لا يمكن تسجيل شكاية حول عربة توجد في مكان مهجور لا عنوان له ولا تعرف هوية من يرتادونه سوى أنهم مشردون، مهمشون أو عابرو سبيل، أو أشخاص يتذاكون، كما هو حاله
رفع الراية البيضاء، ولكن إلهام وجهت إليه الضربة القاضية حين قالت: “مازلت تتذاكى. هل أنت فعلا متروي، متردي أوشخص آخر يتجول بهويتين، لعله يدفع بالحجر إلى أعمق مكان في وادي النسيان؟ حكايتك رائعة وأنت إلى حد الآن قد نجحت في حبك خيوطها. ولكننا سنبقى لك بالمرصاد. أشياء مهمة حصلت في تافراوت وأنت تخفيها عنا، ولكننا سننجح في الكشف عنها عاجلا أو آجلا”
غادر متروي المخفر، وهو يطرح على نفسه عشرات الأسئلة حول ما يجري، وحول ما إذا كانت نبوءة مستعد ستتحقق. نفخ في الهواء وردد في قرارة نفسه: “فليكن! ما الذي سوف أخسره؟ عربة وسأقودها إلى مكان آخر؛ وفضول ناس كثيرين؛ ولعنة قدر بريء من كل اللعنات؛ وهذه الحياة التي نسميها سعيدة، وهي ضاربة في الحزن؛ ونبرة الخيانة في وشوشة من نثق بهم ثقة عمياء تكاد تكسف الكواكب البعيدة؛ وعنوان مطالب به، وليس لي عنوان سوى أنفة نفسي وقوة مراسي أمام الهجيج من زمرة الشؤم والتضليل؛ أنا الذي ما استقرت قدمي في مكان إلا وتفجرت بالقروح… ولكنها لا تلبث أن تشفى مثل أصبعي الوسطى التي تكرمت بأن أظهرت لي جليا عصيان الدم في شراييني. أما حكايا تافراوت؟ لن يفلحوا في اكتشافها، وإلحاحهم نفسٌ من غرور لا يعنيه. فليكن إذن!”
تعاقبت الأحداث منذ زيارة مستتر إلى المخفر. تغير سلوك بعض رواد القنطرة معه. صحيح أن مظاهر الاحترام لم تختف، ولكن نوعا من التوجس والحيطة أصبح يطبع الأحاديث التي كان يتبادلها معهم. كما أن الحيوانات اختفت فجأة عندما اتخذ مجلس الدائرة قرارا بتجميع الكلاب والقطط الضالة على بعد أشهر من الانتخابات المحلية والعامة. شيء أثلج صدره، رغم هذه المستجدات، وهو أن الشباب الذين تكفلوا بتنظيف القنطرة ومحيطها استمروا في نشاطهم بدون توقف. كما علم عن طريق مصطفى أن زيارته للمخفر كانت بادرة غير محسوبة. فحسب ما تناهى إلى علمه، هو أن عملية محاولة السطو على بعض محتويات العربة، كانت مدبرة من طرف رئيس دائرة المباحث لغرض ما، وأن متروي أفسد الخطة بإعلانها للملأ عن طريق الشرطة. لم يتمكن متروي من إيجاد رابط معقول بين العمليتين، ولكنه فضل الاحتفاظ برأيه لنفسه. مصطفى هذا يعلم أشياء كثيرة، ولربما كان يعمل لصالح إدارة المباحث، وإذا تلفظ متروي بكلام لا يعجب، فقد تنقلب الأمور رأسا على عقب بالنسبة إليه. التوقيت غير مناسب في كل الأحوال. هل حصل وتناسى السبب الأساسي لوجوده هنا؟ كل هذه الإهانات، وقد يعود بخفي حنين! أبدا! لن يسمح بحدوث ذلك، مهما كان الثمن
تزامنا مع حملة القبض على الكلاب الضالة وطرد القطط، احتلت مجموعة شبابية محيط القنطرة، ودأبت على تنظيم وصلات غنائية، مساء كل جمعة. كانت مجموعة جيدة أحبتها الساكنة، لأنها تعرضت إلى نوع من الحيف خلال آخر مهرجان للموسيقى الحضرية (البولڤار)، وذلك بشهادة فنانين ذوي مصداقية. ويرجع ولع الساكنة بالمجموعة، لأنها تذكر ببداية مجموعة “ناس الغيوان” في أواخر ستينيات القرن الماضي. كان أسلوبها يجمع بين ‘الهيب ـ هوب’ و’الفانكي’ مع نفحات من ‘الطقطوقة الجبلية’ و’العيطة’. ربما كان هذا المزيج الصعب هو الذي أزعج لجنة التحكيم. بيد أن الذي زاد من تعلق شباب القنطرة بهذه المجموعة، هو الكلمات؛ كانت منتقاة بحرص شديد وتنأى بنفسها عن شعر ‘الراب’ أو ‘الريغي’. كانت سهلة الحفظ، وتتكون من ستة أبيات على الأكثر، وتترجم لحالات بسيطة، مثل التسوق، أو نزول المطر أو السماع إلى غناء عصفور. كانت بعيدة كل البعد عن أناشيد ازدهرت إبان وبعد الربيع العربي. استلطف متروي المجموعة؛ وكتب في المفكرة السوداء
“الموسيقى تنبع من اللاشعور لتمجد ذاكرة الشعوب. هي الخيط الوحيد الذي يربط النفس بالخلود. لو لم تكن الموسيقى، لانقرض البشر والحيوان والنبات. حتى الدين، فهو يختبر التراتيل في التجويد والأمداح والأوراد، وكلها لا تستقيم بدون مقامات. من يدعي غير ذلك، يغض الطرف عن الواقع ويتعامى. من يمتهن الأحزان، لا يؤذي سوى نفسه. ولو فتح حسابا كبيرا للحزن في أكبر مصرف، فلن يغتني أبدا؛ وقد يفلس المصرف قبل أن يذرف أحد دمعة واحدة عليهما”
من بين المواضيع التي أصبحت الشغل الشاغل لسكان المنطقة، الحديث عن مشروع تصوير إنتاج سينمائي دولي ضخم تشكل القنطرة ونواحيها جزءا من مشاهده. لم يكن ذلك مجرد كلام، بل تعددت الزيارات من أطقم سينمائية أجنبية يرافقها في كل مرة ممثلو السلطات المحلية وبعض الصحفيين المتميزين. كما تم الإعلان عن وصلات لاختيار ممثلين كومبارسات أو ممثلين هواة للظهور في الفيلم المرتقب. وبين عشية وضحاها، أصبح مقهى ‘المنتزه’ قبلة لحجيج من الناس من كافة الفئات العمرية والطبقات. كان الكل يحلم بلعب دور ما. لم لا؟ ومما زاد من التشويق، توسط بعض الأعيان والشخصيات لدى المكلفين بانتقاء الممثلين والكومبارسات من أجل اختيار أولادهم وبناتهم. تنوعت الوعود، ولم يختف الوعيد. امتلأت جنبات القنطرة إلى درجة أن السلطات أعلنت حالة الطوارئ. وكم كان مثيرا للشفقة أن بعض الممثلين المحترمين كانوا يصطفون مع العموم في انتظار تقديم أوراق إثباتهم أملا في الحصول على دور من الأدوار الثانوية. ورغم الإزعاج الذي خلقته هرولة من هبّ ودبّ إلى رحاب القنطرة والجوار، إلا أن ذلك مكن شريحة من الأشخاص من إظهار ذكاء خارق في فن التجارة. وفي غفلة من الزمن، تحولت المنطقة إلى سوق صغير يباع فيه كل شيء. ولكن بعد أسبوع، اقتنع الجميع بأن العمل السينمائي المرتقب يحتاج إلى أكثر من بنية جسمانية قوية أو وجه جميل أو طلعة بهية. كما أن الأعيان وغيرهم من بين المتطلعين علموا علم اليقين أن التوصيات والتدخلات وغيرها من فنون الوعيد لا تجدي مع منتجين أجانب.
طيلة عملية الانتقاء والاستكشاف، لم يغادر متروي مكانه ولم يحد عن روتينه. كما لم تكن تزعجه حركات كاميرات صغيرة تتجول بين أروقة القنطرة، كان يقوم بها فريق العمل الأولي، في محاولات لتزكية مواقع المشاهد التي استقر الأمر على التصوير فيها. لم يكن ذلك يعنيه. كل ما كان يعنيه، هو غياب أصدقائه الحيوانات. في بعض الأحيان، كان يخرج أحد المجلدات الصغيرة الحجم من المكتبة ويقرأ لمدة قبل أن يعيده إلى مكانه. ومرات، كان يلجأ لإحدى المفكرتين لتدوين شيء ما. وقد طرأ له أن يكتب عما خلص إليه حتى تلك اللحظة، فدون في المفكرة السوداء
“أيها الناس الكل من أمامكم والكل من ورائكم، وليس لكم مفر إلا أن تشاهدوا وتصمتوا. وعندما سيبدأ التصوير، لا تتحركوا ولا تتنفسوا؛ فبينكم وبين الخلود خيط نور لا تحدقوا فيه كثيرا فيصيبكم العمى! لا يهمكم المحتوى، ولا تكثرتوا لقول من أحسن في البلاغة، لأن البلاغة تمويه قد يصيب الصواب بالزخرفة، والزخرفة بدعة حتى ولو أفلح المبدعون! إن كان مأربكم حفظ ما تبقى من كرامة باللجوء إلى الصورة، فليكن، ولكن احترسوا ألا يصبح ما هو ثانوي أساسي وما هو أساسي في مهب الريح! هذه القنطرة، تفتح الشهية، والبحر منها قريب. وهذا البحر يغرق في تلوثه وتنتحر أمواجه على صخور الجهل بسبب نكرانها لأبجديات النظافة. وللعقل في ذلك مآخذ على الجميع. فلتنعموا بصور ستصبح في خبر كان، فور خلو المكان من أناس لا يعرفون أن للقنطرة حماتها؛ ولئن اختفوا، مرحليا، فسوف يعودون أقوى مما كانوا عليه. ولن يمنعني أحد ــ أبدا، أبدا ــ من الحفر هنا وهناك، حتى أجد ضالتي”
أعاد قراءة ما كتبه، وحرك رأسه في كل الجهات؛ ذلك يعني أنه غير راض على ما كتب. وبينما كان يحاول التخلص من كآبة لم تكن مألوفة لديه، التحق به رائد. رائد الذي لم يزره قبل اللحظة، كما وعد بذلك آخر مرة. بادره رائد بالسلام، فلم يرد متروي عليه
ـــ هل أنت غاضب مني يا عمي؟
ـــ قليلا. أليس من حقي أن أغضب من شاب لا يلتزم بوعوده؟
ـــ بلى
ـــ إذن ما السبب الذي منعك؟
ـــ ظروف عائلية. أنت تعرف أبي؛ مرات، تختلط عليه الأمور
ـــ أنا لا أعرف مصطفي جيدا
ـــ إنه يتكلم كثيرا ويشغل نفسه بما لا يعنيه
ـــ مهنته تفرض عليه ذلك. هل تظن أن تداول الزبائن بين يديه على مدار الساعة شيء هيّن؟
ـــ أنا واع جدا بهذه الأمور يا عمي، ولكنه تجاوز الخطوط المسموح بها هذه المرة
ـــ ما الذي يقلقك؟ أخبرني
ـــ لا أحب ما يقوم به لصالح السيد مستعد
ـــ وما الذي يقوم به؟
ـــ أشياء هو في غنى عنها. سأحدثك عنها لاحقا عندما أتأكد من بعض الجزئيات
ـــ كما تشاء. وما الذي يقنعك بأنني أريد أن أعرف كل الجزئيات؟ ولم تثق بي على أية حال؟
ـــ لأنني أعرفك بعض الشيء. كنت أراقبك أنا والأصدقاء. ونحن على يقين بأنك شخص مهم، وأن وجودك في هذه الديار له غاية. وإذا أمكنني أن أعرف، يمكنني أن أساعد
ابتسم متروي. رائد شاب ذكي جدا. لم لا يجاريه ويبدأ اللعبة معه؟
ـــ وما الذي تريد أن تعرفه؟
ـــ حكاية المكتبة المتجولة
ـــ ما حكايتها؟
ـــ نوعية الكتب
ـــ وكيف عرفت؟
ـــ مرات، عندما كنت تذهب إلى الحمام، أوتجلس في ‘المنتزه’ أوتمشي بجانب البحر، كنا نتسلل إلى العربة ونتفحص الكتب
ـــ غريب! كيف لم أنتبه؟
ـــ كنا دائما حريصين على عدم تغيير ترتيبها. أعجبتني الطريقة التي رتبت بها الكتب حسب الحروف الأبجدية للغات مختلفة، ولكن في تناغم يصعب على غير متمكن مثلك القيام به
ـــ وما الغرابة في ذلك؟ أنا إنسان متعلم وأتقن جميع اللغات التي أتوفر على كتب بها في المكتبة. وأتوفر على أشياء أخرى تسيل لعاب عشرات الناس
ـــ لمَ تتضمن كتبك دواوين شعر وأناشيد صوفية متنوعة، على قلتها؟
ـــ لأني أستفز كل الذين يقولون إن الشعر قد مات؛ كما أنني أتقزز من رد فعل المكتبيين الذين يرفضون عرض كتب الشعر للبيع بدعوى أن المغاربة لا يقرأون الشعر ولا يزينون مكتباتهم به. هذا التعليق عبثي وسخيف، لأن أغلب الناس لا يقرأون أساسا أي شيء؛ والكتاب والشعراء، من وجهة نظرهم، لیسوا سوى لفيف من المتهورين ينطون بين الكلمات بحثا عن شيء مفقود، وهو عقلهم
ـــ هذا حكم مجحف يا عمي. أنا أقرأ كثيرا
ـــ لا أشك في ذلك يا بني
ـــ آخر مرة زرنا فيها مكتبتك، طرأت لنا فكرة تنظيم مكتبة متجولة للكتب المستعملة، تجوب جنبات القنطرة. سنطلب من الناس التبرع بالكتب التي قرؤوها ــ أو لم يقرؤوها ــ ولم يعودوا في حاجة إليها. أنا واع بأن العملية لن تكون سهلة، سيعترض ناس، وسيحاول ناس الركوب على الموجة؛ وقد تتوجس السلطات، ولكنني واثق بأننا سننجح. ولهذا السبب، سنحتاج إلى مساعدتك
ـــ كيف؟
ـــ أن تخصص وقتا لقراءة كتاب يومين أوثلاثة أيام في الأسبوع؛ تماما كما تفعل مع أصدقائك، حيوانات القنطرة
ـــ فكرة ممتازة، رغم أنها قد تخلق لي بعض المتاعب
ـــ لا أظن ذلك، وقد سبقنا آخرون في هذا المجال أذكر من بينهم من أسسوا ‘نادي الكتاب للمدينة الخضراء
ـــ أنت مغرق في التفاؤل. هل تظن أن الناس سيتبرعون بالكتب؟ وحتى لو فعلوا، فأغلبهم سوف يغرق المكتبة بكتب صفراء وكتب رخيصة مترجمة ترجمة رديئة، إضافة إلى أن البعض سوف يحول المكتبة إلى منبر للدعاية. ألم يسبق لك أن زرت المعرض الدولي للكتاب؟
ـــ أنت تحبطني، يا عمي
ـــ وسوف تتدخل السلطات
ـــ تعلمنا منك التحدي، ولكنك تحبطني الآن
ـــ أخشى أنك لن تكون محظوظا مثلي. لن يكلف الناس أنفسهم عناء التبرع بالكتب؛ قم بجولة عند بائعي الكاو كاو والزريعة واللوز! كما أنك لن تجد كتبا مرماة في حاوية وأنت عابر سبيل. أنا كنت محظوظا، ولم أضف إليها سوى أشعار صوفية كانت معي، وأشياء أخرى ثمينة
ـــ لا أدري. ولكن أعتقد أن هذا الفيلم، إذا أنجز وفقا للجدول والتوقيت والموضوع الذي يتطرق إليه، سيسيل كثيرا من المداد
ـــ وكيف عرفت؟
ـــ من خلال الأسئلة التي كان فريق العمل المتقدم يطرحها، تبين لي أن السيناريو ملغم وأن تصوير الفيلم في بلادنا ليس صدفة أو نظرا لروعة المناظر أو لوجود ضوء طبيعي يناسب الصناعة السينمائية الحالية، وغيرها من الجمل الدعائية المجانية
ـــ لا أصدق أن فريق العمل المتقدم بهذه السذاجة ليسر إليك بأشياء من المفروض أن تظل سرية
ـــ لا يا عمي، إنهم ليسوا أغبياء. إنهم يستقرئون ردود أفعال الناس. وليست هذه المرة الأولى التي يزورون فيها هذه المنطقة. مهما يكن من أمر، سأحاول أن أحصل على مزيد من المعلومات. ولكنني أتيت بناء على دعوتك الأخيرة. ما هو الشيء المهم الذي تريد أن تحدثني عنه؟
ـــ كانت مجرد فكرة طرحتها على مصطفى قبل أن أعرف من تكون حقا. ولكني تراجعت عنها بعد ذلك
ـــ لماذا يا عمي؟
ـــ لأنها كانت فكرة سخيفة. اشتكى أبوك من رئيس الدائرة الذي لم يساعده على إيجاد عمل لأحدكم، وذكر بأن أباه كان بائعا متجولا، فكيف يتنكر لماضيه بعدم مساعدة شباب اكتووا بنفس نار الحرمان؟ فاقترحت عليه أن يمتهن أحدكم ــ أنت بالضبط، لأنك البكر ــ نفس المهنة لمساعدة العائلة، لكنه صرخ في وجهي؛ ثم اعتذر بعد ذلك
لم يتمالك رائد نفسه من الضحك. ثم تماسك وقال
ـــ أعتذر يا عمي… لأن ما تفضلت به يترجم لفلسفة العبث في أبهى تجلياتها. هل تعلم أني بين الفينة والأخرى أشتغل كبائع متجول. من أين أوفر مصاريفي إن لم أقم بعمل مثل هذا؟ كما أني اشتغل كمناوب في بعض المقاولات التي تدفع أجورا قليلة لكي تتجنب دفع الضرائب
ـــ وهل أبوك يعلم ذلك؟
ـــ بالطبع، ولكنه يتظاهر بأنه لا يعلم
ـــ عادي جدا! كل الآباء يشكتون؟
ـــ هل تعلم لمَ يشتكون؟
ـــ ربما
ـــ يشتكون، لحماية أبنائهم من الحسد. ثقافتنا الشعبية مليئة بالتطير وبالفكر الخرافي
ـــ وبالمنفعة
ـــ أيضا. هل عندك أولاد يا عمي؟
ـــ أفضل ألا أتكلم عن هذا الموضوع
ـــ معذرة. على كل حال، أشكرك يا عمي على نبل عواطفك وأطلب منك الإذن بالرحيل، لأن عندى موعد مع أحد أفراد الفريق المتقدم للفيلم
ـــ ممتاز
ـــ عندي فرصة للعمل في الفيلم. هذا ما يبدو لي على الأقل
ـــ ما هي نوعية العمل؟
ـــ الاستشارة ـــ جميل، بالتوفيق ـــ بالتوفيق لك أنت أيضا، يا عمي
ـــ لماذا؟ أتراني أشتغل في السينما؟
ـــ من يدر، يا عمي؟ عالمنا صغير، وقد تمطر السماء بالذهب
ـــ لا توجد المعجزات إلا في ذهن من يستحم في مستنقع الفشل
ـــ سوف نرى، يا عمي. إلى اللقاء
(يتبع)