شاعرية الإغتراب

عزلة التأمل وقبس الأبداع

الإغتراب: من الجغرافيا إلى الوجود
يُعدّ الإغتراب من المفاهيم المحورية في التأمل و الخطاب الفلسفيين و في فضاءات الإبداع الأدبي و الفني، إذ يتجاوزالمفهوم معناه الحرفي كحالة جغرافية أو سوسيو- سياسية ليُشكّل فضاءً وجوديًا يعكس مأزق الكائن الإنساني في عالم يتّسم بالتحول الدائم. في هذا السياق، يُفهم الإغتراب بوصفه تجربة تشظٍّ وانفصال لا عن المكان فحسب، بل عن الرموز المرجعية التي تُشكّل الذات. ومن هنا تكتسب شاعرية الاغتراب، و معها شاعرية المنفى و الهجرة، طابعها الوجودي العميق، حيث تتجلّى كأزمة في الهوية والانتماء، وتُطرح الذات المغتربة كسؤال فلسفي مفتوح على الاحتمالات الوجودية٠
الاغتراب الميتافيزيقي وإمكانات الإبداع
لا يُمثل الإغتراب، و كذلك المنفى والهجرة مجرد غياب فيزيائي عن الوطن، بل يُجسّد حالة غربة ميتافيزيقية عميقة تَمسّ جوهر الذات. فالفرد المغترب يُنتزع من نسق رمزي كان يمنحه مركزية معنوية، ليجد نفسه أمام واقع مفكك يعيد تشكيل تصوّره للعالم. وفي هذا الوضع، تُعاد صياغة العلاقة بين الزمان والمكان، فيتحوّل الزمان إلى تجربة متكسّرة، والمكان إلى حيّز مؤقت مفتوح على اللايقين. هنا تبرز تجربة الإغتراب كصيرورة فلسفية تُحفّز الوعي الجمالي وتُشكّل دافعا للإبداع، حيث يُصبح الفن أداةً لتأويل الغربة، وتفكيك المعاناة، واستعادة المعنى٠
الإبداع كطقس وجودي: الفن وطنًا بديلا
يُستعاد الفن في تجربة الإغتراب ومعه المنفى والهجرة بوصفه ملاذًا وجوديًا، أو كما يصفه البعض، “وطنًا رمزيًا” يحتضن الذات التائهة. فالإبداع لا يُختزل في تمثيل الألم، بل يتحوّل إلى ممارسة شعائرية تتجاوز الأبعاد التقنية لتُلامس المقدّس. وفقًا لهذه الرؤية، يُمارس الفنان عمله كما لو كان كاهنًا يُقيم طقسًا تأمليًا يربطه بالكون والمعنى. فالقصيدة كما تصورها ستيفان مالارميه تشكل “قربانا لغويا“، و تمثل لحظة تواصل بين الذات وعالمها الداخلي، وتُعيد للذات المغتربة انغراسها في سياق جمالي يتجاوز حدود الجغرافيا٠
الشعر كمرثية وجودية: الذاكرة والزمان والمكان
في قلب تجربة الإغتراب، ينهض الشعر كأسمى أشكال التعبير عن المنفى و الهجرة والفقد. فعندما تعجز اللغة اليومية عن التعبير عن الانكسار الداخلي، يظهر الشعر كبديل رمزي قوامه الإيحاء والصمت والتوتر الجمالي. وفي هذا السياق، تُكتب القصائد في المنفى بوصفها ترانيم جنائزية تُشيّع الزمان والمكان والذاكرة، لا الأجساد فقط. إنها محاولات لتحنيط المنفى لغويًا، ليس تمجيدًا له، بل صونًا لتجربته من الزوال. فكل بيت شعري يُكتب في الغربة هو في جوهره طقس مقاومة للنسيان، وصرخة ناعمة في وجه التلاشي٠
جغرافيا الحنين: الوطن والأم و الطفولة كرموز شعرية٠
تتبوأ ذكريات الوطن والأم والطفولة مكانة مركزية في الكتابة “المغتربة”، حيث يتجلى الوطن لا كواقع جغرافي بل كصورة متخيلة، مشبعة بعواطف ذكريات الصبا وملامح الحياة الأولى. يتحوّل هذا الوطن إلى فضاء داخلي رمزي يستعيد من خلاله الكاتب هويته المفقودة. أما صورة الأم، فتظهر بوصفها مجازًا شعريًا مركزيًا، تمثل الأصل والحنان والمأوى العاطفي. بهذا المعنى، تُصبح الأم رمزًا للوطن “الأمومي”، وتمثيلًا حسيًا لجذور لا تزال متقدة في ذاكرة المنفي، تُغذّي تجربته الإبداعية وتمنحها بعدًا طقسيًا يستعيد عبره الانتماء المفقود٠
الموت في المنفى: الغربة النهائية
يعد الموت في المنفى من أقسى تمظهرات الغربة، حيث لا يقتصر الانفصال على الحياة، بل يمتد إلى مراسم الوداع التي تفقد اكتمالها الرمزي. فالموت في الغربة يُعيد صياغة سؤال الوجود من جديد، ويُحيل الجسد المغترب إلى حالة من التيه الرمزي لا تجد مستقرًّا في الأرض أو الذاكرة. وكما أشار محمود درويش، “المنفى هو الموت حين لا يعود الجسد إلى ترابه”، فإن الغياب النهائي يُصبح لحظة غربة مضاعفة، تُقوّض طمأنينة النهاية وتفتح سؤال الهوية حتى في الرحيل٠
الانتحار كاحتجاج جمالي على العدم٠
في سياق الحزن الوجودي العميق الذي يرافق المنفى، يظهر الانتحار لا كفعل فردي معزول، بل كذروة جمالية وتجربة قصوى تعبّر عن العجز أمام العبث. و كما يرى ألبير كامو، فإن الانتحار هو السؤال الفلسفي الأكثر جوهرية، إذ يختبر حدود المعنى وقيمة الوجود. وقد جسّد عدد من المبدعين المغتربين هذا التوتر، حيث جاء فعل الانتحار كتعبير عن فشل العالم في منح المعنى، وكمحاولة أخيرة لإعادة امتلاك الذات بلغة الفقد. فالانتحار هنا لا يُمثّل نهاية عبثية، بل فعلًا احتجاجيًا وجوديًا وفنيًا، تُكتب فيه الذات للمرة الأخيرة عبر جسدها٠
نحو فلسفة الإغتراب: إمكانات بناء الذات٠
تكشف القراءة الفلسفية والجمالية لتجربة المنفى عن كونه فضاءً يتجاوز المعاناة إلى إمكانية إعادة بناء الذات. فالمنفى ليس فقط مأساة هجرة، بل مختبرا وجوديا لإعادة التفكير في مفاهيم “البيت” و “الهوية” و “الآخر”. ومن خلال الأدب والفن والفلسفة، يُحوّل المغترب تجربته إلى مشروع تأويلي يعيد فيه تشكيل العالم، ويصوغ خطابًا إنسانيًا يتّسع للتمزق و الشتات والاختلاف والتعدد. في هذا الأفق، يُصبح المنفى حقلًا خصبًا للتفكير في الإنسان لا ككائن مستقر، بل ككائن في صيرورة دائمة، يُعيد باستمرار إنتاج هويته عبر فعل المساءلة من خلال التأمل و الإبداع٠
عبدالعزيز سارت
لوڤن- بلجيكا