أصدقاء المغرب

محامي المقاومين المغاربة
جان شارل لوكران Jean-Charles LEGRAND

ما أن انفتح باب الطائرة التي نزلت بمطار أنفا بالدارالبيضاء وظهر رجل فارع الطول يبتسم ويلوح بيده، حتى ارتفعت الهتافات والزغاريد، والتفّت حوله جموع هائلة من الرجال والنساء حضرت لاستقباله والسلام عليه، جموع قدرتها الصحافة إذاك بحوالي 5.000 شخص.
لا يتعلق الأمر هنا بزعيم سياسي ولا بنجم من نجوم المجتمع، بل بأحد المحامين الفرنسيين الذين كانوا يدافعون عن المقاومين أمام المحاكم المدنية والعسكرية، والذي كان يعرف أنه يخاطر بحياته أثناء قيامه بهذه المهمة، ومع ذلك كان يؤدي واجبه بكل شجاعة وبكل تفان ،إنه جان ¬شارل لوكران Jean-Charles LEGRAND الذي عاد إلى المغرب بعد خمسة أشهر من طرده إلى فرنسا يوم 18 يوليوز 1955.
قدمت له السيدة حرم المقاوم محمد منصور باقة من الزهور باسم أرامل وزوجات كل المقاومين الذين دافع عنهم، عرفانا بالجميل ومتمنية له عودة ميمونة، كما كان في استقباله أيضا بعض من زملائه المحامين، ووجوه من رجال الحركة الوطنية السياسيين والنقابيين، وبعض المسؤولين في الدولة المغربية المستقلة.
رافع جان¬ شارل لوكران في أغلب المحاكمات الكبرى التي عرفها المغرب في بداية الخمسينات بعد انطلاق حركة المقاومة المسلحة وما تلاها من اعتقالات واسعة. ومن خلال اطلاعه على ملفات القضايا واتصاله بالسجناء الذين يدافع عنهم، عرف هول التعذيب الذي قاسوه وأدى بهم إلى الاعتراف بما اعترفوا به، وعرف كيف يتم ضرب كل الحقوق التي تقرها المواثيق الفرنسية أو الدولية داخل دهاليز مراكز الشرطة وغرف التعذيب. وكان يفضح كل ذلك في مرافعاته أمام المحاكم، وفي الرسائل التي يبعثها إلى المسؤولين في باريس.
كان لوكران LEGRAND يدعو القضاة إلى تفهم قضية هؤلاء المقاومين الذين يدافعون عن بلادهم، فأثناء محاكمة منظمة اليد السوداء التي يترأسها المقاوم أحمد الراشدي، يخاطب القاضي قائلا: لا يا سيدي القاضي، هؤلاء الرجال ليسوا مجرمين، لقد تكلموا معكم بحرية ووضوح، وصراحتهم غنية بالمعاني، لقد قال أحدهم: نحن جنود في المعركة التي يخوضها المغرب، ونحن عازمون على أداء واجبنا، لقد قمنا بهذا العمل لأنه تم المساس بمقدساتنا المجسدة في أعلى سلطة في بلادنا، إن ما فعلناه كان من أجل ملكنا ووطننا، ويضيف لوكران:إن هؤلاء الرجال الماثلين أمامكم قد تعلم بعضهم في مدارسنا، ولقناهم أن روح أي بلد هي استقلاله وحريته
.هكذا إذن كان المحامي يضع المحاكمات في إطارها الحقيقي وهو الإطار السياسي، فالأمر لا يتعلق فقط بفعل إجرامي هو قتل هذا الضابط الفرنسي أو هذا العميل المغربي، بل المسألة أكبر من ذلك، هي قضية شعب بأكمله يطمح للانعتاق من ربقة الاستعمار ليتمتع بنعمة الحرية.
كان لمرافعات لوكران وقعها الشديد داخل قاعات المحكمة وخارجها، من خلال التغطيات الصحفية التي تقوم بها الصحافة الاستعمارية، مثلا صحافة ماص، أو الصحافة الليبرالية، مثلا صحيفة ماروك بريس.
دافع جاك شارل لوكران عن معتقلي أحداث كريان سنطرال وعن معتقلي منظمة اليد السوداء وعن معتقلي أحداث مدينة وجدة الذين ثاروا ضد المؤامرة التي كانت تدبر ضد الملك الشرعي محمد بن يوسف فخرجوا في مظاهرات يوم 16 غشت 1953، وعن معتقلي مدينة فاس ، جماعة عبد الله الشفشاوني، وعن معتقلي مدينة مراكش : حمان الفطواكي، وغيرها من المحاكمات الأخرى . ولذلك فإن اسم لوكران كان في صدر اللائحة السوداء التي وضعها غلاة الاستعماريين وتضم الذين يجب تصفيتهم لأنهم يدافعون عن القتلة (في رأيهم) ولأنهم خانوا بلادهم فرنسا، فأثناء محاكمة وجدة، حاصروا الفندق الذي كان يقيم فيه وأرادوا اقتحامه للإجهاز عليه، وحين سمع السكان المغاربة ذلك هبوا لنجدته وفك الحصار عنه.
وبعد العملية الفدائية في مرس السلطان يوم 14 يوليوز 1955، حاصرت منزله جماعة من غلاة الفرنسيين الهائجين بزنقة بليز باسكال (الأمير مولاي عبد الله حاليا)، والذين يريدون الانتقام للضحايا الفرنسيين الذين سقطوا في هذه العملية، وأفلحت هذه الجماعة في تكسير باب شقته واندفعت داخله تريد الفتك بمحامي القتلة، ورغم استغاثة لوكران بالشرطة عن طريق الهاتف لنجدته وإنقاذه، لم تحضر إلا بعد فوات الأوان ولم ينفعه إلا استعمال مسدسه الشخصي للدفاع عن نفسه، فأصاب أحد المهاجمين وجرح آخرين، وحين أتت الشرطة ألقت القبض على الضحية ، على لوكران، بدل أن تعتقل المهاجمين . يتم اقتياد المحامي إلى سجن اغبيلة بالدارالبيضاء ثم إلى سجن القنيطرة ويوضع في نفس الزنزانة التي كان يقيم فيها عبد الله الشفشاوني الذي حكم عليه بالإعدام، وحين يعرف باقي السجناء المغاربة أن لوكران معتقل معهم في السجن تتعالى هتافاتهم من كافة الزنازن لتحيته والهتاف باسمه.
لكن الإقامة العامة شعرت أنها قد وقعت في ورطة حين اعتقلت هذا المحامي اللامع، فتخلصت من هذه الفضيحة القانونية والسياسية بإطلاق سراحه و بترحيله إلى فرنسا.
وحين عاد مرة أخرى إلى المغرب، كان ذلك الاستقبال الحاشد الذي خصصه له المواطنون المغاربة سواء في الدارالبيضاء أو مراكش أو في آسفي، وفي كل مكان من المغرب المستقل، اعترافا بالجميل، وامتنانا له ولكافة الفرنسيين الأحرار الذين تعرضوا للمضايقة وللاضطهاد وحتى للاغتيال دفاعا عن حق المغاربة في الحرية والاستقلال مثلهم مثل باقي الشعوب الأخرى.