خواطر امرأة

خواطر امرأة

دقيقة من فضلك…!

هامش بمثابة البدء:

        ثريا الطاهري الورطاسي

يعود تاريخ تدوين هذه الخاطرة إلى منتصف شهر شتنبر  من  2022 ، وقد ارتأيت إعادة النظر فيها  ترميما وتنقيحا  وصياغة ، حتى تصير  صالحة للنشر بجريدة ألوان ، وثانيا للتأمل قبل أي تعليق…

أسباب النزول:
لقد حدث – ذات يوم – أن كنت في حوار  مع إحدى جاراتي عند مدخل العمارة التي أسكنها بمدينة الدار البيضاء ، فجاء طفل صغير لم يتجاوز السادسة من عمره ،
تميزه خفة دمه البادية للعيان، ويزينه جمال روحه البهي. أناقته الطفولية فاقت كل تصور، نظر الي وقال : ” دقيقة واحدة خالتو “، ثم تمسك بأمه موشوشا في أذنها،
فابتسمت موجهة سبابتها إليه، وسرعان ما اختفى في بهو العمارة ليلعب مع بعض أقرانه من أبناء الجيران. فعرفت أنه طلب من والدته السماح له باللعب بعض الوقت .
وعند عودتي إلى البيت استرجعت شريط الحدث وخلصت إلى معرفة قيمة”الدقيقة ” من طفل صغير ، بعدا كنت أرددها مرارا ، دون أن تستوقفني معانيها .” الدقيقة ” بين القول و الدلالات…
هي عبارة قصيرة شائعة الاستعمال، قد نلفظها بلاوعي ونسمعها مرات عديدة في اليوم الواحد دون أن ندرك دلالاتها وأسرارها، وقد تكون صانعة للفارق في كل شيء بحياتنا . وفي عمقها  ليست مجرد طلب لتأجيل ما ، أو استعاجل لأمر معين أو طلب السماح، بقدر ما تحمل في طياتها دلالات فلسفية عن علاقتنا بالزمن، بالتحكم، بالوهم الجميل الذي نمارسه خلال لحظات ومحطات حياتنا اليومية، دون أن نوليها أي إهتمام، غافلين أو متغافلين عن الإنتباه إليها، مكتفين بالتركيز على الساعات والأيام. وبقليل من التعقل نجد أن حساب الوقت، أو قراءته ينبغي أن تكون بالدقيقة قبل الساعة أو غيرها. وأن نفكر فيما يمكن أن ننجزه خلالها . فادارة ” الدقيقة ” والتحكم فيها باتزان قد تغير من التوجه أو المصير، ليس في المجال العلمي أو التكنولوجي فحسب ، بل في كل مناحي الحياة اليومية بمختلف تشعباتها، ونحن نعيش الألفية الثالثة بكل شحوناتها ومتطلباتها.
لذا ينبغي أن لا ننسى ” الدقيقة ” في كل ما نحن مقبلون عليه، وعندما نصلها لحظة اتخاد القرار، ينبغي أن نعطي لأنفسنا فرصة للتأمل، التريت، الاتزان، فهي ستون ثانية ليس إلا، قد يتغير معها وفيها الكثير من الأمور، وتنحرف زاويتها ب180 درجة أو أكثر، شريطة  التخلي عن كل أنانية نركبها، وبعيدا عن كل رياء عاطفي أو إجتماعي، والحرص على السعي إلى التحلي بالموضوعية والعقلانية. فدقيقة واحدة كفيلة بجعلنا أكثر تمسكا بانسانيتنا، بعيدا عن أي غرور قد يلحقنا، ومعها يتغير مجرى حياتنا ومن يدور في فلكنا .
فعندما نقول دقيقة فقط، نظن أننا نملك من الوقت ما يكفي لنوقف العالم – أو على الأقل نسهم في ذاك الفعل – فنضغط على زر ” الإنتظار” مَا نِحِين لأنفسنا فرص استرجاع النَفَسَ ، للتفكير واعادته، للقرار المؤقت مما نحن فيه أو عليه.إنها الخدعة…
فالدقيقة ليست دقيقة ” كتعبير زمني ” بل هي ما نشحنها به من رغبات، أماني، خوف، توتر، قلق، ملل … ففي ظاهرها تحمل العبارة بساطة عملية، أما في باطنها فتستوطن مفارقة الزمن : هل نتحكم فيه أم هو المتحكم فينا ؟ وهل يسير بنا إلى ما يريده أو الى ما نريده ، أو يسعى اليه الآخر بنا ؟ . فنحن لا نملك الدقيقة، بل نراهن عليها عندما نقول : ” دقيقة من فضلك “، كما لو أنا نفاوض الزمن على تأجيل الإختيار، أو تمديد فترة اتخاد القرار، إنها محاولة أخيرة للقبض على لحظة حاسمة، قبل أن تنفلت الفرصة. وهي كذلك إعتراف غير معلن على أننا بحاجة إلى المزيد من الوقت دائما، لكننا نخجل من الإعتراف ، فنختزل حاجتنا ب”دقيقة ” وكأنها انفلات طوعي من الزمن لا يحسب، ولا يفضح دهشتنا أو حيرتنا أو قلقنا .
إن كثيرا من الأمور والوقائع تحدث أو يتغير منحاها بسرعة فائقة خلال تلكم ” الستون ثانية ” المتحدث عنها، ويكون معها الواحد (ة) منا منشرحا فرحا أو صاحب حق، لكن سرعان ما تنقلب الآية عكس ما كانت عليه خلال دقيقة واحدة، لذا يستوجب – دوما – استحضار مبدأ التريت والبحث عن الأعذار، حتى تخمد اللوعة الداخلية وتجف معها السيول الحارقة وتختفي الأفكار المزعجة، فيعود التوازن المفقود والتركيز الضائع، فتغمرنا سحابات الأعذار والمبررات الثاوية بين دقائق الأمور، ونصحح اعوجاجات كنا سنسير في دروبها المتشعبة، عن غير وعي بمنزلقاتها .
شهادات فكرية من الماضي:
يحضرني هنا ما حكاه أحد القضاة، عن قضية طلاق بين زوجين. فقد حدث أن أصرت الزوجة على الطلاق، – يقول القاضي -، فأجلت الطلاق إلى الجلسة الثانية، وأعدت التأجيل للمرة الثالثة، وهما يريدان إنهاء رابط حياتهما الزوجية، إلى  أن كانت الجلسة الأخيرة. فطلبت من الزوج أن يذكر عشر حسنات لزوجته في ورقة دون أن أقرأها، ثم طلبت نفس الأمر من الزوجة، وبعد ذلك طلبت منهما قراءة صامتة لما كتبه كل واحد عن الآخر ، وعندها خرجت لدقيقه واحدة، ولما عدت سمعت همسا يعاتب حبا كان قد كان، فقلت بعدها : هل أثبت الطلاق يا سيدتي ويا سيدي ؟ فقالا : لا … ولا … وألف لا .
وفي هذا السياق – كذلك – استرجع ما كان يرى به الفيلسوف الألماني “ مارتن هايدغر [ أن الإنسان كائن متجه نحو   “العدم ” ] وأن وجوده مشروط بالزمن لا بالثبات ، فعبارة دقيقة ليست استراحة بقدر ماهي قفزة لتأخير حتمي ولتجميد المجهول والحيلولة دونه. أما القديس  “سان أوغسطين ” فقد اعتبر أن الماضي والاتي وهمان ، وأن [ الزمن الحقيقي هو الحاضر الممتد ] . فما نفع الدقيقة إذن أن لم نكن فيها تماما ؟، ” فقط دقيقة ” ليست طلبا للتأمل، بل هي صرخة وجودية تقول : دعني أرتب ذاتي، قبل أن ينفلت مني كل شيء . وهي توق الإنسان الى معنى في زمن لا ولن يتوقف ، والى سيطرة في كون يفيض باللا يقين .
هامش للختم:
كم نحن بحاجة إلى نشر ألوية التأمل وأخد العبر ، ف” فقط دقيقة ” قد نغير بها حياتنا وحياة الآخرين معنا، ونصحح كل المسارات، لأنها عبارة تحمل الدعوة إلى الأمل، الصفاء، المحبة ، والى التأمل في قيمة الوقت وأثر اللحظة القصيرة / العابرة ، في اتخاد القرار الصائب. وعطفا عليه لن أنكوي – مرة أخرى – بجمر الدقائق أبدا.
ثريا الطاهري الورطاسي
طنجة في  25 ماي 2025

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com