الأديب نور الدين ضرار في حوار حصري لألوان
الشعر الحقيقي …من مظاهر أناقة الحياة خارج الرتابة
——————————–
الأديب نور الدين ضِرَار.. “شاعرُ التخوم البعيدة” المشدودُ لأكثر من أفق ومجال، كما يتحدد حضوره من خلال انعكاس تجربته في العديد من التوصيفات النقدية المواكبة لمنجزه الإبداعي.. رغم زهده في الأضواء، يبقى من الوجوه المعروفة في المشهد الثقافي المغربي.. أدركته حرفة الأدب في السبعينات من القرن الماضي، ليترسخ اسمه منذ الثمانينات بملامح ذاكَ المترحّل الجوّاب عبر سفرياته الموغلة في حياة العزلة والكتابة، تأليفا وترجمة وفنا.. من مجاميعه الشعرية المتواصلة منذ “تسكعات في خرائط التيه” أواخر التسعينات، إلى ترجماته المتنوعة في الشعر والرواية والتشكيل والموسيقى والتوثيق وقصص الأطفال.. ومنها إلى القصيدة الغنائية كما تَمَثّلها في السنوات الأخيرة بقبعة الفنان الشامل كلمة، ولحنا، وعزفا وغناء.. والتماساً لبعض أوجه هذا الزخم الإبداعي المتنوع، كان لي أن اغتنمتُ مناسبة زيارتي الأخيرة للمغرب فرصة لاستدراجه لهذا الحوار المتعجل، على أمل حوارات أخرى مستقبلا أكثر تفصيلا واستفاضة..
1- أستاذ نور الدين ضِرَار.. أنت مبدع واسمك مقترن بأكثر من مجال إبداعي.. حدثني أولا عن علاقتك الحميمية بالشعر خصوصا، والكتابة عموما..
فعلا، علاقتي بالشعر هي الوجه الأكثر ألفة وحميمية لعلاقتي الوثيقة بصميم الحياة.. الشعر هو ممارستي اليوميّة التي أباشرها بأشكالها المتعددة، وبكل مشمولاتها الماتعة، من قراءة وكتابة وموسيقى ورياضة وتواصل، بل بما في ذلك علاقاتي العابرة بعامة الناس.. الشعر، في اعتباري، هو ما يعطي الحياة نكهتها المميزة خارج ثقل العادة والروتين الذي يطال عيش الغالبية من العوام، وواقع السواد الأعظم أنهم ينشغلون باللهاث وراء طعام العيش ويَعمَون عن طعم الحياة، مع أنه بإمكانهم جميعا أن يتمتعوا بذوق فني دون أن يكونوا فنانين، كما بإمكانهم أن يتمتعوا بحس شاعري دون أن يكونوا شعراء..
ما أرمي إليه هنا، هو أني لا أقصر الاهتمام بالشعر على تعاطيه في حدود إطاره النصي، بل أقصد تمثلَه في بعده الرؤيوي والحياتي كأسلوب تفكير ونمط سلوك في فن العيش قبل أن يكون فنَّ ممارسةٍ في مجال الإبداع.. هذا هو الشعر في اعتباري الشخصي بما هو المحدد الأرقى لنوعية التفاعل مع المحيط، وأكثر من ذلك بما هو تمثل جمالي في رقي الحديث ومستوى التعامل ونوعية الحضور.. لأن الشعر الحقيقي هو في حد ذاته من مظاهر أناقة الحياة خارج الرتابة قبل أن يكون من خصائص أناقة الأسلوب في مجال الكتابة..
هكذا هو الشعر بالنسبة لي كقيمة شخصية، أما كقيمة رمزية فهو الأصل الضارب بجذوره في تاريخ الإبداع الإنساني، باعتباره بذرة الحياة الآولى في حضارة كل أمة من الأمم.. كما هو المنشأ البدئي عادة في طفولة كل مبدع أو مفكر.. وفي كل ذلك قد يشكل في سيرة البعض الشكل التعبيري الأنسب كرؤية للعالم، وفي سيرة البعض الآخر منصة إقلاع يشرئب من خلالها لآفاق فنية وفكرية أكثر اتساعا ورحابة..
2- قبل أيام، كان الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية. باعتبارك مترجما، برصيد وازن من العناوين التي قمت بتعريبها عن الفرنسية لدور نشر معروفة داخل المغرب وخارجه.. وسواء في مؤلفاتك أو ترجماتك تبقى العربية هي اللغة الأصل بالنسبة لك مقابل الفرنسية باعتبارها اللغة الظل.. لماذا هذا التوجه؟ وهل من تفسير لخلفية هذا الاختيار؟
اللغة العربية هي في أصلها لغة شعر وبيان كمبنى لفظي ومعنى دلالي.. لعل ذلك ما يجعلني بدوري كأني، بتعبير عبد الفتاح كيليطو، أتحدث جميع اللغات بالعربية.. وأحيانا يتهيأ لي كما لو أني ولدتُ شاعرا في قماط بأحزمة من تمائم جدي الذي كان عادة ما يلهج في حضرة مخالطيه، على سبيل التحية أو النصيحة، بآيات رضاء أو دعاء يستقي أغلبها من مخزون صدره ومحفوظ ذاكرته الفقهية.. كان هو المتعهد بتربيتي خلال الستينات، وقد نذرني منذ البداية لحفظ القرآن بالمسيد الذي ألحقني به في سن الرابعة في عهدة فقيه من أقرب أصدقائه، حتى أني تأخرتُ عملاً بوصيّته في الالتحاق بالمدرسة العصرية، ولم ألجها كتلميذ إلا بعد رحيله بفترة رحمة الله عليه.. هكذا كانت بداية تواشجي الفطري بقدسية العربية في صيغتها الربانية أولا، تمهيدا في مراحل لاحقة لتشكل علاقتي الجينية بالقصيدة الشعرية بأكثر من شكل فني وأسلوب تعبيري ولغة جمالية..
أكثر من ذلك، لا يغيب عنا تاريخيا لحد الآن أن العرب لم تكن لهم من فضيلة مخصوصة في كل أشكال التعبير غير الشعر، مقروناً بطهرانيته المسمطة على جدار الكعبة بماء الذهب.. وبعدها صار كل حافظ للقرآن كما لو كان بالضرورة راوية لشاعر الكون في أعظم قصيدة كونية، إذ كلها شعر وما هي بشعر.. وتبعا لذلك، صار من تقاليدنا الراسخة في لاوعينا الجمعي إلزام الشاعر باستلهام روح هذه الشعرية الربانية بكل قداستها المعجزة، دون الخروج عن طوق محاكاتها حتى لا يكون خارج الشعر بمعناه الجمالي بلاغيا ووجوديا.. ولعل هذا ما يجعل قصيدة الشعر الحر أو قصيدة النثر لا تزال لحد الآن بعد عقود على نشأتها مثار جدال حول تجنيسها مع التشكيك في شرعيتها لدى الكثيرين من عامة متذوقي القصيدة التقليدية والعمودية.. هذا رغم أن الشعر في جوهره جنس لا ينصّه ذوق ولا يخصّه شكل..
3- باعتبارك فنانا، بودنا أن نعرف امتداد كل ما ذكرت عن الشعر في سيرتك الإبداعية ، بقبعة الموسيقي -شاعرا ملحنا ومطربا- في إطار القصيدة الغنائية، كنوع فني يعتقد البعض أنها مهددة “بالانقراض” من الساحة المغربية والعربية؟
قد أجد في الشعر بعض الموسيقى بلغة معينة، لكني في الموسيقى أجد كلَّ الشعر بكل لغاته الممكنة.. وقد بدأت علاقتي بالموسيقى في سن مبكرة حفظا وسماعا منذ الطفولة، غير أنه لم يكن بالإمكان حينها ولوج المعهد لأسباب متعلقة بموانع أسرية إلا بعد تخرجي أستاذا، وعودتي للبيضاء بداية الثمانينات.. ثم لم ألبث، بعد أربع سنوات من التكوين، أن اضطررتُ لمغادرة المعهد من أجل متابعة دراستي الجامعية بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط. وفي مرحلة موالية، انقطعت كليا لمجال الكتابة والتأليف والنشر، على مسافة من ممارسة الموسيقى امتدت لثلاثة عقود متتالية إلا ما كان منها متابعة وسماعا، إلى أن قررت العودة مؤخرا في سياق خاص حاملا مشروعا فنيا متكاملا بتشجيع من بعض صداقاتي الفنية القريبة. كانت أول ثمار هذه التجربة أغنية “أنشودة حب” من إنتاج الأستاذة لطيفة القباج، لتتوالى بعدها عدة أعمال كان آخرها قبل أسابيع أغنية “لأني أحبك” من إنتاج دار الراوي للإنتاج الفني.. والآن أتهيأ لتطوير التجربة بتوجه مغاير من خلال الانفتاح على نصوص غير نصوصي باختيارات ضمن المعروض علي من الديوان المغربي.. ومن المرتقب أن يتم إنجازها لحنا وتوزيعا وتسجيلا خلال الموسم الحالي بحول الله..
4- أستاذ ضرار، نعرف أنك من أبناء الدار البيضاء بالميلاد والنشأة والدراسة ، لكنك اخترت الإقامة بعيدا عن ضجيج وصخب المدينة في تفرغ شبه كلي للفن والكتابة.. ماذا عن حياة الوحدة والتأمل والخلوة مع الذات كما تعيشها اليوم؟
هي عزلة اختيارية بصحبة ذاتي، ولم تكن أبدا وحدة اضطرارية خارج نمط حياتي، بدليل صداقاتي الأدبية الكثيرة عن قرب وبعد داخل المغرب وخارجه.. وأغلبها صداقات أدبية جميلة، خاصة منها التي تدخل في إطار التفاعل المستمر اهتماما ومتابعة وعطاء.. إنها عزلة تمنحني قدرا كبيرا من السكينة والسلام الداخلي، وتتيح لي فائضا مريحا من الوقت الكافي للتأمل والقراءة والكتابة وغيرها من مباهجي المحببة.. لذلك تبقى سعادتي غامرة بهذه العزلة العاهلة في أجواء غابوية أكثر جمالا وهدوءا وبساطة، أشعر في أفيائها أني صرتُ أكثر استمتاعا بحياتي مما كنت عليه فيما قبل بعديد من المدن التي تنقلت عبرها وسكنتها لمدد متفاوتة نسبيا خلال ما يفوق أربعين سنة من التجوال والترحال.
واقع الأمر، أني كنت متآلفاً دوما مع عزلتي الاختيارية، حتى حين كنت رهين ضجيج الأدغال الاسمنتية أو بقلب المتاهات الكوسموبوليتية التي لا قلب لها كما في مدينة مهولة كـ”الدار البيداء” بتعبير صديقي الشاعر ادريس الملياني.. ولطالما قرأتُ وكتبت في زحمة المقاهي المكتظة والحانات الصاخبة بكل المدن التي سكنتها، قبل أن أرتئي الاستقرار مؤخرا بإقامتي الغابوية .. لقد اخترت طواعية هذا النمط من الحياة قناعة مني أن أقسى شعور بالوحدة ليس بالضرورة مقروناً بالعيش وحيدا بقدر، ما هو مقرون بوطأة الغربة القاتلة خاصة في الاختلاط بالملايين من الوجوه المتناسخة، حيث لا أحد يتعرف أحدا، ولا أحَد يلتفت لأحد حتى بمجرّدِ سلامٍ أو تحية..
أنا رجلٌ سعيد بهذا الانغمار الكلي وجوديا وروحيا في عزلتي الاختيارية إنصاتاً للذات وإغراقاً فيما لا زال متاحاً أمامي من المسرات، بحيث من عادتي أن أستفيق يوميا لأحمد الله على مزيد من الحياة، وأجلس بهدوئي المعتاد لفنجان قهوتي على الكنبة في سطيحتي الأليفة، لأتأمل على مهل بياضَ كلِّ صبيحة مشرقة بخيوطها المتمددة أسطرا مشعة على بياض أوراقي، مستلهماً صوتَ الحفيف المتناغم مع إيقاع الخرير، أو همس خلفيةِ موسيقية لرفيفِ سربٍ عابرٍ من عصافير مهاجرة.. ومع ذلك، لا يفوتني في نفس الوقت، بين فقرة وفقرة، أن أتوقف للحظة، وأقف مشبكا ذراعي في وقت فسحة أو فترة استراحة، كي أتطلع من بعيد لهذا الأفق الأسود على نحو غير مطمئن لأدخنة تشوش بعينيَّ جمالية المشهد، كما اعتدتُ أن أراها بصورة وجوه مشوهة أو أجساد معطوبة، متصاعدة من عالم غارقٍ في يوميات الكوارث والحرائق والجثث المتفحمة.. حيث الكل يقتل الكل، في الأسواق والشوارع المزدحمة وكل الأمكنة المشتعلة، ببرودة دم وابتسامة فاترة..
إذن، الوحدة محكومة بمدى الحاجة للآخرين، بينما العزلة محكومة بنزوع الأرواح المهادنة لسلامها الداخلي واستغنائها الروحي بكنف الله عن عالم معتوهٍ لا شفاءَ له.. وهي فوق ذلك كل هذا الفائض من التجاوز والتجاهل الذي يتيح ما يكفي من الوقت للتفرغ للذات تأملا وقراءة وكتابة وإنصاتا.. من ثمة تبقى العزلة الاختيارية شكلا من أشكال الحياة المشفوعة بكل الأمل في أن تكون من صميم الحلم بالمتاح الأفضل والأجمل غير القابل للتنازع أو التقاسم مع الآخرين، ولا أدل على ذلك من التّسَتّر بظلمة الليل في بحر ديجوره لتملي نجومه وأقماره، كما الانصراف عن تفاهات الغير تاركا له لوحده فرصَ مواجهته اليائسة مع بؤسه ودماره..
5- ماذا عن تجربة النشر منذ البدايات؟ وكيف تواصل التجربة حاليا بعد إصدار عشرات العناوين إبداعا وتأليفا وترجمة وتقديما وإعدادا؟
تعود بدايات مساري في الكتابة لأواسط السبعينات، وهي فترة مكنتني من بعض المشاركات المبكرة كشاعر شاب في بعض الأمسيات والملتقيات الشبابية، لتنطلق بعدها البدايات الأولى لمساري في النشر أواسط الثمانينات، وذلك بقصيدتي التدشينية البكر “..وكان على سفر” التي تم نشرها مصنّفة بالمرتبة الأولى في مسابقة للشعراء الشباب، على أعمدة “أنوال” أشهر الصحف المغربية اليسارية، وأكثرها راديكالية آنذاك، أيام سنوات الجمر والرصاص..
بعدها ارتكنتُ لبياتِ شتويّ طويل ناهز ست سنوات استغرقتها في القراءة والكتابة بوتيرة متواصلة، كي أعاود الظهور بشكل خجول بنشر بعض النصوص على فترات متباعدة نسبيا بصفحات “بيان اليوم الثقافي”، إلى أن باشرتُ حضوري الفعلي بوتيرة منتظمة انطلاقا من أواسط التسعينات بملحق “الاتحاد الثقافي” ومجلة “الشعلة”، باعتبارهما حينها من أقوى المنابر الفكرية الأدبية إشعاعا، وأكثرها انتشارا وشيوعا. وكما أكدت العديد من الدراسات النقدية التي تناولت كتاباتي في حدود المنشور منها تلك المرحلة، يمكن ملامسة خلفيتها التقدمية البَيِّنَة، لكن بطابعها الشعري الذي يستثنيها بجدارة مؤكدة من المد الكاسح للشعر الإيديولوجي بنبرته الخطابية المنبرية كما شاع في تلك الفترة على نحو أقرب لصيغة البلاغ التحريضي.. هذا، مع احتفاظي على مسافة من الانتماء الحزبي في ظل متابعتي اللصيقة بمعترك الفكر السياسي، وحرصي في نفس الوقت على البقاء من ندرة شعراء المرحلة الذين أفلتوا بأعجوبة من مطبة التقوقع الدوغمائي الأعمى والانحسار المذهبي أو الحزبي الضيق..
كل ذلك، شكل أرضية صلبة لتفتق وعيي الفكري والأدبي، ضمن جيل توزعته الكثيرُ من التجاذبات السياسية والثقافية. لكن في ارتباط وثيق بمجريات الصراع الدائر في أوجِهِ، انطلاقا من رؤى متباينة لصميم العديد من قضايانا الوطنية والحقوقية المطروحة في ساحة النقاش العمومي، سرا وعلانية تبعا لمقتضيات المرحلة.. وقد تحفظت على نشر أغلب نصوص هذه الفترة في أرشيفي السري، ولم يكتب لها الصدور إلا في فترة متأخرة نسبيا تحت عنوان “تداعيات من زمن الحب والرصاص”..
بيد أن أول الإصدارات الشعرية كان “تسكعات في خرائط التيه” سنة 1999، وثانيها “توشيات لأهوال الحب والمطر” سنة 2012 لتتوالى بعدها إصدارات أخرى بالمغرب وخارجه في السنوات الموالية.. وجدير بالذكر أني واكبتها باقتحام تجربة الترجمة، وذلك بمنجز يعد حاليا بالعشرات من العناوين، مع دور نشر راقية وطنية وأجنبية، انطلاقا من الكتاب الصوفي “أناشيد البقاء” للمفكر الفرنسي ادريس لاهور سنة 2011، وانتهاء بشكل متزامن هذا العام بكتابَي “أفروتوبيا” للمفكر السينغالي فيلوين سار، و”تشظيات” مع الأديبة الفرنسية دومينيك بيرجو والتشكيلي المغربي ميلودي نويغة..
6- ماذا عن الهايكو؟ وكيف تقيم تجربته مغربيا ما دمت سباقا للكتابة فيه وعنه منذ أواسط العشرية الأولى من القرن؟
لعل أواصري الأولى بشعر الهايكو تعود للثمانينات من القرن الماضي في سياق مشروعي القرائي كشاعر شاب منغمر على حياء في التماس مسارب لبعض الشعريات العالمية المختزلة، وذلك في حدود ما كان متاحا منها بطيّات تآليف عربية أو فرنسية، بالخصوص مع توقيعات عز الدين المناصرة التي بدأها أواسط الستينات، وعبد الكبير الخطيبي في التماعاته عن “المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية” أواسط السبعينات، أو بعض التأويلات النظرية عن الهايكو الياباني كما أوردها رولان بارث في “شذرات خطاب عاشق” أواخر السبعينات.. فضلا عن الاستئناس بأشكال مقاربة أو مشابهة تندرج عامة في إطار ما يسمى الأدب الوجيز..
هذا للتأكيد على أن الهايكو في تجربتي المتواضعة لا يعدو أن يكون سوى محطة عابرة لم أفكر أبدا في طرق بابها على سبيل الاختصاص أو التوقف النهائي، إذ اعتبرته في مساري الشخصي مجرد أفق ضمن آفاق أخرى متعددة ارتأيتها لتنويع مرجعياتي الشعٍرية والفكرية والفنية.. بدليل نوعية إصداراتي الموزعة بين هايكو وقصيدة نثر وأدب أطفال وموسيقى وترجمة وتصوف في أكثر من مجال..
ولعل الأوراق التي سبقي بنشرها مبكرا عن كبار أعلام الهايكو الياباني صيف 2007 في ركن يومي بالصفحة الثقافية لجريدة الاتحاد الاشتراكي كان محض شغف شعري وفضول إعلامي، لكنه لم يمنعني من العودة مجددا للمجال أواسط العشرية الثانية للتفكير في نشر مجاميع إبداعية ومصنفات أنطولوجية وترجمية، قبل أن يجتاح الساحة هذا المد الكاسح من الهايكويين بما لا يحصى ولا يعد.. ومع ذلك، فمسألة السبق مغربيا على الأقل، لم تكن أبدا مسألة تخطيط في مساري الأدبي كَتَبارٍ عن ريادة موهومة أو زعامة مزعومة تشكل حاليا لدى الكثيرين من المتأخرين زمانيا ومعرفيا موضوع نزاع عقيم، بمقتضاه صار الهايكو شعرَ مَن لا شعر له، وتمخض عن فوضى عارمة بمئات الممارسين الشغوفين وعشرات الخبراء المنظرين وبضعة شعراء حقيقيين برصيد إبداعي وازن.. ويبقى الأهم وسط كل هذه التجاذبات الصاخبة والفوضى العارمة تلك الأصوات الهامسة بنصوصها اللافتة بكامل وعيها بالحدود المعرفية لاشتغالها والمقومات الشعرية لإبداعها، على تباين مشاربها وتفاوت أجيالها..وفي ذلك فليتنافس الهايكويون.