الشاعر إدريس شبلا في حوار حصري لجريدة ألوان من لافال بالكيبيك
لا شفاء من الشعر إلا بمزيد من الشعر
تعريف الكتابة:
الكتابة ليست سوى الانعكاس الفعلي للعوالم الداخلية التي يدور الشاعر في أفلاكها، كما تدور هي الأخرى في وعيه وفكره اللذان يحددان عنده رؤيته الذاتية للكون عموما؛ و كلما كانت مسافة الوعي بأسس الكتابة و أبعادها على قدر من العمق و النضج ساعد ذلك في تفرد الشاعر و تميزه في خطه الإبداعي. الكتابة كما أراها، تبقى ورشة مفتوحة على المجهول، فهي في اشتغال لا يتوقف على أدواتها وآفاقها، ليس ثمة إنجازات نهائية، إنما هي عملية عمودية نحو البحث عن أقصى تجليات الجمالي في القصيدة. في هذا المنحى، يبقى موكولا للشاعر تجديد أنفاسه الإبداعية حتى لا يقع في مستنقع اجترار ذاته من حيث لا يدري، عليه إذن أن يحتفظ بمسافة نقدية بينه وبين إنتاجاته، حتى يراها بعين موضوعية، ويبادر باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنقيح تجربته الإبداعية من كل الشوائب التي قد تطمس بريقها. من خلال هذا الدور الواعي بذاته ووظائفها يحقق الشاعر لمنتجه عمرا أطول وأصالة جلية التميز. مجمل القول، تبقى الكتابة محاولة للإمساك بالغيمة الزئبقية.
عن تجربتي الشعرية:
قصيدة النثر في طموحاتها ودوافعها التأسيسية كانت تروم مزيدا من الحرية فيما يتعلق بالضوابط و القواعد الشعرية، فهي قصيدة أرادت أن تتحلل شعريا من الأثقال التي تفرضها قيود الشعر التقليدي من وزن و قافية و توزيع بصري، على سبيل المثال. قصيدة النثر تعتمد الإيقاع النفسي أو الدلالي كبدائل للوزن بمفهومه الكلاسيكي وربما اعتمدت على تراكيب الصورة الشعرية اللانمطية. وقد تشكلت ملامح هذا الاتجاه الشعر ي الجديد مع الشاعر الفرنسي شارل بودلير، كواحد من الشعراء الذين أسّسوا لهذا التوجه الشعري حينها. فكانت هناك قطيعة بصرية مورفولوجية مع الإرث الكلاسيكي على منوال فيكتور هيجو وألفونس لامارتين.
الكتابة باللغتين:
غالبا اللحظة الشعرية هي التي تفرض اللغة التي أكتب بها وفيها. فاللغة ليست وعاء فكريا أو فنيا فقط، إنما هي وجود قائم بذاته. فكل لغة كمؤسسة اجتماعية لها معاييرها ومرجعياتها الخاصة بها، لذلك فهي التي منطقيا تستدعي نسقها الجمالي. على هذا الأساس، فما أكتبه باللغة العربية مثلا، أفضل أن يبقى ضمن هذه اللغة التي ولد فيها، لأن كل ترجمة، ستفقده الكثير من أصالته ورونقه الأولي. الترجمة ليست سوى وسيلة لتقريب المعنى، لكنها إجرائيا تبقى عاجزة عن نقل كل الحمولات المختلفة للنص الأصلي نحو لغة أخر، لهذا قيل إن (الترجمة خيانة) بما أن لكل لغة مرجعياتها الثقافية والاجتماعية وغيرها، فعملية نقل كل هذا الزخم من المكونات المجردة تستعصي ولا يمكن الوفاء لها بكل أمانة.
الإبداع .. البدايات… المراحل… اللحظة الحالية. بين الأصوات المغربية والكندية:
بداياتي الإبداعية كانت في منتصف الثمانينات، حيث بدأت بنشر كتاباتي بجريدتي البيان والميثاق، بالخصوص، لأن الجرائد الأخرى في غالبها كانت تنشر للمنتمين لأحزابها. البدايات كما في كل جوانب الحياة الأخرى، تكون دائما صعبة، لأنها المرحلة التي تتشكل خلالها الذات الإبداعية و هي في مهمة البحث عن صوتها المتفرد و إثبات الذات بين الأصوات الأخرى. دون شك ضمن هذه الرحلة الفكرية الجمالية، يتأثر كل مبدع مبتدئ بالنماذج المؤثرة في الساحة الإبداعية، بدوري اقتربت من شعر أدونيس، نزار قباني، محمود درويش وآخرين. لأنهم كانوا يتصدرون المشهد الثقافي حينها. و تبقى وظيفة الشاعر الصعبة هي إسكات كل الأصوات التي تتكلم بداخله، حتى لا يبقى منها سوى صوته. حاليا همي الأول والأخير، هو كتابة قصيدة، يعرفني من خلالها القارئ، بمعنى تحقيق أسلوب شعري خالص، ليس لأحد غيري. فيما يتعلق بحضور الشعر المغربي بكندا، يظل نسبيا، فأنا حقيقة لم أصادف الكثير من الشعراء المغاربة هنا بكندا، آمل يتسع حيز الشعر المغربي هنا بكل اللغات، لأن ذلك سيسهم فعليا في الرفع من مستوى التلاقح الأدبي بين الثقافتين، وهو أمر سوف يغني المشهد الأدبي لدينا هنا كشعراء بالمهجر.
الهجرة لكندا اختيار:
هجرتي لكندا لم تكمن نزوة، إنما كانت ضمن مشروع عائلي، حيث هاجرت مع زوجتي و ابني و ابنتي. من أجل خوض تجربة حياتية جديدة في أفق تحقيق أحلامنا وأحلام أطفالنا. الهجرة في بعدها الوجودي، هي قطيعة ابستيمولوجية مع الحاضر للانتقال إلى زمن آخر والبناء من الصفر، العملية ليست دائما ناجحة، باعتبار العوامل المختلفة التي تحدد معالمها و نسبة نجاحها. ويبقى تحدي المهاجر الأكبر هو إلى أي مدى يوفق بين إرثه الثقافي الحضاري وتحديات البلد المضيف، أين يشتعل تحدي الهويات.
تقييم إبداع المهجر:
بما أن المكان له تأثير على نفسية المبدع، فمن الطبيعي أن تكون لإبداع المهجر خصوصية و مميزات، قد لا تكون في غيره من الإبداعات. بشكل عام فهو غني من حيث المواضيع، وإن كان محوره بدرجة أعلى، الغربة والحنين. كما أنه قد يكون أكثر عمقا ونضجا، لأنه يزاوج بين ثقافات ومرجعيات مختلفة. وقد سبقنا إلى هذا البلد، مبدعون أمثال جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة و غيرهم، حيث استفاد المبدعون الذين جاؤوا من بعدهم من تجاربهم التي وظفت كمنارات في طريق الهجرة و الإبداع على حد سواء.
حضور النقد للإبداع بالمهجر:
النقد تجاه الإبداع بالمهجر حاضر، لكن ليس بالقدر الذي يواكب في اعتقادي العملية الإبداعية بشكل أفقي واسع. يبقى هذا النقد معزولا ومناسباتيا و زبونيا ، و هذا ما لا يعكس الصورة الحقيقية للحركة الإبداعية في المهجر عموما. في كثير من الأحيان أصادف مقالات نقدية تعتمد إسقاطات فضفاضة لا علاقة لها بالنص قيد الدراسة لا من قريب ولا من بعيد، أمر يحز فعلا في النفس بكل مرارة. فلا الناقد على علم دقيق بتفاصيل المناهج النقدية، ومدى ملاءمتها للمتن المراد دراسته، و لا هو موضوعي بما يكفي لينتقي بكل أمانة النصوص التي تستحق فعلا دراسات نقدية، قصد تقريبها من القارئ، و المساهمة في عملية تداولها بين القراء.
هل هناك قراء للشعر:
أظن أن رقعة قراء الشعر آخذة في التقلص، و هذا ليس غريبا، لأن جمهور الشعر يبقى غالبا محدودا، خاصة في زمن القصة و الرواية، و قد يكون مرد ذلك للغة الشعرية ذاتها، التي ليست لغة مباشرة تقريرية؛ إنما تعتمد الرمز و المجاز في تواصلها مع القارئ. نحن لسنا في الزمن الذي كان فيه الشعر ديوان العرب، فقد اتسع هذا الديوان ليشمل أشياء أخرى غير الشعر. هناك من يتساءل عن مستقبل الشعر، هل ستحتفظ القصيدة بموطئ قدم ضمن كل هذه المستجدات، في رأيي الكل متوقف على شكل العلاقة التي ستحدّدها مجموعة من العوامل بين الشعر والمتلقي في عمومها.
الشعر داء لم يجد له الشعراء دواء:
فعلا فالشعر هم لا يخبو في دواخل الشاعر، فلا شفاء من الشعر إلا بمزيد من الشعر. حيث تعدو الكتابة انشغالا يومياً وليس نزوة أو ضربة شمس. الشعر رؤيا ينفذ الشاعر من خلالها إلى أبعاد الوجود المختلفة، فكما أن الفلسفة وجدت في وقت ما لتفسير الكون، ثم انتقلت إلى وظيفة تغييره.. فكذلك الشعر قد تتعدد وظائفه انطلاقا بالأساس من زاوية الرؤية و الرؤيا.
قناة الشعر:
هي نافذة أدبية أحاول من خلالها أن أطل على محبي الشعر خاصة، عبر قراءات شعرية، لأني أومن أن الشعر في المقام الأول هو نشاط شفهي و هذه العلاقة الحوارية أعمق من فعل القراءة. حيث تتحول القراءة الشعرية إلى عملية إبداعية ثانية، على اعتبار أن كل قراءة، هي ولادة نص جديد و هكذا دواليك.
كلمة أخيرة :
أرجو أن تتسع قاعدة قراء الشعر، لأن هذا الأمر سيعطي الزخم المطلوب للقفز بالمتن الشعر ي إلى مستوى استهلاكي أكبر، مما سيمنح المبدع هذه الدفعة المعنوية للمزيد من الاستثمار الفكري و الجمالي في بورصة الشعر، و إن كان الإبداع لا يتوقف على هذا النوع من المحفزات، و في نفس الوقت ينهض بمستوى الذوق الجمالي لدى المتلقي من خلال رفع مستوى الوعي بالإبداع و وظائفه المتعددة الأهداف.
في نهاية هذه الكلمة، أتوجه بالشكر للسيدة زهرة ولجريدة ألوان على هذا الحوار، الذي أعطاني فرصة التواصل مع القراء بلغة غير شعرية.
القصيدة:
نبــــــي الحـــــزن
إلى الظل الممدودِ
و الخمر المسكوبِ
و الزمن الموعودِ
و القطوف الدانيةِ
في عينيها
خذني يا نبي الحزنِ
قد يكذبني بنو قومي
و قد يحرقون
نكال هيامي، شفتيها
من غيرك الشاهدُ
على أنين الحب
في دمي
و القابضُ بناصية وجعي
أمهلني جرحا أو جرحين
لأعدَّ المسافة للحنين
و أخلعَ عن شجرة الألم
أبجدية الصمت
كن عصايْ كن هارونَ
كن أنايْ
لتقسوَّ هذه الشمسُ أكثرْ
فأشربَ من يد الليل
كأس السكون المورق
و أخْلَدَ للتيه
دفعة واحدة
بعيدا عن أقمارها
قلبي حصانٌ مخمورٌ
يفتش عن غيمة زرقاءْ
في خضرة عطرها
و هي لا تظهرُ
إلا فوق ربوة الغياب
و تبدو أبعد
من كوكب الحلم
تجرها عربة السحابِ
إلى العدمْ
هذه ساعتك، فخذ إليها
نارك و زادك في الحب
خذ مدخراتك من الألآم
و خذ كتاب البحر
لعل زرقة الموج
تذيبُ في عينيها
غرائز الرخامْ
ترجل عن صهوة البلاغة
ففي همسها الدافئِ
ما يبعثرُ الفصول
في القلب
و فيه ما لا تستطيعه أوتار الريح
و ثلج المسافةْ
يكسو ظلال الزمن
فيه غيمةٌ مرمريةٌ
فاقع لونها
تلوح للهاربين إلى نارها
و لا تكلُّ
هذه يدها الشاردةُ
تدل على حرائق الشوق
المكلل بالدمعْ
منْ أحبَّ النساءْ
فقد بايع إمام البكاءْ
هو لن يموت من عطشٍ
و لن تجرحه الذكرياتُ
ربما نفعته الآن
سيرة الأجداد في الغرام
فهو آيس من كتابات
سوفوكل عن لعنة الوجود
و مما ادخر همينجواي
من دم لغوي
في شوارع هافانا
حتى تكسرَ ظل حبرهْ
تحت حوافر الشمس
ليت الاستعارة أسعفتهُ
ليموت دون أن يموتْ
و لكن الشيخ
أمِنَ مكر البحرْ
و راح يضمد أجفانه
دون حذر
لمَ كل هذا الجنون
فالقلب المكلوم لا يصلح
سائسا للحب
و هذا الصدى
حظ العاشق
من وصايا عينيها
تبا لأيقونة ضمتْ
جبال الحب إليها
فأرغمته على السقوطْ
أما أنا
فالجراح خطاي
سأحب حتى ينفد الشوق
من أنفاس الجليد
حتى أدفنَ أسرار البحر كلها
في زبد وجنتيك
صار الدمع على كتفي
عشا لأشجار الأسى
أغفو حين يوجعني الكيُّ
و أغطي الليلَ
بوعد من حلو القبلْ
أقول عبثا
أقبلي
يا وعد السماءْ
قد أعددت لك من أضلعي
جسرا
من ذكريات الندى
و السحابْ
فأنا لا أحب
إلا خارج الأسماء
لا كأس خارج عينيك
يشربها قلبي
و الظمأ رحلة شتاء و صيفْ
مثلُكِ لا ترهقه المرايا
و لا تغريه شموع المعابدْ
فأنت نار في كل المواقد
في قاع الأرقِ
هوت مواجعي
و لولا شهقة الحب
لما صنتُ فيَّ لأجلك فواجعي
إدريـــس شبلا