بين التحصين الرمزي والامتثال السياسي

… يساءل التطبيع مجازيا
(قراءة في موقف جمعية هيئات المحامين من التطبيع الرسمي)
بقلم: ذ. مصطفى المنوزي
إن موقف جمعية هيئات المحامين بالمغرب من تطبيع الدولة المغربية مع الكيان الإسرائيلي ؛ يُثير إشكالًا جوهريًا في علاقة المهن القانونية، وخاصة المحاماة، بالمواقف السياسية الوطنية والدولية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بقضايا ذات حمولة رمزية وأخلاقية كقضية التطبيع مع الكيان الصهيوني .
في نظري، اكتفاء جمعية هيئات المحامين بالمغرب بتوصية تحرم ( تمنع ) المحامين من التطبيع، دون اتخاذ موقف صريح من تطبيع الدولة المغربية الرسمي، يمكن تفسيره بعدة اعتبارات متداخلة:
1. محدودية الهامش المؤسساتي وميزان القوى الداخلي :
إن جمعية هيئات المحامين كجهاز تمثيلي مهني غير منتخب بصفة مباشرة ، تخضع لتوازنات داخلية بين هيئات لها توجهات سياسية وفكرية متباينة. بعض الهيئات ربما ترى في اتخاذ موقف معارض لخيارات الدولة السياسية الرسمية مخاطرة أو تجاوزًا للدور المهني، في إنتقالات ديموغرافية لم تتحول نوعيا في المنحى التقدمي ؛ بينما تكتفي بمواقف رمزية تحافظ على إجماع ظاهري، كمنع التطبيع المهني الفردي دون الدخول في الصدام مع الدولة ، والتي لا يمكن إخفاء أن المد المذهبي والسياسي حصل فيه تناوبات قسرية أثرت على الخيارات .
2. التفريق بين الموقف الأخلاقي المهني والموقف السياسي الوطني:
في نظري قد يكون هناك وعي ضمني أو صريح لدى قيادة الجمعية ، والتي تتعامل مع القضية بحساسية معينة ، بأن من صلاحياتها فقط تأطير السلوك المهني للمحامين من زاوية أخلاقية وتاريخية مرتبطة بالموقف من الصهيونية كقضية عادلة، دون أن ترى نفسها معنية بإصدار مواقف سياسية تجاه سياسات الدولة الخارجية والتي، كالأمن والدين شأن محفوظ للدولة في شخص الملك .
3. محاولة التوفيق بين الحساسية الوطنية والمهنية:
ربما رغبت قيادة الجمعية في الحفاظ على الموقف التاريخي للقانونيين المغاربة الداعم للقضية الفلسطينية، دون أن تصطدم مباشرة مع واقع التطبيع الرسمي الذي أصبح جزءً من السياسة الخارجية المغربية منذ 2020، وبالتالي اختارت هدفًا أقل تكلفة: منع التطبيع على مستوى الممارسة المهنية، دون المسّ بالسلطة السياسية.
4. الخشية من التسييس أو استهداف الجمعية:
اتخاذ موقف من الدولة قد يُعرض الجمعية لاتهامات بـ”تسييس المهنة”، أو يُستخدم ضدها لتقليص استقلاليتها. وربما اختارت الجمعية استراتيجية “التحصين الرمزي” عبر التركيز على البعد المهني في رفض التطبيع، كنوع من المقاومة الرمزية داخل الممكن القانوني.
5. الخطاب الشعبوي الإرضائي:
وفي إطار حسن النية ، نعتبر أنه في سياق ضغط الشارع والنقابات والمنظمات الحقوقية، قد تكون التوصية مجرد محاولة لإرضاء الرأي العام الرافض للتطبيع، دون تبني موقف جذري من الدولة، مما يعكس ازدواجية خطابية بين الالتزام المهني والامتثال السياسي ، والحال لم يكن من الداعي السقوط في فخ التردد والإحراج وذلك بالعمل على تبني موقف إتحاد المحامين العرب وعلى حاله .
و بالمجمل، فإن هذا الموقف “الانتقائي” للجمعية يُظهر حدود الدور السياسي للمؤسسات المهنية في ظل بيئة سياسية متوترة ومضبوطة، وخريطة تعدديا حزبيا دون سياسيا ومذهبيا ، حيث مواقف جل الأحزاب تتماهى مع الموقغ الرسمي ، بإسم ” كم من أمور قضيناها بتركها ” ، ويَطرح سؤالًا أعمق:
ما حدود استقلالية الهيئات المهنية في التعبير عن المواقف السيادية حين تتعارض مع اختيارات الدولة؟
السؤال الذي يمكن أن يُطرح أيضًا هو:
هل نحتاج اليوم إلى بلورة ميثاق وطني مدني مستقل يتبنى سردية مضادة للتطبيع ويمنح مشروعية أخلاقية موحدة لمختلف الفاعلين في المجتمع المدني والمؤسسات المهنية؟
إنه سؤال يصعب فيه الإطلاق لتعدد الاولويات الإستراتيجية خاصة بعد أن اقترن موازاة بالقضية الصحراوية الوطنية ؛ إلى درجة أن البعض قدسها والآخر لم يدنسها ولكن صنفها مجرد سردية مضادة لأجل المقايضة !