استقلالية المحاماة…

استقلالية المحاماة…

 شرط لتحقيق العدالة لا مجرد امتياز مهني..

بقلم : * مصطفى المنوزي
* رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي
بمناسبة صدور بلاغ لجمعية هيئات المحامين بالمغرب لوحظ بأنه تم تغبير شعار المؤتمر الوطني إلى” المحاماة فاعل وشريك أساسي في تحقيق العدالة ” بعد أن كان مسطرا في الملصق الرسمي للمؤتمر بالصيغة التالية “”المحاماة فاعل وشريك أساسي في منظومة العدالة “” .
ولقد أثار هذا التغيير نقاشا كبيرا في الصفوف ، ورغم أن الشعار لم يتغير بعد بصفة رسمية، ما دام لم يعدل في الملصق الرسمي ؛ فإنني منذ البداية أعبر عن موقفي من الصيغتين بالتركيز على أن فعل تحقيق العدالة أهم بكثير من فعل الوجود داخل منظومة العدالة ؛ لأن تحقيق العدالة لا يمكن أن يتم إلا من خلال الكينونة داخل المنظومة ، في حين إن الوجود داخل منظومة العدالة لا يعد.إقرارا للمحاماة بأنها تحقق العدالة . ففي خضم النقاش الدائر حول إصلاح منظومة العدالة، كثيرًا ما يتم التعاطي مع مهنة المحاماة من زاوية تقنية صرفة، باعتبارها وظيفة مساندة أو طرفًا ثانويًا في المعادلة القضائية. غير أن هذا التصور القاصر يُغفل البعد الجوهري للمحاماة كمكون أصيل في تحقيق العدالة، لا مجرد عنصر من عناصر إنتاج الأحكام أو تدبير المنازعات.
فالمحاماة، في جوهرها، ليست مهنة كباقي المهن، بل هي سلطة معنوية وقانونية، تمثل الضمير اليقظ للمجتمع، وخط الدفاع الأول عن الحقوق والحريات. ومن هذا المنطلق، فإن استقلالية المحامي ليست امتيازًا شخصيًا يُمنح له، بل هي ضمانة مؤسستية ومجتمعية تُكفل للمواطنين إمكانية ولوج عادل ومنصف إلى العدالة. ولذلك فذكاء من عدل الشعار يروم التعبير وتجسيد الإنتقال من صيغة التواجد ضمن المنظومة إلى صيغة الكينونة المنتجة للعدالة ، و منها يؤكد الإرتقاء من الاستقلال المهني كتحصيل حاصل ، إلى الفعل المجتمعي كغاية نبيلة ومسؤولية إجتماعية بمقاربة ميتا – حقوقية ولبعد سياسي تشاركي . من هنا فإن الحديث عن المحامي كفاعل وشريك أساسي في تحقيق العدالة، لا يقتصر على حضوره داخل منظومة العدالة كمؤسسة، بل يمتد إلى أدواره المجتمعية في حماية المتقاضين / الضحايا، وتحصين المحاكمة العادلة، والمساهمة في إعادة بناء الثقة في العدالة كقيمة، لا كإجراء مسطري فقط. وفي هذا السياق، فإن استقلالية المحامي تسمح له بأداء دوره بحرية وموضوعية، بعيدًا عن كل أشكال التأثير أو الضغوط، سواء كانت صادرة عن سلطة الدولةومؤسساتها ؛ أو عن الرأي العام، أو حتى عن موكليه.
وإذا كانت القضاء ( قبل أن يتحول دستوريا إلى السلطة القضائية ) قد ناضل تاريخيًا ، بريادة المحاميات والمحامين ، من أجل تكريس استقلاله ، فإن المحاماة بدورها تستحق نفس الحظوة، لأن المحامي المستقل هو الضامن لحق الدفاع، ولا دفاع فعال دون استقلال فعلي ، من هنا وجب التفكير في دسترة المحاماة لتأكيد هذه الرسالة والغاية ، أي تحقيق العدالة وليس فقط المشاركة في صياغة ” الحقيقة القضائية ” ، ولتأكيد حرية المحامي واستقلالية المحاماة ، كعضو منتج لقيم الحرية والعدالة،
وهذا ما يضمن الحماية من مخاطر التبعية المقنّعة ، وبدون تحصين جسم المحاماة دستوريا ، فغالبًا ما تكون التهديدات الموجهة لاستقلالية المحاماة ناعمة وخفيةومؤدبة ( بكسر الدال ) : من خلال تضييق التشريعات، أو المساس بالحصانة، أو الهيمنة على مؤسسات التكوين والتنظيم الذاتي. وهي مخاطر تُفرغ استقلالية المحامي من مضمونها، وتحوله إلى مجرد ناقل للمعلومة القانونيةوسارد للوقائع ، لا إلى شريك في تحقيق العدالة. كما أن غياب حماية حقيقية للمحامين، خاصة في القضايا ذات البعد السياسي أو الحقوقي، يُقوّض الثقة في دورهم ويُضعف الوظيفة المجتمعية للمهنة.
لذا ومن أجل ضمانات تشريعية ومؤسسية ، وجب أن يتم الرهان على استقلال المحاماة و أن يُترجم في ثلاث مستويات أساسية:
1. ضمانات تشريعية: من خلال تنقيح القوانين المنظمة للمهنة بما يعزز الحرية المهنية، ويوسّع من نطاق الحصانة المشروع ويُحصّن سرية العلاقة مع الموكل.
2. استقلال تنظيمي: عبر تقوية الهياكل المهنية المنتخبة، وضمان حيادها تجاه السلطة التنفيذية، والارتقاء بأخلاقيات المهنة من خلال مدونة سلوك موحدة وملزمة .
3. تقدير وإعتراف مجتمعيين ، وذلك عبر إعادة الاعتبار لدور المحامي كمثقف حقوقي، ومواكبة حضوره في الإعلام والمدرسة والجامعة، لتكريس صورة المحاماة كرافعة للعدالة، لا مجرد وسيط قانوني.
فلنبق إذا على الصيغة الجديدة للشعار ، فهو يكرس فعلا سمو رسالة المحاماة من أجل عدالة مستقلة ينتجها المحامي الحر والنزيه ، فالعدالة يحققها المحامي في حين يتمنى القاضي أن يكون منصفا من خلال حقيقته القضائية !
وقد وجب الإقرار لأنه لا عدالة بلا قضاء مستقل، ولا قضاء مستقل دون دفاع حرّ. فكلما كانت المحاماة مستقلة، كانت العدالة ممكنة. وكلما تم اختزال المحامي في وظيفته الشكلية، تم إفراغ العدالة من بعدها القيمي. من هنا، فإن تعزيز استقلالية المحاماة ليس شأنا مهنيا داخليًا، بل قضية مجتمعية بامتياز، لأنها تمس جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن، بين السلطة والحق.
من هنا نتمنى من فعاليات المؤتمر أن تنتج بيات وقرارات وتوصبات ترفع سقف النقاش العمومي حول إصلاح العدالة من خلال التركيز على البعد القيمي للمحاماة، بالتأكيد.على أن استقلاليتها شرط لعدالة حقيقية وليست ترفًا مهنيًا. وعلى الجميع أن ينقض و ينتقد النظرة التقنية الضيقة للمحامي، بالدعوة والعمل على رد الإعتبار للمحاماة كشريكً في صنع العدالة كموطن للإنسان ، وليس مجرد طرف في “خط إنتاج” الأحكام وفق وصاية الأجال الإسترشادية المفيدة كميا بدل كيفيا .
وبذلك نكون بهذا الطرح قد ساهمنا في التعبير عن إرادتنا السياسية والميتا- حقوقية من أجل العمل على تجاوز الإصلاح الشكلي لمنظومة العدالة إلى إصلاح جوهري يُعيد تعريف الأدوار ويُؤسس لعلاقة تكاملية بين المحاماة والقضاء، حيث يكون استقلال الأولى ضمانة قوية لحياد الثانية.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *