مصالحة اللغــة مع الهويـــة
” التعلم في الصغر كالنقش على الحجر “
بقلم: المصطفى تكاني
شغلتني ردحا من الزمن عبارات حفظَـتْها ذاكرتي منذ الصغر ، بل تم نحتها في ذاكرة اللاوعي في باب الحافلة حين نزولنا منها نجد يافطة معدنية ملصقة أعلى الباب كتبت عليها العبارة التالية : ” النهائي والهبوط قبل الوقوف ” ولم أدرك أولا المقصود اللغوي منها إلا بعد قراءة عبارة باللغة الفرنسية أعلاها تؤكد مدلول عدم النزول من باب الحافلة إلا بعد التوقف الكامل للحافلة وهي : (Ne pas descendre avant l’arrêt complet ) ؛ تلك العبارة التي كتبت بالحروف العربية ، هي من مخلفات فترة الحماية وأوائل الاستقلال . عدا غيرها من العبارات المكتوبة في العديد من الأماكن والشوارع التي نجتازها من البيت إلى المدرسة ؛ لقد كانت الشركات المكلفة بطبع هذه اليافطات تمتلكها مؤسساتٌ غير عربية مغربية ، تستند في كتابتها على ترجـمان لغــوي عنيد مـع اللغة العربية لنقـل الترجمة الميكانيكية من معـاجم غـير مـوثوقة لا صـلة لها بالهوية العربيـة . وقد اختـفت تلك العبارات بعد تغيير شركة الحافلات العمومية من (TAC) إلى (RATC ) بمدينة الدار البيضاء . فأصبحت في خبر كان .
وكنا نستمتع صغارا بالأفلام الهندية بقصصها المثيرة : الأم الهندية / الصداقة ” دوستي ” / ” مانجالا ” / ساحر جهنم … وغيرها . وبقدر ما شدتنا قصصُها وأغانيها باللغة الهندية فقد حفظها بعضنا عن ظهر قلب . لكن ما زادنا شوقا لارتياد هذه الأفلام الهندية حواراتها المترجمةُ إلى اللغة العربية الدارجة بالجهد الكبير الذي قام به المترجم القائم بالدبلجة السيد إبراهيم السايح رحمه الله . وما أثارنا من مثل ما وقفنا عليه من ” دبلجة ” في بعض الأفـلام باللغة العربية الدارجة وهو ما كان يقوله البطل ( أعتقد أنه الممثل الهندي الشهير ” راج كابور” ) بعد استيقاظه وخروجه من منزله وإلقاء نظرة عن الحشد من الجماهير أمام الساحة قوله مستغربا : ” هاي هاي شحال ديال المروك ” . فقلت مع نفسي : هل المغرب قطعة جغرافية وسط الهند أم الهنود يعيشون في المغرب ؟؟؟ .
فاختلطت علينا اللغة الدارجة بمواقع الخرائط ، ولا نبالي باللغة بقدر ما تؤثر في مساراتنا الحياتية قصص الهند وأغانيها وجمالُ رقصاتها وراقصاتها … وكان الأمر عاديا بالنسبة للغة الدارجة ؛ لأن السليم لغويا هو ما كنا ندرس في الأقسام والكتب والمراجع باللغة العربية الفصحى . واعتبرنا تلك العبارات منطلقَ نكثنا وضحكاتنا وفرحنا وحواراتنا … لأن أساتذتنا الأفاضل علمونا اللغة العربية في دروسنا بمختلف المواد الدراسية دون كلل ، أو تشويه ، وتشربنا لغتنا العربية معهم من المحفوظات والقصائد ؛ بل بعضنا كان يُـعيد فقراتٍ من نصوص الكتب المدرسية النثرية في كتب المطالعة والقراءة والتلاوة المفسرة المقررة ؛ سواء بالتعليم الابتدائي أو الثانوي . فحفظنا نصوصا من أمثال نصوص: ” الحيوانات المرضى بالطاعون ” وغيرها . وهو ما أقدرَنَـا على التمييز بين اللغة السليمة واللغة الدارجة المندسة في حياتنا . فكبرنا مع لغتنا العربية الفصحى و هويتنا .
وحين كبرنا وأتيحت لنا فرص التنقل والسفر خارج الوطن صدمتني عباراتٌ كُتبت في شاشاتِ عَـرضِ البيانات والخرائط للمدن التي تعبُـرها طائرة للخطوط الملكية المغربية فوق سماء بلدنا الحبيب ، وقد جلس بجانبي طفل مغربي ننظر إلى ما هو مكتوب في تلك الشاشات من أسماء المدن المغربية ؛ كتب بها ما يلي بالحروف العربية هكذا : ” ميكنيس” /” رابات “/ ” كازابلانكا ” / ” صافي ” ، فسألني هذا الطفل ببراءة : أين تقع هذه المدن ؟ ، فقلت له وشرحت بلغة بسيطة : ” ميكنيس ” هي مدينة مكناس التي أسسها السلطان مولاي إسماعيل وكانت عاصمة للدولة العلوية ، وأن ” رابات ” هي مدينة الرباط التي أسسها الموحدون واتخذوها عاصمة لهم أولا ، وهي الآن العاصمة الإدارية للمغرب ، وأن ” كازابلانكا ” هي الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية ، وأن ” صافي ” هي مدينة آسفي و” صافي ” ، فضحكنا . ولقد قامت شركة الخطوط الملكية المغربية لتدارك هذه الأخطاء اللغوية التي خِـفْـتُ أن تنحث في ذاكرة هذا الطفل كما نحتت أخطاء أخرى في ذاكرتنا جميعا منذ الصغر لأن ” التعلم في الصغر كالنقش على الحجر ” كما يقول المثل ، وألفيت في أسفار أخرى أن هذه العبارات صُححت بعد أن عَـمَّـرَتْ ردحا من الزمن .
لكن كما قال الشاعر :
” إذا رأيت لرب البيت بالدف ضاربا *** فشيمة أهل البيت كلهم الرقص “
وفي صيغة المثل : ” فلا تلم الصبيان في حالة الرقص ” .
لكن ؛ استدراكا مرة أخرى ؛ حين نسمع في مرات عديدة ، ويشهد على ذلك عِـليةُ القوم على مرأى ومسمع منهم ، قول المسؤول الأول على التعليم بالمغرب وهو يرد عن أسئلة شفهية في البرلمان كتابةً ؛ من ورقةٍ أمامه ؛ كُتبت باللغة العربية الدارجة ، ويـتـلعـثم في قراءتهـا و ” يُـحَـنْـززُ ” فيها وكأنهـا طلاسم أمامه ، نُـحِسُّ أننا فقدنا السفينة والمجداف ، وكانت وجهـتـنا ضبابيةً وسط عُبابِ أمواجٍ عاتيةٍ نفقد معها البوصلة وعِـلم النجوم ، آنذاك نبكي على حالنا وحال اللغة العربية مع الشاعر حافظ إبراهيم :
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي *** وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني *** عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِــــــداتي وَلَدتُ ولمَّا لم أجِــدْ لعرائسي *** رِجــالاً وأَكــــفـــاءً وَأَدْتُ بنــــــاتِي …
فلا تَكِلُــــوني للزّمانِ فإنّني *** أخـــافُ عليكم أن تَحيـــنَ وَفــــاتي …
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ *** بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى *** وتُنبِتُ في تلك الرُّمُـوسِ رُفاتي وإمّــــا مَـمــاتٌ لا قيامَــة َ بَعدَهُ *** مَـــمـــاتٌ لَعَمْرِي لمْ يُــقــَسْ بمماتِ .
يا سادة يا كِـرام إن اللغة العربية لغة رسمية وهي هويتنا ، لقد نص دستور المملكة المغربية 2011 في الفصل 5 : ” تظل العربية اللغة الرسمية للدولة . وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها ، وتنمية استعمالها … “
أستسمحكم سيداتي / سادتي الكرام علينا أن نؤكد هويتنا اللغوية العربية ، بعيدا عن أي نــوع من الشوفينية أو التعصب ، وينبغي للمسؤولين عن حمايتها ؛ بدعم من الجمعيات والمنظمات والمؤسسات بالمغرب للمصالحة مع اللغة العربية فهي هويتنا ؛ كي لا نُـصاب بما أصيب به البعض من غيرنا بعدم التمييز بين ” ال ” الشمسية والقمريــة في كتــاباتهم وأقـوالهم . وقد رأينا وسمعنا أن المسؤولين في بلدانهم غيرِ العربية يتحدثون بلغتهم الغربية ( فرنسية أو إسبانية أو ألمانية أو انجليزية … ) ، أو الشرقية (صينية أو يابانية ) أو غيرها ؛ باعتزاز بلغتهم وهويتهم ، أما ما نجــده اليــوم من أقـوال وكتـابـات باللغـة الدارجــة في بلدنــا مسارٌ مُـعـتم لمسار اللغة العربية التي أراد لهــا نَـــفــرٌ قِـلَّـــةٌ لا هُـم بالعرب ولا بالعجم
المصطفى تكاني