“ميموزا” لصلاح الوديع

نبش جميل في ذاكرة المغرب

عن المركز الثقافي للكتاب ، صدرت سيرة الفاعل الحقوقي والجمعوي صلاح الوديع في 560 صفحة تحت عنوان رئيسي “ميموزا” وعنوان فرعي “سيرة ناج من القرن العشرين“.
تعرض السيرة لسيل عرمرم من التي خزنها صلاح الوديع منذ نعومة أظافره وتطرح إشكالية صون الذاكرة الجمعية وتأريخ حقبة مهمة من تاريخ المغرب قبيل الاستقلال وبعده وإلى حدود إنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة سنة 2004 .
ويعي الكاتب أهمية تأثيث الذاكرة والكتابة حتى يظل ألق الوعي بالوجود متوهجا . يقول في الصفحة 18 ” كنت أحمل هم ألا أرحل عن الحياة وأنا أحمل في داخلي وعيا زائفا بالوجود أو حيزا من الجهل بالأشياء وتقاعسا مني لا تمنعا من الحقيقة ” .
وتتجلى أهمية هذه السيرة في كون الكاتب من الشبان الذين اعتقلوا وسط السبعينيات وأفنوا زهرة شبابهم في السجون على خلفية انتمائهم لمنظمة 23 مارس أو منظمة إلى الأمام . أضافة إلى أنه ابن الراحل محمد الوديع الأسفي المناضل والشاعر والسياسي الذي ذاق بدوره مرارة السجون خلال مرحلتي الاستعمار والاستقلال . وهو كذلك المناضلة الراحلة ثريا السقاط وأخ المحامية أسية الوديع وعزيز الوديع الذي تقاسم معه الزنزانة بدرب مولاي الشريف والسجن المركزي بالقنيطرة .
كتبت السيرة بلغة/مزيج بين الذاتي والموضوعي وبينهما جمالية السرد المتبلة بالسخرية والشعر والحكي الجميل . تعرج السيرة على محطات أساسية لا وجود فيها للدالة الخطية على الأقل في الكتاب الأول . فطبيعة الذكريات تفرض الرجع والإطناب وتوظيف الفلاش باك علما أن الأحداث والوقائع مرتبطة ببعضها وتبقي الأقواس مفتوحة طيلة الحكي.ولاشك أن كتابة هذه السيرة أخذت الوقت الكثير من صاحبها ، فلقد حرص أن لا ينسى شيئا ( تقريبا )من الأسماء والفضاءات والأشخاص والأحداث والتواريخ وهي مهمة صعبة إذ أن ثقوبا معينة تظل تتربص بكاتبي السير ويحصل أحيانا أن يقعوا في مطب الإنتقاء أو النسيان ، الشيء الذي يعقد مهمة التجرد والموضوعية . وفي حالة “ميموزا” فإن كل ماتم تذكره واسترجاعه معروف من مصادر متنوعة وكلها تقول نفس الشيء ولو اختلفت أساليب التعبير عنه . وسأكتفي هنابذكر رواية “كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي التي صورت في أحايين كثيرة تفاصيل ودقائق السجن المركزي وبينها وبين شهادات أخرى صدى جميل وتناص لا تخطئه العين .
يبدأ الحكي يوم عانق الكاتب الحرية وسط الثمانينيات وطلب منه مدير السجن توقيع التزام بعدم العودة إلى الأفعال التي أدين بسببها لكنه امتنع وغادر البوابة ليعانق الأهل والأحباب ومنهم القلب الكبير (والده) الشخص الذي رفض أن يتقدم بطلب العفو حين طلب منه ذلك قائلا في إباء [ كلهم أبنائي ، فلماذا أخص اثنين منهم بطلب مثل هذا؟ ] الصفحة 39 .
ويفرد الكاتب في السيرة حيزا مهما لوالدته التي ارتبط بها منذ الصغر والتي تعلم منها الإصرار والبحث والتشبث بالمبادئ العليا ولأنها نحتت روحه برقة ولطف كما يقول . كما يشير إلى أسرته الممتدة ويخص كل فرد فيها بالحب والود والعهد على الوفاء : أخوه عزيز ، خاله الموسيقار عبد الرحيم السقاط ، أجداده ، والأخريات والآخرون (محمد امجيد ، عائشة العلوي التراب ، رجاء بلمليح ، المشتري ، بنزكري واللائحة طويلة )
… ويبقى الكتاب فكريا بامتياز ، وليس مجرد ذكريات فحسب عن الأشخاص والأماكن والوقائع لكنه وجودي ويطرح إشكاليات فلسفية كبرى لا تزال تشغل بال المفكرين من قبل الحب والصداقة والاستعباد والموت ، في الصفحة 87 يقول : [ الموت لا يعني شيئا للموتى ، إنه يعني أشياء للأحياء فقط وكوني أعلم أني راحل في يوم آت فالموت بالتبعية لن يعنيني آنئذ رغم أنه يعنيني الآن لأنني ما زلت حيا ] .
وبنضح الكتاب بالقراءات التي أثرت فكر صاحبها وهو المهووس بالقراءة منذ الطفولة . ففي الصفحة 103 يقول : [ هناك كتب غيرت مجرى حياتي …حين قرأت رواية الطاعون لألبير كامو . هذا إضافة إلى الأدب العالمي (الروسي والفرنسي والعربي) ] .
أما السمة الأساس في شخصية الكاتب ومساره هي نبذه للظلم والاستعباد والانخراط فبما يمكن أن يحرك المياه الاسنة لرسم ملامح مغرب أفضل وهو ما كرس له حياته بعد السجن بمعية رفاق آخرين اختاروا السير على نفس الدرب . درب لم يكن مفروشا بالورود لدى إنشاء منتدى الحقيقة والإنصاف والتفاف الدولة على هذا الورش الحقوقي الكبير الذي نتج عنه ميلاد الهيأة سنة 2004 وبقية القصة معروفة … تم تخوين الكاتب كما رفيقه في السجن والمسيرة الحقوقية واتهامهم بخدمة مصالحهم الشخصية ، وهي مزاعم سرعان ما كدبها التاريخ بعد رحيل بنزكري والاستقالة المتأخرة بعض الشيء لصلاح الوديع من الأصالة والمعاصرة وحركة لكل الديموقراطيين .
رغم هذه الهزات التي يفصل فيها الكاتب في الكتاب/الجزء الثاني فإنه بقي وفيا لجذوره وتفرغ للعمل الجمعوي ولازال .
أجمل المقاطع في السيرة تبقى مخصوصة ل”ماما أسية” كما كان يسميها اليافعون في السجون والتي تماهت معه أو تماهى معها (سيان) في كل صغيرة وكبيرة إلى حد الإنصهار ، بخسها الإنساني المرهف وشغفها بالفكر والفن وتكريس حياتها لقضايا الأحداث اليافعين : حدث أن أدى هؤلاء النشيد الوطني في زيارة الملك لإحدى المراكز فاغرورقت عينا أسية الوديع والملك في آن واحد .
أخيرا ، هل قال صلاح الوديع كل شيء؟ نعم في الصفحات التي يعرفها العام والخاص ، وعن ظروف نشأة الهيأة وعن الصعوبات التي رافقتها وعن المستحيل الذي حققته … لكن بقيت مواضع عتمة لم تنل نصيبها من البوح الصريح مثل السقوط في الانتخابات بآسفي والثقة العمياء في الأصالة والمعاصرة التي ركب قطارها الوصوليون وتجار الانتخابات أو ما سماه الكاتب نفسه “إشكالية الطريق قبل الرفيق أو الرفيق قبل الطريق” …..
سيرة بالرغم من الحجم الهائل من الذكريات لم تبح بكل أسرارها لكنها وضعت لبنة مهمة لفهم ما جرى وهو ما تجهله الأجيال الحالية .
*ميموزا شجرة نضرة بندفها الصفراء ألهمت الكاتب وفتنته بجمالها .
تطوان في 3 ماي 2025