سيغمند فرويد ترجمة لحسن أحمامة
الكتاب المبدعون وحلم اليقظة 2/2
ترجمة: لحسن أحمامة
أما وقد قلنا الكثير عن الأوهام، لنتحدث الآن عن الكاتب المبدع. هل نسعى حقا إلى مقارنة كاتب الخيال بــــــــ”الحالم في واضحة النهار”،[5] وإبداعاته بأحلام اليقظة؟ هنا يلزمنا البدء بوضع تمييز أولي. علينا أن نفصل بين الكتاب الذين، مثل المؤلفين القدامى للملاحم والتراجيديات، يستولون موادهم الجاهزة، من الكتاب الذين يبدو أنهم ينتجون موادهم الخاصة. سنلتزم بالنوع الأخير، ولغرض المقارنة، لن نختار الكتاب الأكثر تقديرا من قبل النقاد، و إنما مؤلفي الروايات، و الرومانس و القصص القصيرة الأقل تكلفا، الذين بالرغم من ذلك لديهم دائرة قراء من كلا الجنسين أوسع و أكثر حماسا. ميزة واحد قبل كل شيء لا يمكن أن تخفق في إذهالنا عن إبداعات هؤلاء الكتاب، كتاب القصص: لكل واحد منهم بطل هو مركز الاهتمام، وبسببه يسعى الكاتب للفوز بتعاطفنا بكل وسيلة ممكنة، و الذي يبدو أنه يضعه تحت حماية عناية إلهية. إذا كنت، عند نهاية فصل من قصتي، أترك البطل فاقدا للوعي وينزف من جروح بليغة، فأنا متأكد من أنني سأجده في بداية رعايته بعناية و في طريقه إلى الشفاء؛ و اختتم المجلد الأول بسفينة ينزل بها في عاصفة البحر، فأنا على يقين، في مفتتح المجلد الثاني، بأن أقرأ عن عملية إنقاذ معجزة- إنقاذ لا يمكن للقصة أن تستمر بدونه. إن الإحساس بالأمان الذي به أتابع البطل عبر مغامراته المحفوفة بالمخاطر هو نفس الشعور الذي يرمي به البطل نفسه في الحياة الواقعية في الماء لإنقاذ شخص يغرق أو يعرض نفسه لنيران العدو للانقضاض على بطارية. وإنه الإحساس البطولي الحقيقي الذي عبر عنه أحد أفضل كتابنا بعبارة لا تضاهى: “لا يمكن لشيء أن يحدث لي![6] لكن يبدو لي أن عبر هذه الخاصية الكاشفة للحصانة بوسعنا حالا أن ندرك جلالة الأنا، البطل مثل كل حلم يقظة و كل قصة.[7] تشير ميزات أخرى لهذه القصص المتمركزة حول الأنا إلى نفس القرابة. فلا يمكن اعتبار حقيقة أن جميع النساء في الرواية يغرمن بالبطل دائما على أنها تصوير للواقع، لكن يسهل فهمها بوصفها مكونا لحلم يقظة. ينطبق نفس الشيء على حقيقة أن الشخصيات الأخرى في القصة مقسمة بحدة إلى خيرة وشريرة، في تحد لتنوع الشخصيات البشرية التي يجب ملاحظتها في الحياة الواقعية. الشخصيات ‘الخيرة’ مساعدة، في حين الشخصيات’الشريرة’ أعداء أو خصوم، للأنا الذي أصبح بطل القصة.
ندرك تماما أن العديد من الكتابات الخيالية بعيدة كل البعد عن نموذج حلم اليقظة الساذج؛ ومع ذلك لا يمكنني أن أقمع الشك في أنه حتى الانحرافات الأكثر تطرفا من النموذج يمكن ربطها به من خلال سلسلة غير متقطعة من الحالات العابرة. وقد أذهلني أن في العديد مما يعرف بالروايات ‘السيكولوجية’ يتم وصف شخص واحد فقط- مرة أخرى البطل- من الداخل. يجلس المؤلف داخل عقله، إذا جاز التعبير، وينظر إلى الشخصيات الأخرى من الخارج. لا شك أن الرواية السيكولوجية عموما تدين بطبيعتها الخاصة إلى ميل الكاتب الحديث لتقسيم أناة، من خلال الملاحظة الذاتية، إلى أجزاء كثيرة من الأنوات، ومن ثمة، لتجسيد التيارات المتصارعة في حياته العقلية في العديد من الأبطال. فبعض الروايات، التي قد توصف بأنها غريبة الأطوار’ تبدو أنها تقف في تناقض خاص تماما مع نوع حلم اليقظة. والشخص الذي يتم تقديمه في هذه الروايات بوصفه البطل لا يلعب إلا دورا فاعلا صغيرا جدا؛ يرى أفعال و معاناة الناس الآخرين تجري أمامه مثل متفرج. العديد من أعمال زولا المتأخرة ينتمي إلى هذه الفئة. لكن علي أن أشير إلى أن التحليل السيكولوجي للأفراد الذين ليسوا بكتاب مبدعين، و يختلفون في بعض النواحي عما يدعى بالمعيار، قد أظهر لنا اختلافات مماثلة في حلم اليقظة، المكتفية فيه الأنا بدور المتفرج.
إذا وجب على مقارنتنا لكاتب الخيال بالحالم اليقظ، وللإبداع الشعري بحلم اليقظة أن تكون لها قيمة، فيلزمها، فوق كل شيء، أن تجلو ذاتها بطريقة مثمرة أو بأخرى. على سبيل المثال، لنحاول أن نطبق على أعمال هؤلاء الكتاب الأطروحة التي طرحنا مبكرا فيما يخص العلاقة بين الوهم و الفترات الزمنية الثلاث و الرغبة التي تجري عبرها؛ و بمساعدتها، دعونا ندرس الترابطات الموجودة بين حياة الكاتب و أعماله. كقاعدة، لم يعرف أحد ما هي التوقعات التي يلزم تأطيرها في مقاربة هذا المشكل؛ غالبا ما تم التفكير في الترابط بعبارات بسيطة للغاية. على ضوء التبصر الذي حصلنا عليه من الأوهام، يتعين علينا توقع الوضع التالي. تجربة قوية في الحاضر توقظ في الكاتب المبدع ذكرى تجربة مبكرة (غالبا منتمية إلى طفولته) منها تشتغل الآن رغبةٌ تجد تحققها في العمل الإبداعي. والعمل نفسه يستعرض عناصر من المناسبة المثيرة الأخيرة و كذا من الذاكرة القديمة.[8]
لا تنزعجوا من تعقيد هذه الصيغة. فأنا أظن أنه في الواقع بأنه سيثبت بكونه نمطا ضئيلا للغاية. وبرغم ذلك، فقد يحتوي على مقاربة أولى للوضع الحقيقي؛ و، من بعض التجارب التي قمت بها، أميل إلى الاعتقاد بأن هذه الطريقة للنظر في الكتابات الإبداعية قد لا تكون غير مثمرة. سوف لن تنسوا بأن التشديد الذي يضعه على الذكريات الطفولية في حياة الكاتب- تشديد قد يبدو محيرا- مشتق في النهاية من افتراض أن قطعة من الكتابة الإبداعية، مثل حلم اليقظة، إنما هي استمرار لما كان في يوم من الأيام لعبا طفوليا أو بديل عنه.
علينا مع ذلك ألا نتجاهل العودة إلى نوع الأعمال الخيالية التي يجب أن نتعرف عليها، ليس كإبداعات أصيلة، وإنما كإعادة تشكيل للجاهز و للمادة المألوفة. فحتى هنا، يحتفظ الكاتب بمقدار معين من الاستقلالية، والتي يمكن أن تعبر عن نفسها في اختيار المادة، و في التغييرات فيها، و التي غالبا ما تكون واسعة النطاق. وبقدر ما تكون المادة في متناول اليد من قبل، فهي مشتقة من بيت الكنز الشعبي للأساطير، و الخرافات، و الحكايات العجيبة. إن دراسة بناء السيكولوجية الشعبية مثل هذه أبعد ما تكون عن الاكتمال، لكن من المحتمل جدا أن تكون الأساطير، مثلا، بقايا مشوهة لأوهام دالة على الرغبة لدى كامل الأمم، أحلام دنيوية لإنسانية شابة.
ستقولون على الرغم من أنني وضعت الكاتب المبدع في المقام الأول في عنوان هذه الورقة، قد تحدثت عنه بأقل مما قلته عن الأوهام. أدرك ذلك، وعلى الاعتذار عنه بالإشارة إلى الحالة الراهنة لمعرفتنا. كل ما كنت قادرا على فعله هو طرح بعض التشجيعات والاقتراحات التي، بانطلاقها من دراسة الأوهام، تقود إلى مشكلة اختيار الكاتب المبدع لمادته الأدبية. أما بالنسبة للمشكلة الأخرى- بأي وسيلة يحقق الكاتب المبدع الآثار الوجدانية فينا والتي تثيرها إبداعاته- فلم نلامسها بالكل حتى الآن.. لكن أود على الأقل أن أشير عليكم بالسبيل الذي يقود من مناقشتنا للأوهام إلى مشاكل الآثار الشاعرية.
ستتذكرون كيف أنني قلت بأن الحالم اليقظ يخفي بعناية أوهامه عن الآخرين لكونه يشعر بأن لديه أسبابا تجعله يخجل منهم. يتعين علي الآن إضافة أنه، حتى لو نقلها لنا، فلن يمتعنا بالبوح بها. مثل هذه الأوهام، عندما نعلمها، تصدنا أو على الأقل تتركنا في حالة من عدم الاكتراث. لكن عندما يقدم لنا الكاتب المبدع ألعابه أو يروي ما نميل إلى اعتباره أحلام يقظته الشخصية، فإننا نختبر متعة بالغة، متعة ربما تنشأ من التقاء العديد من المصادر. كيف ينجز الكاتب هذا إنما هو أعمق سر له؛ إن الفن الشعري (ars poetica) الجوهري يكمن في تقنية التغلب على الشعور بالنفور فينا والذي يرتبط بلا شك بالحواجز التي تنشأ بين الأنا و الآخرين. بوسعنا تخمين طريقتين من الطرائق المستعملة في هذه التقنية. يخفف الكاتب من عريكة أحلامه الأنانية عن طريق تغييرها وإخفائها، ويرشونا من خلال عائد المتعة الشكلية الصرفة- أي الجمالية- التي يقدمها لنا في عرض أوهامه. نمنح اسم المكافأة التحفيزية، أو المتعة المسبقة لعائد من المتعة مثل هذا، والذي يتم تقديمه لنا كي نتمكن من إطلاق متعة أكبر تنشأ من مصادر نفسية أعمق.[9] في رأيي، إن لكل المتعة الجمالية التي يقدمها لنا الكاتب المبدع خاصيةَ متعةٍ مسبقة من هذا النوع، وينبثق استمتاعنا الفعلي بالعمل الخيالي من تحرر التوترات في أذهاننا. قد لا يكون القليل من هذا التأثير ناتجا عن الكاتب الذي مكننا من الآن فصاعدا من الاستمتاع بأحلام يقظتنا دون لوم ذاتنا أو خزي. هذا يحملنا إلى عتبة أبحاث مفيدة ومعقدة؛ لكن أيضا، على الأقل في هذه اللحظة، لإنهاء مناقشتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: On Freud’s «Creative Writers and Day-Dreaming », Edited by Ethel Spector Person, Peter Fonagy, Sérvulo Augusto Figueira, Karnac, Yale University, 1995.
[1] [كان الكاردينال إيبوليطو من أيستي أول رعاة أريوسطو، والذي أهدى إليه كتاب أورلاندو فويريوسو. وكانت جائزة الشاعر الوحيدة هي سؤال: ” أين وجدت العديد من القصص، يا لودوفيكو؟”]
[2] [أنظر القسم 7 من الفصل السابع من كتاب فرويد حول النكت (c 1905 )].
[3] [هذه إحالة على بعض السطور المشهورة التي يتكلم فيها الشاعر-البطل في المشهد الأخير من Torquato Tasso لغوته: ” [و عندما تكون البشرية خرساء في عذابها، فإن ألها قد خول لي بأن أقول كيف أعاني”.]
[4] Cf. Freud, The Interpretation of Dreams (1900a) .
[5] [ Der Traumer am hellichten Tag’’]
[6] [ ‘ Es Kann dir nix g’schehen !’ كانت هذه العبارة المقتبسة من آنزنغروبر، مسرحي من فييا، إحدى العبارات المفضلة لدى فرويد. Cf. « Thoughts on War and Death » (1915b, Standard Ed., 14, 296.] [ أفكار عن الحرب و الموت]
[7] [ Cf. ‘On Narcissim’ (1914c), Standard Ed., 14, 91.]
[8] [نظرة مماثلة تم اقتراحها من قبل من طرف فرويد في رسالة إلى فليس في 7 يوليو، 1898، حول موضوع واحدة من قصص سي. ف. ماير القصيرة ( Freud, 1950a, Letter 9).]
[9] [طبق فرويد هذه النظرية لـــ’المتعة المسبقة’ و ‘المكافأة التحفيزية’ على النكت في الفقرات الأخيرة من الفصل الرابع من كتابه حول هذا الموضوع (1905c). كما أن طبيعة ‘المتعة المسبقة’ قد تمت مناقشتها في مقالات ثلاث (1905d). أنظر بشكل خاص Standard Ed, 7. 208 ff.]