التناص في ديوان “حواء ليست جدتي…” للشاعرة ليلى ناسمي

الديوان : صرخة أنثوية حرة
بقلم: عبد الرحيم التدلاوي
التناص: مفهومه وأبعاده:
التناص مفهوم أدبي ونقدي يُشير إلى العلاقات المتشابكة بين النصوص، حيث يستدعي الكاتب أو الفنان عناصر من نصوص أخرى، سواء أكانت سابقة أم معاصرة، ليعيد صياغتها وتوظيفها في سياق جديد.
لا يتجلى التناص في الاقتباس المباشر أو النقل الحرفي فحسب، بل يتعداه إلى عملية تفاعل واعٍ بين النصوص، إذ تنبثق الأفكار، والأساليب، والشخصيات، والعبارات في النص الجديد بعد أن تخضع لعملية إعادة تشكيل تمنحها أبعادًا إضافية.
قد يكون التناص مقصودًا أو غير مقصود، واعيًا أو غير واعٍ، إلا أنه في جميع الأحوال يثري النص ويمنحه صدىً ثقافيًا، إذ يخلق حوارًا بين النصوص المختلفة، ويكشف عن علاقات خفية بينها، فيضفي على التجربة الجمالية عمقًا وتعقيدًا. كإنه ليس مجرد تكرار أو محاكاة، بل هو عملية إعادة إنتاج وتوظيف، تتراوح بين الاحترام والتقدير للنصوص السابقة، والتحدي والمعارضة لها، وأحيانًا حتى السخرية منها.
“ليلى ناسمي” والتناص في “حواء ليست جدتي…”:
في ديوانها “حواء ليست جدتي…”، تنسج “ليلى ناسمي” قصيدة تمرد وجودي، إذ تستدعي شخصيات ورموزًا من التراث والعصر الحديث، كما تستقدم نصوصًا دينية وأدبية وفكرية، فتقيم معها حوارًا يتراوح بين النقد الجارح والتعزيز النصي لرؤيتها الخاصة. ليس استدعاؤها لهذه الرموز والنصوص مجرد زينة ثقافية، بل هو جزء من مشروعها الذي يسعى إلى تفكيك الإرث الثقافي الذكوري الذي كرس صورة المرأة ككيان تابع وخاضع.
*تفكيك الإرث الثقافي الذكوري:* ثنائية “حواء” و”ليليت”:
حواء، كما صورتها الروايات الدينية والثقافية التقليدية، هي المرأة التابعة لآدم، المخلوقة من ضلعه، وهو ما تستدعيه “ناسمي” لتضعه في موضع الرفض والتجاوز. في المقابل، تستحضر “ليليت” ، المرأة الأسطورية الأولى التي رفضت الخضوع لآدم، رمزًا للتمرد والندّية.
هذا الاستدعاء ليس مجرد استعارة شعرية، بل هو تأسيس لهوية أنثوية جديدة تتجاوز الثنائيات التقليدية، وتنفتح على فضاءات الأسطورة والرمز لإعادة تعريف الذات الأنثوية في سياق تحرري.
الشخصيات المستدعاة ودلالاتها:
لا تقتصر الشاعرة على “حواء” و”ليليت”، بل تستدعي شخصيات أخرى ذات طابع رمزي قوي، يتقاطع مع مشروعها الشعري:
“بروميثيوس” شخصية ترمز إلى التحدي والتمرد على السلطة والنظام القائم، وهو ما يتسق مع رؤيتها في كسر قيود التبعية.
“الحلاج” هو الرمز الذي يمثل التمرد الروحي والبحث عن الحقيقة الذاتية، مما يعكس رؤية الشاعرة في البحث عن الذات الأنثوية الحرة.
“سجاح” هي تلك المرأة العربية التي تحدت الأعراف والتقاليد في فترة ظهور الإسلام، ما يجعلها مرآة لتمرد الشاعرة على القيود المفروضة على المرأة.
“فلسطين” ليست مجرد قضية سياسية، بل رمز للمقاومة والتحدي، وتجسيد لصوت المرأة العربية الصامدة.
التناص في النصوص المستدعاة:
يظهر التناص في ديوان “حواء ليست جدتي…” من خلال استدعاء مقاطع ونصوص ذات مرجعيات متعددة، تحمل معاني جديدة عند توظيفها في سياق الديوان: ف”التفاحة الساقطة” هي إشارة إلى قصة الخطيئة الأولى، تتحول التفاحة في نص “ناسمي” إلى رمز للمعرفة والتحرر، بدلاً من كونها رمزًا للخطيئة والعقاب.
وتعبير “أخلع نعلي” يستحضر موقف النبي موسى في الوادي المقدس، لكنه في الديوان يصبح رمزًا للتخلي عن القيود التي تُفرض على المرأة.
وعبارة “السيد المصلوب على جدار الحانة” هي إشارة إلى السيد المسيح، ولكن في سياق الديوان، يصبح رمزًا للمعاناة والتضحية التي تتحملها المرأة.
أما “ولا عصى… أهش بها قطعان هل وكيف ولم…” فتستدعي قصة سيدنا موسى عليه السلام في موقفه الرافض للعبودية والتسلط، إنها إعلان لرفض الأسئلة والمعتقدات التقليدية، وتمرد على الأطر الفكرية المهيمنة.
التناص كأداة للتمرد وإعادة البناء:
لا تكتفي “ليلى ناسمي” باستدعاء هذه النصوص والشخصيات، بل تعمل على إعادة تفسيرها وتوظيفها في سياق جديد يخدم رؤيتها الفكرية، من خلال هذا التناص، تخلق حوارًا بين النصوص، وتكشف عن التناقضات الكامنة في الإرث الثقافي الذكوري، ليصبح التناص أداة فاعلة في تفكيك هذا الإرث وإعادة بناء هوية أنثوية حرة متمردة.
خلاصة:
الشعر كمساحة للتحرر ببراعة أدبية:
تستخدم “ليلى ناسمي” التناص وسيلة لتقويض الصور النمطية للمرأة، إذ تعيد توظيف الشخصيات والنصوص في سياق جديد يفتح أفقًا أكثر رحابة لإعادة تعريف الذات الأنثوية، بين التمرد على الإرث الثقافي والانفتاح على الأسطورة، تُنحت ملامح خطاب شعري قائم على المقاومة والتحرر، ليظل ديوان “حواء ليست جدتي…” صرخة أنثوية حرة في وجه الأنساق الذكورية المهيمنة.