خواطر امرأة

صمت الليل

لليل حكايا لايفهمها إلا من عاشها وسامر فيها وحدته ، وقرأ سِفَْرَ سجونه ، مستحضرا ذكرياته ، معانقا أحلامه بابتسامة لقمر كان قد زين سمائه ذات زمن مضى ، أو تخللتها دمعات أنارت ظلمة سهره ، معلنا عن انطلاقة مسيرة التيه في الفضاء الرحب مع النيازك والشهب فرحا ، أو متابعة للثريا ، عالقا في عوالمها .
في الليل دوما يرهقنا التفكير ، يرمي بنا في أحضان السكون وصمت الروح ، مستحضرين حكايات مضت وأخرى نعيش تفاصيلها ، أفكارا ومشاعير افتقدت جل أوصافها ، فتتفتق الجراح والماسي ، وتسقط ألوية الوجع الناجم عن الرحيل
الفراق ، الإشتياق ، فتطالعنا الوجوه الغائبة ، ونطلقه العنان لمكنونات ذواتنا المثقلة بالمناجاة ، التعب ، التأوه ، فنتوق إلى الأحاديث الشيقة ، الأرواح الكبيرة ، وكل المفقودين ، ترمي بنا إلى الإنكماش في الوحدة والاختلاء ، فنرتشفه رحيق المحبة الخالدة، ونٌسْعَد بتلقي فيض البها، كل ذلك وأنا البعيدة عن دفء الأهل والأحباب ، في خضم زفرات ليلية مليئة بالوحشة ، مطبوعة بتقلبات لامتناهية من الذكريات المشروخة ، تدفع بي إلى التحليق بدون أجنحة في عوالم غريبة صورها ، وترانيمها المصحوبة بضجيج الصمت المستقر في دواخلي الملتهبة لا محالة…
يأتي الليل ليوقض ما تخفيه القلوب المرهقة بالسهر وصولات الأرق ، فيستعصانا التفكير ونتوه بين صمت الروح وأنفاس الهدوء ، فنرتمي فيها أحضان السكون ، الحكايا الماضوية أو المعيشة ، تملأ أفكارنا ومشاعرنا تعسفا ، تبعدها مسافات القرب بين كل الأحباب ، تطالعنا ظلال ووجوه تناسيناها مرغمين بحكم الفقد ، فتعلن عن انطلاق عنان جموح منفلت منا ، أو لايزال إما حبا أو كرها، ونحن في جبروت تلكم الهواجس وتحت وطأة جلالها ، يأتيني صدى القلب مرددا أن الليل هادىء وجميل بحكيه المتدفق ، تمتلكني الروح الشعرية ، لأسألها ذاتي عن حقيقة الغيابات المتتالية، أكتئب لغير ما سبب ، وفي زيارتي الأخيرة للطبيب ، أخبرني – بعد الكشف – بأن مصدره الاضطرابات اليومية المتتالية وافتقاد نعمة النوم ، والشعور بكل التناقضات التي تنتهي لها النفس الأبيةوكأن لاشيء ورائها إلاك أيها الظلام الدامس والشعور المتقطع بالضعف وغياب طمأنينة الاختلاء ، فتنتزعنا لحظاته مجبرين من سكينة الهدوء ووحدانية العزلة ، ونحن المرغمين على استحضار شريط الخبايا المطوحة بنا في مهب الهلوسات ، نحدثها ، نسامرها ، نحاسبها ، معاتبين تارة ومطمئنين إليها أخرى . فلا أجد أي جواب شاف لكل تساؤلاتي المتراوحة يمنة ويسرة ، الجاتمة علي في تنسيق وانسجام تامين ، على استمرارية ألمي ، فتعصاني المقاومة أو الصمود في البحث عنه طريق محو مأزق الأرق ، وانتشالي من عتمته ، أنا المتخبطة في مجرى رياح قضايا لا رابط بينها ، تحج بي من سَفَرٍ إلى آخر فتلاحقني صور أمكنة احتوتني ذات يوم وما زالت ، فأصغى إلى حفيف أوراق شجيرات حديقتي الصغيرة ، وضجيج طائر السونونو… أتطلع الى الأزرق الذي تحركني معه يد القدر في اتجاهات مختلفة ، وكأنه أرجوحة أثير ، وتأخذني مرغمة إلى عوالم من الخواء ، فأنغمس في أرخبيل ليلي لا جغرافية لأنفاسه ولا أمكنة لتاريخه . فكيف لا وهو المثقل بأرقه،حرقته دمعه ، شجون لحظاته ، هدوئه المستفز . يحضرني حنين الأحباب… فأتذكر اللحظات الجامعة بيننا ، وأستعيد رصها ذكريات كل من غادرونا إلى العلياء ، أو فارقناهم مرغمين ، وتتوارى أزمنة الماضي في استرجاعات طوعية ، تمزقه الجدار الضبابي الحاجب عنا كل التخيلات ، فنستعين بالبحث في مخيالاتنا عن أحلام جميلة ، متمثلين أعزة كانوا (ة) يضيئون عتمة ليالينا ، ونتخيلها همسات تحول بيننا وأنين الأرق …. ولا نستفيق إلا ونحن مرتمين في أحضان فجر نقي ، قادم من وراء الشفق ، مصحوبا ببدايات جميلة وشمس مشرقة ، مصبحين على روح قد عادت ونِعَمٍ زادت ، مستمتعين بتلاوة ماتيسر من ” سورة الملك ” ، سابحين في ملكوت الرحمان ، مرددين [ اللهم أنسنا في غربة الليالي وهون علينا كل صعب ، يارب العرش العظيم ] .
ملاحظة للختم :
تبقى خاطرتي هذه من الهلوسات التي تحضرني وأنا أعيش الأشهر الأولى لسنة ميلادية جديدة ، بعد أن ودعت أخرى كانت قاسية مليئة بالتناقضات..
ثريا الطاهري الورطاسي