الشاعر إدريس الواغيش في حوار حصري ل “ألوان”

منطق حلمي حتى الآن : منطق الشعر الذي لا منطق له!
حوار: زهرة منون ناصر/عنقا المختار الإدريسي
سعداء في موقع” ألوان ” الإلكترونية أن نستضيف الشاعر إدريس الواغيش، الأديب والإعلامي المغربي المتميز بأسلوبه السلس وتفكيره العميق، الجامع بين الشعر والقصة والنقد الأدبي والإعلامي الذي يلعب دورا مؤثرا في المشهد الثقافي المغربي والعربي.
أنت المثقل بالذكريات والإنتاجات الابداعية المتنوعة، تعترف بأنك اخترت كل الطرقات التي مضيت فيها عن قناعة وطواعية، رافضا الاكتفاء بمهمة التدريس- رغم نبلها – فانخرطت مبكرا في الاعمال النقابية، السياسية والصحفية، حدثنا عن اختياركم المركب والصعب، الذي بوّأكم موقعا مرموقا على خريطة الإبداع الوطني؟
مع النضج …بدا لي المشهد السياسي ملتبسا وضبابيا…
هذا صحيح، انخرطت في سلك التدريس بعد مرحلة عابرة وسريعة في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، قبل أن أعود إليها ثانية، وأتحصل فيها على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي “الزمن في الشعر المغربي المعاصر”. أنا بطبيعتي ابن القرية، وبالتالي قروي المزاج. فقد نشأت في بادية تاونات شمال المغرب. وهذا يحدث بالتراكم المعرفي واكتساب الخبرات وتكديس تجارب متعددة. كنت مندفعا في صغري، وكما في كثير من مراحل عمري، وبالتالي فإن من يمتلك مثل هذه الصفات، ينخرط في العمل الإبداعي والسياسي مبكرا. كانت الثانوية التي درست بها تعج بسلسلة من الخلايا المنضوية تحت لواء اليسار الاشتراكي. خضت تجارب عديدة في الانتماء إلى تنظيمات راديكالية، ولكن انتهى بي المطاف في الأخير بالالتحاق بحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، سواء حين كان في المعارضة أو فيما يعرف ب”سنوات الجمر والرصاص”، وفي مرحلة لاحقة لما ترأس الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله حكومة التناوب الأولى، وأصبح وزيرها الأول. كنا في الثانوية والجامعة منبهرين بالفكر الشيوعي في مرحلة أولى ثم بالفكر الاشتراكي في فترة لاحقة. تأثرنا بعلامات الثورة الدالة، وأعجبنا بأسمائها الرنانة وببعض رموز الفكر الاشتراكي والتقدمي، وكان يستهوينا الانتماء إلى أحزاب وتنظيمات اليسار عموما. كانت تبهرنا أسماء كثيرة: لينين، ماركس، ستالين، تروتسكي، هايدغر وإنجلز وغيرهم، وفي الجانب العربي والمغربي سلامة موسى، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري وغيرهم.
العمل في المجال السياسي دفعنا إلى الانخراط في العمل بالصحافة كمراسلين متعاونين وأيضا كواجهة نضالية، وهكذا عملت مراسلا متعاونا مع جريدة “الاتحاد الاشتراكي”. ولكن مع مرور الوقت والنضج المبكر، بدأ يبدو لي المشهد السياسي ملتبسا وضبابيا، فانعطفت كليا إلى الأدب والشعر، وبدأت أكتب القصيدة والقصة القصيرة، وهذا لم يمنع من البقاء ملتصقا بالمجال الإعلامي، ولكن فيما يخص مقالات تهم الشأن الثقافي بشكل خاص.
ان المتتبع لمساركم الحافل، سرعان ما يجد نفسه أمام الشاعر الشغوف بالسفر وحب الوطن، التواق للتعرف على مختلف المناطق المشكلة لجغرافية الوطن. فماذا عن هذا الاهتمام؟
“سيحوا، تستريحوا”
قديما قال المتصوفة: “سيحوا، تستريحوا”، من هذا المنطلق عشقت السياحة. أولا لأن قريتي”أيلة” وما جاورها كان يغري بالتجوال والسياحة، كل شيء كان فيها جميلا: جبال، تلال، وديان، غابات وأنهار، قبل أن يزحف الجفاف على اخضرارها وشلالات وديانها ومنابع عيونها. وحينما عينت مدرسا في منطقة سياحية بالجنوب المغربي، جاورت سياحيا من مختلف الجنسيات. وعملت مرشدا سياحيا في العطل، وحملت الكاميرا في عنقي مثلهم. وهو ما زاد من حبي للسياحة أكثر، ثم إن المغرب بلد جميل وسياحي، كل مناطقه تغري بالتجوال والسياحة في الشمال والوسط وصولا إلى الكثبان الرملية والشواطئ الجميل بالداخلة والعيون في الصحراء المغربية.
لنتوقف معكم عند حقل الإبداع والنشر تساؤلات كثيرة تختلجنا، نجملها في: كيف ومن أين ستكون البداية؟
إبداعاتك تتوزع بين الشعر، القصة، المقالة والنقد. وأنت تقارب الزمن السابق بالساحق، وتلامس مكامن القبح والجمال في العوالم الوجودية والعاطفية من خلال ديوانك الشعري، المعنون ب “أجنحة وسبع سماوات “، ومن خلاله تجمع بين ضمير ال” أنا ” وضمير الجمع. تصعد بنا إلى العالم العلوي بغية القبض على المستحيل، وتنزل بنا إلى العالم السفلي للقبض على الجمر الهارب منا والينا – كما يقول البعض ممن تناولوا هذا العمل بالدراسة. هلا سلطت الاضواء على الديوان الذي يغري بالقراءة والدراسة على حد سواء؟
أحببت كتابة القصة من بوزفور، و السرغيني أغراني بكتابة الشعر!
فعلا انشغالاتي الأدبية متنوعة، وموزعة بين : القصة، المقال، القصيدة والنقد. من جهتي، لم أكن ألهث وراء كل هذا التنويع، لأنه متعب، ولكن ضروري أن يكون الميل إلى جهة على حساب جهة أخرى. أذكر أنني سألت سيدة مشرقية نفس السؤال، فقالت لي بلكنتها الخليجية ضاحكة: “وما لي؟ شيلاهم على أكتافي…!!”.
ورثت هم الإعلام من السياسة، القصة أحببت كتابتها من الأستاذ القاص أحمد بوزفور، و محمد السرغيني أغراني بكتابة الشعر. وعن الشعر، يقول الشاعر الفيلسوف محمد السرغيني في أحد حواراتي معه: “الشعر ليس عملا عاطفيا، هو ممارسة حيوية..”، وبهذا المفهوم يكون الشعر قد أخذ منحى مختلفا عن المعاني المتعارف عليها. وفي هذا السياق، يطرح علينا الواقع المغربي بعض التساؤلات، ما معنى أن يكون السياسي تقدميا، وفي ممارساته اليومية دكتاتوريا، ومحتالا، وغشاشا للشعب، والوطن؟ وما معنى أن يكون الشاعر عاطفيا في القصيدة، ونذلا في ممارسة الحياة. ولذلك حاولت قدر الإمكان أن تكون شعرية الديوان في: “أجنحة وسبع سماوات” رحلة نفسية تجمع بين عالمي الخاص وعالم الآخر. لأن “أنا” المبدع “أنوات”، وبالتالي لا تهمه لوحده، ولا يكتب شعره لنفسه. حاولت كذلك أن يكون الديوان انفجارا لغويا كبيرا، أدفع فيه القارئ إلى استخدام لغة العقل، بعيدا عن المألوف في الكتابة الشعرية، وأبعده عن الفهم المسطح للقصيدة، أن أعمل على خلخلة جاهزية الأشياء لديه، ولذلك فَـقّرت اللغة عَمدا، ولم أتوسّل إليها في أغلب قصائدي. عملت على تحريرها من وظيفتها التواصلية، ودفعت القارئ إلى استخدام العقل بشكل أعمق، بعيدا عن جاهزية المعاني. تتراكم الأحداث في الديوان شعريا وفق منطق كنت أحلم به ولازلت، وهو منطق الشعر الذي لا منطق له، لأنه “لا يقين في الشعر” كما يقول الدكتور محمد السرغيني. وظفت فيه كذلك نظرية الوساطة بين الخيال والحقيقة، وتسلحت بالشعرية وعتادي المعرفي.
تجري الكلمات في قصائد ديوان:”أجنحة وسبع سماوات” جريان الدم في شرايين الجسم. كل ذلك، من أجل خلق عالمي الخاص، كما أحببت أن يكون، وفق رؤيتي الفلسفية لا رؤية الشاعر. رتبت تشكيل الأشياء بعيدا عن سطوة المرئي في الحياة اليومية، حيث الأحْـيِـزَة المكانية مُتجانسة، وحيث تعشعش الرّوحانية والمحبّة الشاملة وكونية الإنسان، بعيدا عن أي تصنيف شعري أو تجنيس أدبي.
حتى نبقى معك دوما في مجال الإبداع الشعري نريد أن تحط بنا الرحال عند اصداركم الشعري الثاني “عزلة تقاسمني صبري “، والذي يقول في مقدمته الدكتور محمد كَنوني [ انها عزلة كونية تسعى من خلالها الذات إلى تشييد أسس كينونتها حيث يتسع أفق هذه الذات اتساع مظاهر الكون كله]. فهلا كلمتنا عن هذه التجربة الشعرية المنغمسة في الأنا المتعبة، وما يميزها، ومن بينها قصائد مترجمة عن الفرنسية؟
– ديوان “عزلة تقاسمني صبري” هو تجربتي الثانية في الكتابة الشعرية، وكذلك في ترجمة بعض الأشعار والنصوص من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية، لقت استحسانا عند البعض وانتقادا عند آخرين. العزلة الواردة في الديوان هي عزلة مجازية، وإلا ما كانت لتقاسمني صبري. وهي عزلة تقاسمني صبري في الواقع كما في الديوان، ولكنها عزلة تشي بمفارقة سياقية في أقل تكلفة لغوية، ولكن تبقى التفاصيل فيها كثيرة والدلالات متعددة وأبعاد الرؤى متنوعة. هي عزلة تعمق الإحساس بمرارة الواقع من خلال صوغ سردي يقتحم داخل الذات التي تبوح بوجدها وأناتها، وتكشف لنا سيرتها وخباياها… عزلة يتوحد فيها الشخصي والخاص، مع الذاكرة الجمعية والواقع بالذاكرة. ولكن تبقى العزلة في هذا الديوان اختيارية، عزلة فلسفية تعطي حرية للتفكير، والتحرر من “التبعية” للمجتمع والاكتفاء بالذات. أحيانا كثيرة نحبذ أن نعيش العزلة، حتى لو كنا وسط حشود من الناس، سواء في المقهى والقطار أو في شارع عام يعج بأصوات الحناجر، و مكتظ بأقدام الناس على الرصيف. فالمتصوفة بدورهم كانوا يقصدون الكهوف والغابات بغية العزلة والاختلاء بالنفس، ويعتزلون فيها الناس للتقرب إلى الله عز وجل، والتأمل في الحياة وليس هربا من أعبائها.
حدثنا رجاء عن النشر المشترك، والى اي حد هو صادق القول: بأنه يأتي من باب التجديد والتجريب في اللغة الشعرية، وتزايد الوعي بأهمية التعاون والتبادل الثقافي، وتعزيز الحوار بين الشعراء والقراء علما أنها ظاهرة كانت الساحة الابداعية المغربية قد عرفتها أواخر الستينيات (ديوان أشعار للناس الطيبين. الصادر عن منشورات رواد القلم بالدار البيضاء)
عشت تجربة النشر المشترك مرتين، من خلال ديوانين نشرا في تونس. الأول ديوان” انفلاتات” والثاني: “مراتيج باب البحر“. كانت تجربة متميزة عشناها بكل أطوارها وتميزها، قد يكون هذا “النشر المشترك” من باب الحوار والتبادل الثقافي بين أصوات شعرية عربية من بلدان عربية كثيرة: تونس، الجزائر، مصر، سوريا، العراق، المغرب وفلسطين ودول عربية أخرى. هناك كذلك تجارب نقدية مشتركة عشناها في المغرب حول مليكة العاصمي “ملاك الشعر وسحر القراءة“، وأخرى في كتاب “عز الدين المناصرة- شاعر المكان الفلسطيني الأول“، وهناك تجارب أخرى مشتركة لاقت استحسانا عند المتتبعين العرب، ومتابعة إعلامية عربية رفيعة.
أضمومتكم الأولى من القصص الطويلة / القصيرة، المنشورة تحت عنوان “ظلال حارقة ” وأنت الذي تقول عنها: ستجد الآخر وستجدني بكل تناقضاتي، وانكساراتي وأحلامي المعطوبة التي لا تختلف في شيء عن أحلام الآخرين. فإلى أي حد وفقتم في نقل هذا الواقع بلغة جامعة ما بين التصريح والتلميح؟
القصة … هي لسان الصامتين
الواقعية الأدبية في الكتابة القصصية تسمو قليلا فوق الواقع، وإن كانت واقعية. ولذلك، قد يكون الطفل الذي كنته في “ظلال حارقة” غيري، والولد الذي يبدو الديناميكي والحيوي الذي تميزه الشقاوة والطموح والذكاء ولدا آخر، جاءت تيارات في زمن لاحق وأجهزت على كل شيء أحببناه، وصارت الأشياء أمام عيوننا بلا معنى. وفي أخرى جاء نقيضها وقضى على البعض الجميل منها. ثم صورة الشاب، المنفتح على الرغبة في الحب، وحضور الجنس الآخر يكون محددا كنوع من الوجود وإثبات الذات. مرحلة الشباب تتميز عادة بالحيوية والاندفاع، ثلاثة بورتريهات في المجموعة القصصية، وهي تتراوح بين: براءة الطفولة، اندفاعية الشباب ونضج الكهولة، وكلها مراحل محددة في الحياة وتعطينا صورة تقريبية عن الاجواء التي تسبح فيها المجموعة القصصية بشكل عام. صور “واقعية” للكثير من الشخوص والظواهر، في محاولة من القاص لرصد فسيفساء المجتمع المغربي. القصص في “ظلال حارقة” تبين رفضا لواقع الشخوص، وتظهر الرغبة في التغيير والابتعاد عن النمطية وكسر الحواجز. تتحرك النصوص القصصية كلها بلغة متباينة وبألوان مختلفة، في سمفونية موحدة ذات رؤية شمولية، ولكن مقصديتها واحدة. القصة كما نعرف عموما هي لسان الصامتين، وهي تعبر عن واقع الحال، وعن حال الواقع. وهي أيضا تتبع لحركية الأشخاص داخل النسيج الجمعي والجماعي، تحكي الماضي بين التخييل السير ذاتي وتجارب واقع معيش في محيط اجتماعي يعج بكل المتناقضات. البطل في المجموعة القصصية متعدد، يتكلم بأنوات متعددة ومتناقضة، أحيانا يتكلم بضمير المتكلم وفي أخرى بالغائب، ويكتب بضمير الفرد والجمع. ولكن الزمن فيها زمن واحد، تتداخل فيه أزمنة الأحداث وأزمنة السرد، ولكن القارئ لا يشعر بهذا الانقطاع في سير الأحداث عبر زمن القصة، وكأنه يقرأ قصة واحدة ذات أبعاد مختلفة.
يبقى المتتبع لمسيرتكم الابداعية مشدودا إلى رسالتكم الموجهة إلى الاديب المغربي المرحوم ” إدريس الخوري“، المبدع الذي غادرنا عام 2022 [ با إدريس … اسمح لنا هفواتنا وأنت في مرقدك هناك، أما إذا كنت قد تعبت منا ومن هذه الأرض، واخترت الرحيل طواعية، فقد اتخذت قرارا صائبا، أتذكر الآن وقد رحلت عنا، صوتك صمتك وموتك، أخبرك أن الكتاب والمثقفين هنا أصبحوا لا يطيقون بعضهم في المدينة الواحدة، ولا يتراءون في الحي الواحد، أصبحوا عدائين في صمتهم أكثر من ذي قبل، ومما كنت تعرفه عنهم وفيهم، ولذلك لا تنزعج يا صاحبي، عشت ساحرا في كتاباتك جميلا مزعجا في مجالسك ؟ ]. من خلال رسالتك هذه، نريد أن نسألكم عن العلاقات المتأرجحة بين المد والجزر التي يعيشها المثقفون فيما بينهم؟
إدريس الخوري كان ضحية زيف…
إدريس الخوري رحمه الله كان ضحية زيف العلاقات بين المبدعين والمثقفين أنفسهم. وهنا يبدأ دور المثقف أو ينتهي. يبدأ بالالتزام بقضايا المجتمع وتبني مواقف، ولا ينتهي دوره في أن يكون بنك معلومات ومعارف، يتفاخر بها في المجالس واللقاءات المتلفزة أو الإذاعية. وبالتالي المفروض أن يدخل المثقف في خطاب مباشر مع المجتمع، ولكن الواقع يقول عكس ذلك. المثقف في عزلة مع نفسه. يخاطب المجتمع من برجه العاجي، والأنكى من ذلك، أننا نجد المثقف عدو نظيره المثقف. بمعنى آخر، هو عدو نفسه. ولذلك، فإننا نحتاج إلى ترسيخ مفاهيم فكرية واجتماعية جديدة للثقافة ودور المثقف. هناك فجوة كبيرة اليوم بين المثقف والمجتمع، وبين المثقفين أنفسهم. ويرجع ذلك إلى انفصال المثقف عن واقعه، والابتعاد عن مشاكل مجتمعه. أصبحت النخبة المثقفة تعيش في منأى عن محيطها، منعزلة في أماكن بعيدة عن المجتمع. تكتفي بتصريف صراعاتها الداخلية وعداءاتها الصامتة، وتصديرها على المستوى السيكولوجي والنفسي إلى عوالم مختلفة. وهو ما أعطى فرصة لظهور مثقفين سطحيين مزيفين يشككون في كل شيء، بما في ذلك اليقينيات نفسها. وبدأوا يزرعون سمومهم في كل مكان وفي كل اتجاه، وبالتالي أصبحت الثقافة الحقيقية، بكل تنوعاتها وتفرعاتها تتجه نحو الهاوية.
…من جهة ثانية مدى تقديرنا واعترافنا بما قدمه لنا أولئك المبدعون الراحلون ؟
المبدعون الراحلون كرماء .. تركوا لنا إرثا أدبيا غنيا
المبدعون الراحلون كانوا كرماء ورحماء أكثر من مبدعي اليوم، تركوا لنا إرثا أدبيا غنيا في مجالات مختلفة: في القصة لم يودعنا محمد إبراهيم بوعلو وعبد الرحيم المودن وغيرهما، إلا بعد أن أجادوا وأبدعوا في هذا الجنس الأدبي الرفيع، وكانوا من الرواد في التأسيس له. وفي الشعر لنا ما يكفي من الأسماء الرائدة: عبد الله راجع، عنيبة الحمري، ومحمد الخمار الكنوني وغيرهم، وفي الرواية ترك لنا عبد الكريم غلاب وحده إرثا رائدا وخالدا، والفن التشكيلي عمل محمد القاسمي ومحمد المليحي ما رسخ الفن المغربي عالميا، وفي الموسيقى ترك لنا الراحلون إرثا غنيا في الملحون والطرب الشعبي والأندلسي. رحم الله جميع المبدعين الاموات وأطال في عمر الأحياء ومتعهم بالصحة والعافية.
في نهاية حديثنا، نريد أن نتوقف معكم لتحدثونا عن “الحاجة إلى الجرافة“. عندما تقولون في إحدى مقالاتكم : أن سنوات من الشدة والعسر مرت على المغرب عبر التاريخ الحديث، وظلت فواجعها تتعقبهم، وذكرياتها تلاحقهم بدءا من عام الطاعون، ومرورا بعام البون في عهد الحماية، ووصولا إلى مرحلة جائحة كورونا، وانتهاء بمرحلة المونديال. كيف يمكن أن تشرحوا لنا ذلك؟ هل فعلا يعتبر المونديال ضرورة مغربية، حتى تتحرك كل تلك الآليات والجرافات، لتطهير المدن المغربية من الكثير من مظاهر الفساد، وما يدور في فلكها؟ والى أي حد ” الجرافة ” قادرة على تصحيح وتصويب تلك الاعوجاجات؟
نعم كنا في حاجة إلى الجرافة، وما أحوجنا إلى مكنسة. أما وجود المكنسة والجرافة هنا رمزي، لأنهما رمزيتان فقط للدلالة على شيء، ولكنهما آليتان من آليات الإصلاح على كل حال. أما عن تنظيم كأس العالم، فهو ليس مناسبة رياضية فحسب، كما نعتقد، ولكنه أكثر من مجرد كرة منفوخة بالهواء، وإلا ما كانت تتنافس على استضافته كل دول العالم، بما فيها العاجزة عن تنظيمه والمستضعفة عليه. تنظيم كأس العالم فرصة لتحقيق فوائد اقتصادية على عدة مستويات: سياحية، خدماتية، بنيات تحتية، خلق فرص الشغل، استقطاب شركات عالمية واستثمارات في مختلف المجالات وغيرها من المجالات التي يمكن أن تستفيد من هذه المنافع في المغرب. فقد رأينا ما حصل مباشرة بعد كأس العالم بقطر، ووصول المغرب إلى المربع الذهبي في النهائيات لأول مرة، استفادت السياحة المغربية، وحققت أرقاما قياسية.
نختم هذا اللقاء الحصري، بقصيدة ترافق هذا الحوار الممتع، نقدمها هدية لقراء ومتابعي موقع– ألوان– الإلكتروني.
لاَ أحَدَ تَغَزّلَ فِي الْقَمر
.…….
أَخْفِي قرُوحِي فِي الصَّبَاحِ والْمَسَاءِ
عَنْ شُجَيْرَاتِ الْحُزْنِ فِي جَسَدِي،
إذَا يَسّاقَطُ الشّعَرُ مِنْ رَأسِي.
لاَ شَارِع أَفِرُّ إِليْهِ مِنْ أَصْوَاتِ الْمَغُولِ
لاَ مَقْهَى أحْتَمِي بِهِ مِنَ مَرَارَةِ الْعَيْشِ
والزَّمَنِ الْمُمْتَدِّ فِي دنْيَايَ
كَيْ أَحْفَظُ الرَّيَاحِينَ مِنْ زَلاّتِ اللّسَانِ
وَلَكِنْ لاَ مَفَرَّ مِنَ الْمُحَالِ في كُلِّ حَال.
وَحِيدٌ تَحْتَ ضَوْءِ مِصْبَاحِ الشَّارِعِ الْكَفيفٍ،
أُنَاشِدُ صَمْتَ صَحَابَتِي الْأَصْفِيَاء
وَقَدْ سَكَنَ اللّيْلُ الصَّاخِبُ تَحْتَ جَفْنَيَّ،
يَرْصُدُ مَسَارَاتِ أحْلامِهِ مَحْمُولَةً عَلَى الْأَكْتَافِ
وَقَدِ انْطوَى عَلى نَفْسِهِ بينَ الرُّعَاةِ
وَسَط الْخِيَامِ اللَّعِينَةِ فِي الْأَحْرَاشِ.
قَمَرِي اللَّيْلَةَ فَوْقَ الْحُقولِ فِي حَجْمِ ذُبَابَةٍ
لَا أَثَرَ لِلنُّجُومِ فِي عَليَاءِ السَّمَاء.
خَطوَاتُ الرّاجِلينَ تَتَسَارَعُ مِنْ حَوْلِي،
قَبْلَ أنْ يُدَاهِمُهَا مُوَاءُ قِطَطِ الْمَسَاءِ.
لَا أثَرَ لِلزَّحْمَةِ فِي ضَوْءِ الْفَجْرِ الْمَسْحُورِ
بَقَايَا آثَارُ أقْدَامٍ تائِهَةٍ فِي الرِّيحِ
ذَهَبَتْ تُنَاجِي رَبَّهَا فِي الْمِحْرَابِ
تَبْحَثُ عَنْ صَدَاهَا بَيْنَ بَقَايَا الْجِرَاحِ،
فَوْقَ طَرِيقٍ غَرِيبِ الْمَمَرَّاتِ.
يَمُرُّ الْحُزْنُ وسَط جَعْجَعَة الْجُمُوعِ،
وَيعُودُ خَائِبًا مِنْ ظُلْمَةِ الْقبُور.
لاَ أَحَدَ تغَـزّلَ اللّيْلَةَ في عُيُونِ الْقَمَرِ
قُلوبٌ مَعْطوبَةٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَنُوحُ بِالْأنَاشِيدِ وَأشْعَارِ الْعُمْرِ الْمُتَآكِلِ
هَجَرَتْهَا الْعَاطِفَةُ الْحَنُونُ فِي زَمَنِ «كُورُونَا»
لَا أَحَدَ يَسْمَعُ نَبْضَ نُجُومِ آخِرِ اللّيْلِ.
النَّظَرَاتُ طائِشَةٌ خَـذَلَتْهَا إِطْلَالَاتُ السُّطُوحِ وَالشُّرُفاتُ فَارِغَةٌ فِي مُسْتَوْدَعَاتِ الْمَآقِي،
مُنْكَمِشةٌ عَلى نَفْسِهَا أَمَامَ حُجُبِ اللّيْل.
الْعَصَافيرُ الصّغِيرَةُ هَارِبَةُ مِنْ أَعْشَاشِهَا،
أَفْزَعَتْهَا طَلَقَاتُ بَنَادِقِ الرُّومِ.
طَائِرَةٌ تَبْحَثُ عَنْ مَأمَنٍ فَوْقَ الْأسْوَارِ الْمُحَصَّنَةِ،
وَبَيْنَ مِلْحِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ في جُنْحِ الظَّلام.
مِسْكينَةٌ هَذِهِ الْعَصَافيرُ فِي تسَامِيها الْمُزْمِنِ مَن يُطَمْئِنُها في تُرْبَة الْمَنْفَى وَغُرْبَتِهَا،
وَقَدْ نَبَتَ رِيشُهَا قَاصِرًا عَنِ الطّيَرَانِ
وَزَهْرُهَا صَاغِرٌ فِي صَخْرِ الْغَمَام؟
مَنْ يَسْأَلُ عَنْهَا عِيدَانَ الْأشْجَارِ الْيَابِسَةِ
وَقَدْ تَبَدَّدَ رِيشُهَا فِي خَمَائِلِ الرَّصَاص؟
مَنْسِيَةٌ فِي تَوَارِيهَا بَيْنَ صُخُورِ التِّلَالِ
قَابِعَةٌ بَعِيدًا عَنْ كُلِّ ذِي بَصَرٍ،
أَوْ رُؤْيَةٍ أَفْزَعَهَا شَتَاتُ الْبَصِيرَة.
هَا هِيَ الآنَ جُثَّةٌ تُزْهِرُ فِي دَمِي
تَسْتَهْزِئُ مِنْ جَلاّدِيهَا الْقُسَاة
وَمَا سَلِمَتْ مِنْ نُبَاحِ الْكِلَابِ اللّيْلِيةِ
تَسْتَرْجِعُ أَنْفَاسَها الْمُتَقطّعَةِ فِي الشَّمَالِ
وَحَنِينَ الذّاكِرَة فِي الْجَنُوبِ.
الْفَرَاشَاتُ الْمُلوَّنَةُ عَطّلتْ لُغَاتِهَا فَرَّتْ مِنْ يَنَابِيعِ الرَّبِيعِ الْمُزْهِر مَرَّتَيْنِ أطْبَقْتْ أَجْنِحَتَهَا عَلى أَجْسَادِهَا المُنْكَسِرَةِ وَاخْتَفَتْ كَيْ تَرْتاحَ في الْبَرارِي الْبَعِيدَة.
لاَ وَقْتَ لِلتَّلَصُّصِ عَلى التَّنُّورَاتِ الْمُتآمِرَةِ، وَعَلى الْعُيُونِ النَّائِمَةِ في الشّوارِعِ الْمُظلِمَة،
وَآخِرِ مَحَطّاتِ الْقِطارَات الْفَارِغَة.
هَلْ تَعَطَّلَتْ أَحَاسِيسُ الْعُـزّابِ فَوْقَ الأرْضِ الْيَبَابِ؟ اخْتَفَوْا خِلْسَةً مِنْ دُرُوبِ الْعِشْقِ الْمُؤَبّدِ بَيْنَ الْوِهَادِ، حَتّى تَتّضِحَ لهُمْ مَعَانِي الْعِبارَاتِ في حُلْمِي
وَمَلامِحُ الْكَلِمَاتِ فَوْقَ صَفَائِحِ النُّحَاسِ،
فِي زَحْمَةِ وَمَضَانِ سَاحَةِ «الصَّفّارِينْ».
الذِّكْرَياتُ تَجُوبُ أرْكَانَ الْمَكانِ فِي الْأَزَمَاتِ
وَرَاءَ الْأدْغَالِ بَيْنَ أَسْرَارِ الأبْوَاب.
استَعْصَتْ عَلى الظِّلالِ الشَّاحِبَةِ
وَالأضْوَاءِ تَتَآمَرُ فَوْقَ نُتُوءِ الْجِرَاحِ
وَعَلى النِّسْيَانِ فِي أدْغَالِ الْمَشَاعِر،
بَعْدَ طُولِ رِحْلَةِ السَّفَر.
إدريس الواغيش