الأديب حميد عقبي … من صنعاء اليمن إلى باريس فرنسا

الأديب حميد عقبي … من صنعاء اليمن إلى باريس فرنسا

    باريس/ المنفى يجدد الإبداع ويحرر الفكر في فضاءات الحرية

حوار: زهرة منون ناصر/عنقا الإدريسي: 

من الملفت لنظر الراصد للمشهد الثقافي الإبداعي في بلاد المهجر، تباين أنماط المبدعين، بين من يعيش لنفسه ومن يهب ذاته ومجهوداته لقضايا الإبداع والحلم بوطن بعيد عن كل الحواجز والمنزلقات، وفي هذا الإطار ارتأينا أن نحط الرحال بالقراء والمتتبعين عند قامة أدبية يمنية فرض عليها أن تهجر الوطن الأم (اليمن) والاستقرار في قلب المهجر الأوربي، تحديدا بفرنسا/ (باريس) عاصمة الجن والملائكة – كما أسميها – لتوصيف ازدواجية شخصيتها بين الجمال الساحر والوجه الخفي المظلم.

من مقر إقامته بباريس جعلنا نطل معه على العالم من نوافذ متعددة، باعتباره كاتبا، ناقدا، مخرجا، تشكيليا، فاتحا لنا قلبه، موظفا لغة لا تشبه أحدا، يكتب عن الإنسان ” المواطن العربي” حين تسلب حريته، وحين يحاول استعادتها عبر الفن والإبداع، فَمَنْفى هذا المبدع لم ولن يكن لعنة، بل هو جسر للحلم، للاحتجاج النبيل، للعبور نحو القصيدة والقصة والرواية واللوحة والفيلم … نحو الضوء، نحو الأمل، نحو كل الجماليات الجديدة.

لا يسعنا في جريدة “ألوان” الا أن نشكر للأديب “حميد عقبي” سعة صدره وتقبلنا بكل شغبنا المعرفي.

—————————-

المبدع ” حميد عقبيكاتب وسينمائي / مخرج مواهبه متعددة، جريء بطرحه لقضية شائكة في مجتمع محافظ – اليمن – يرى أن مجرد خروج المرأة من منزلها هي قضية فيها نظر، فكيف له أن يناقش قضايا حساسة – المثليين – وضرورة فهم مشاكلهم ، والعمل على ادماجهم بالمجتمع. الأمر الذي جر عليه الكثير من المشاكل، تبدأ من الاتهام بالإباحية ، والدعوة إلى الفساد، وتمتد الى تعرض عائلته للمضايقات والتهديدات،  وتنتهي بإصدار فتاوي تبيح إهدار دمه، تبعا لما جاء فيما كان قد كتبه عمر منصور – جريدة القدس العربي. بتاريخ 13 ماي 2010 -. وبذلك فإن هجرة الوطن عنده لم تكن انفصالا جغرافيا عن اليمن، بقدر ما كانت خطوة فكرية ووجدانية، تحول من خلالها إلى مبدع متعدد الاهتمامات والتخصصات، غير متنكر لجراح بلده في فرنسا / البلد المضياف، حيث وجد نفسه أمام أسئلة تتسم بالاتساع والشمولية على غرار:

من أنا؟ من نكون؟ ماذا نريد؟ كيف نعبر عن فكر مشروخ، مثقل بالهموم؟ كيف نكتب عن وطن نحمله ولا نحياه؟

فتتدفق الأسئلة سيولا جارفة للفكر المتحجر. وفي سؤال – سابق له – مضمونه :

هل قلت وكتبت ما كتبته عن وعي أم أنك لم تكن في كامل وعيك ؟ ” فجاء رده ذكيا ومركزا :

[ لم أكن مخمورا ولا تحت تأثير أي مخدر وماقلته عن وعي ، ولا أعتقد أني قلت كفرا أو خرجت عن الدين ، وتفسير رجال الدين لما قلته كان خاطئا جدا (…) ونحن في اليمن والعالم العربي مجتمعات بشرية بها كل الفئات ولسنا ملائكة ]

ويذهب ” حميد عقبي ” إلى القول – في الحوار المشار اليه سابقا –  بأنه كان خائفا عن حياته وعائلته، وبقي عرضة للكوابيس بشكل يومي، رغم أنه لم يقل إلا فكرة، فهوجمت بشكل متوحش وتمت الدعوة لقتله واهدار دمه من طرف الجماعات الدينية التي تفرض الحجز على كل تفكير عقلاني، ويؤكد قائلا قبل التوجه الى فرنسا كنت قد [ سافرت الى بغداد لدراسة فن الاخراج ، وهناك تشكلت رؤيتي ونما فكري واكتشفت أني فنان (…) وتعرفت على أستاذة من جميع الاتجاهات الفكرية. لست شيوعيا كما يقال عني . أنا فنان وانساني التفكير (…) أنا فنان وأحاول فهم الأمور بعملية الفن وليس بعقلية أخرى، ولكني لست ملحدا. لدي القناعة والإيمان بالله وهذا لا يمنع مناقشة قضايا أخرى ذات علاقة بالدين]

الهجرة إلى فرنسا: فضاء تتلاقى فيه الأسطورة اليمنية بالنقد الحداثي

ومن بعد كل ذلك جاءت هجرته إلى فرنسا وهي التي لم تكن مجرد انتقال جغرافي فقط، بل شكلت مفصلا وجوديا وثقافيا حادا، أعاد من خلاله صياغة ذاته الفنية والأدبية، وحول المنفى إلى مسرح مفتوح العوالم للتعبير والتجريب، حيث تتلاقى فيه الأسطورة اليمنية بالنقد الحداثي، فأعاد في فضاءاتها تشكيل الجسد والهوية واللغة عبر الإبداع الغزير والمتنوع، شعرا وقصة ورواية، ومسرحا، وتشكيلا، وسينما.

في سؤال لنا عن هذه التجربة الابداعية الغنية له في بلاد المهجر، يجيب:

أدب المهجر ليس نوعا واحدا، لأن المبدعين أصناف، أولهم أصبح مشهورا ولديه منافذ أو منافع خاصة من الدول الغنية، تجعله متفقا مع الرؤية الفرنكوفونية أو الاستعمارية، وهؤلاء هم من يسمون بالرواد، وقسم كبير منهم لا يعبر عن الواقع سواء في المهجر، أو حتى في بلدانهم الأصلية، مكتفين بالتعبير عن نظرة من يدعمهم ويكرمهم، وهم في حقيقة الأمر يعملون على تكريس ذواتهم ويسعون إلى الشهرة وتحقيق المنافع الخاصة، فأصبحوا للأسف – سواء في فرنسا أو غيرها من الدول الأخرى – مقيمون بالاسم، فلا ولن ينفعوا الحركة الإبداعية. وثانيهم يسمون أنفسهم بالكتاب أو المبدعين، وقد جاؤوا ولديهم الأموال الطائلة، من الشرق العربي خاصة بعد الخريف، الذي يسمى بالربيع العربي، وهو ما ساعدهم على إنتاج الكتب…

التقيت بفئة منهم في احدى المقاهي الباريسية “ الشانزيليزيه ” حيث ثمن كأس قهوة يقدر ب 20 أورو، وقد يصرف الواحد منهم من 100 الى 200 أورو إذا حدث وكانت معه أي فتاة، وعند طبعه لأي كتاب، يصرف ما يتراوح بين 1000 و2000 أورو، لا تهمه أي تكاليف بقدر ما تهمه المحافظة على إسمه، أما الأموال فهي متوفرة بعد أن سرقها من المؤسسات العربية قبل المجيء إلى هنا، مدعين أنهم يخدمون الفكر والأدب، وما ذلك إلا من باب التجهيل فقط. أما ثالث تلك الأصناف ، وأنا أنتمي إليهم – فهم المجدون الذين حاولوا الوصول بإبداعنا – معتمدين على الجهود الذاتية بالأساس – إلى أسمى المراتب ، فنحن نكافح ، نعمل ، نكتب ، ننشر … وأحيانا لا يلتفت إلينا، وأحايين أخرى قد يلتفت إلى بعضنا، وأحيانا قد يكون منا المكرمون، شريطة التنازل عن بعض الأفكار أو الأهداف للحظوة بهذه الجوائز أو التكريمات أو… أو…!. والصنف الرابع والأخير، أغلبهم من الشباب الناشئين أو الذين هم في بداياتهم، وهؤلاء يحاولون البحث عن يد تمد إليهم وتدعمهم، ولايزال بعضهم يتردد ما بين هذه الفكرة والأخرى، فهم في إطار التكوين، غير أن بعضا منهم – للأسف – يبقى منبهرا بما يسمى بالرواد، وهو ما يجعل ابداعهم يخفت لدرجة نجد أن هناك من يطبعون كتابا واحدا فتخبو لهفة ابداعهم، وقد يطويهم النسيان لأن عملية المواصلة الإبداعية ليست بالأمر الهين ، خاصة وأن التواجد بأوروبا يجعل الكثير عرضة للمد العنصري والرقابة والكثير من الحواجز والحدود. فالمبدع العربي هنا ليس حرا فيما يقوله، ويمكن أن تتم مسائلته عن كل ما يكتب، ويمكن أن تصادر إنتاجاته أو تتعرض لمشكلات مادية أو تأديبية بسبب أفكاره.]

يبقى المبدع ” حميد عقبي ” غزير العطاء والإبداع،  فقد أصدر 17 رواية، نشرت في 15 كتابا عن دور نشر متعددة في ألمانيا، المغرب العربي، مصر، ومنها” الجني وردان” و”الممرضة دي “. كما صدرت له ستة كتب تضم نصوصا مسرحية، وأكثر من عشرة نصوص مسرحية في مجلات ومواقع ثقافية متعددة، وأقام معارض تشكيلية تميزت جميعها بانسيابية خيالية وتوصيف بصري، يعكس تجليات الغموض والقلق والفرح الإنساني المستند إلى الموروث اليمني.

سألناه عن ظاهرة الاسهاب أو الإسهال في الكتابة، فجاء رده كالتالي:

شخصيا أشتغل على القصة القصيرة، وخلال أسبوعين أنتجت 20 حلقة أو مجموعة قصصية أو أسلوب قصصي حول العالم ، ولذلك أبقى دوما منشغلا بالكتابة وأنشر أعمالي مع كل الجهات التي تعطيني بعض الامتيازات أو التشجيعات، ففي السنوات الثلاث الأخيرة انشغلت كثيرا بالكتابة  لدرجة أني أكتب يوميا إما قصيدة أو قصة قصيرة أو جزء من مشهد لرواية ، وعندما أعتكف على كتابة رواية فإني اعطيها كل تفرغي، فأنهيها ما بين عشرة أيام وشهر ، بحيث أعيش بكل جوارحي وكياني مع الشخصيات، مع النص ، وإذا مسكت نصا مسرحيا فإني أتممه في ظرف أسبوع واحد ، لأني أشتغل  16ساعة يوميا.

أعتقد أن هناك فرق شاسع ما بين شخص يشتغل كل تلك المدة الزمنية يوميا ، وآخر لا تتعدى فترة عمله الإنتاجية  ساعة واحدة في اليوم .

هذه الاسترسالية الإبداعية دفعتنا إلى التساؤل عن الكيفية التي يوفق فيها بين الانتقال الكتابي من بوابة إبداعية لأخرى :

فتفضل بالقول بأنه لا يعتبر الكتابة صناعة . “فأنا أعترف من ذاتي ودواخلي ولا أومن كثيرا بالنظريات الأدبية، بمعنى أن هناك شكلا معينا تحترمه في كتاباتك ، إذا كان نصا مسرحيا أو رواية أو نصا شعريا أو لوحة تشكيلية، لأننا نعيش عصرا تزامن أو تمازج الفنون، ومن هنا تكون نصوصي الإبداعية مليئة بهذه التمازجات الفنية ، فالرواية عندي يجد بها القراء مسرحا، شعرا، قصة، تشكيلا  … وفي كل أعمالي أشتغل بنظرة السينمائي والمسرحي والفنان التشكيلي أكثر من أني أجيد الصناعات الأدبية، أو أجيد مثلا صناعة المفارقات الدرامية، ومع ذلك تعقدني أحيانا شخصية أتوقف معها، تربكني ولا أعرف بالضبط ماذا تريد هذه الشخصية، ولا كيف أعبر عنها، مثلي في ذلك مثل أي كاتب قد يصاب بحالة من الهلع أو الارتباك وهو يكتب ، ولكن – الحمد لله – والى الآن تبدو الرؤى النقدية حول أعمالي ليست سيئة ، ولنقل أنها جيدة أو على الأقل هي مشجعة.  وفي كل انشغالاتي يتجلى البعد السينمائي ( لذي 30 سنة اشتغال بهذا المجال ) ومع ذلك لم أحقق حلمي بفلم طويل، لأن العائق الأساس هو الإنتاج، فلو كانت لذي الامكانات المالية (10 أو 20 أو 30 ألف دولار) لأنتجت فلما طويلا، لكن، تبقى العين بصيرة واليد قصيرة. أرجو أن تتاح الفرصة فأحظى بمنحة إنتاجية كي أحقق هذا الحلم.

و عن تأثير الغربة أو بالأحرى الهجرة على أعماله الإبداعية  قال:

عنصر الغربة يبقى مؤثرا ديناميكيا اكتشفته في الأخير ، فقبل 2010 عندما وصلت إلى فرنسا كنت اشتغل على النقد السينمائي ونشرت بعض القصص القصيرة و المقالات السياسية أو  الفكرية لكن بعد أن تعرضت لفتوى القتل من عصابة متزمتة ومتطرفة دينيا ، الأمر الذي جعلني ابتعدت عن الوطن ، وبدأت أستوعب ذاتي والمناخ العام.

فالاغتراب عند الكاتب عقبي ليس شتاتا فقط ، بل هو فرصة لإعادة اكتشاف الذات وترتيب الأوراق الفكرية وتصوير الدواخل الملتهبة ، فتحولت مدينة الإقامة باريس في مختلف ابداعاته المتنوعة، إلى مرآة تعكس مآسي الوطن الأم ، و ظهرت معها الغربة ، ومع مرور الزمن نمت الخبرة الثقافية والكتابية… ولم أعد ذاك الشاب الطائش الذي يكتب عن الحبيبة فقط، أو يبحث عن حب آخر أو مغامرة عاطفية أو جنسية. فأنا أكتب الآن وأغترف، وأنا البعيد عن وطنه. فكيف أرى وطني؟ وماذا يريد مني ؟ وماذا يفعل هذا الشخص الذي هو أنا ؟ وكيف يعبر عن حنينه المتدفق. فهذه من الانشغالات المهمة التي أثرت أيضا في انتاجاتي، خاصة مع استحالة العودة إلى الوطن، فخلال 15 سنة الأخيرة لم أسافر إلى أي دولة عربية، وفي فرنسا لم أصبح غريبا، وصرت أشتاق لحديثي في” النورماندي” حتى ولو غبت عنها لمدة يوم واحد، فرنسا هي وطني الآخر.

في حوار سابق له – أشرنا اليه في بداية هذه الجلسة الماتعة معه – يقول :

أنا أحب بلدي اليمن وفرنسا أعتبرها موطني الثاني، ولا أخفي تأثري بالثقافة الفرنسية والغربية، ولكني اميل للتراث اليمني والثقافة العربية وأتواصل مع مؤسسات يمنية وعربية، أحضر المؤتمرات والندوات وأحلم دائما بتفعيل السينما اليمنية.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com