العبارة الادبية بنت المخيلة… والمخيلة موهبة ابداع الصور
العبارة الادبية بنت المخيلة… والمخيلة موهبة ابداع الصور
هذه مُقابلة مع د. علي نجيب إبراهيم الذي علّم الأدب في سوريّة، كما في الجامعات الفرنسية، انطلاقاً من المنهج الجمالي. هذا المنهج الذي يُركِّز على تذوُّق النصوص والتفاعُل معها، مُتخطّياً مُجرَّد التلقّي السلبيّ. وقد رفدَ د. إبراهيم منهجه بكثيرٍ من المقالات النقدية والكتُب المُترجمَة، في مجال الفلسفة وعلم الجمال كـ» أساطين الفِكر «(عشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين)، و»قاموس علم الجمال« (بالاشتراك مع الدكتور بسّام بركة). ولعلّ أكثر ما يُوضِّح أبعاد هذا المنهج البحث الذي يعكِف عليه علي نجيب إبراهيم، أعني» جماليّات الأدب وداء العصر «الذي يُمثِّل مشروعاً نقدياً تربويّاً من شأنه أن يبني شخصيّة النشء الجديد المُثقَّفةَ الحسّاسة، في عصر تهميش الثقافة، والخضوع المؤذي لمنطق السوق وتقديس السُّلعة
نترك القراء مع هذا الحديث المفيد
- حبّذا لو تبدأ، أُستاذنا الفاضِل، بتقديم نفسك لِقُرّاء (ألوان): فقد عرفتُ أنّك تشتغل منذ أربعين عاماً في مجال جماليات الأدب العربي والترجمة
علي نجيب إبراهيم: حين كنتُ طالِباً في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة تشرين (اللاذقية ـ سورية)، درستُ الأدب العربي الحديث بأقسامه الشِّعرية والنثرية المُتعدّدة ضمن إطار مادة واحدة. لكن حين تخرّجتُ وعُيِّنتُ مُعيداً في الكليّة المذكورة، قُسّمَت مادة الأدب الحديث إلى قسمين رئيسَين: الشعر والنثر بأجناسه المعروفة كالرواية، والمسرحية والقصة القصيرة. وهكذا أوفدتني الجامعة سنة 1982 إلى فرنسا لكي أحضّر أطروحة دكتوراه دولة في مجال الرواية العربية المُعاصِرة. وبُعَيد تسجيلي في جامعة السوربون الرابعة (قسم الدراسات العربية الإسلامية)، رُحتُ أبحث في نظرية علم الجمال عن الأسس التي من شأنها أن تُشكّل منهجاً نقدياً جماليّاً في دراسة النصّ الروائي. تزامن بحثي مع المدّ الهائل لتيّاراتٍ نقدية طغت في العالَم كلّه، وخصوصاً في فرنسا، بعد عام 1968 كالبنيوية، وسوسيولوجيا الرواية، والتفكيكية، ونظرية العلامات والرموز، والتأويليّة، وغيرها. لكنّ هذا المَدّ لم يشدّني إلـى الدرجة التي تُرجِّحُ اختياري أيَّ منهــــجٍ من منـــــاهِج تياراتــــــه» النقدية «. مع أنّي استعنتُ ببعض مُصطلحاتها الخاصّة بعلم السَّرد. وفي النهاية أرسيتُ، في أُطروحتي، أُسس منهج النّقد الجمالي الذي استنبطتُه من علم الجمال العام. وما إن عُدتُ إلى سورية في الشهر الثاني من عام 1989، حتى شرعتُ في شرح عناصر هذا المنهج وبنوده على صعيد واسع بدءاً بالمحاضرات في الجامعة، والمراكز الثقافية السورية، ومؤتمرات النقد العربية والأجنبية، مروراً بالمقالات التي نشرتُها خلال عشر سنوات في الصُّحف السورية، والمجلّات العربية، ومجلة البحوث العلمية في جامعة تشرين، وانتهاءً بترجمة بعض المراجع والمقالات الفرنسية سواء في الفلسفة أم في نظرية الأدب أم في علم الجمال.
في عام 1999، نُدِبْتُ من وزارة التعليم العالي إلى وزارة الثقافة حيث عُيِّنتُ مُستشاراً ثقافياً لإدارة المركز الثقافي العربي السوري في باريس. فمثّلتْ نشاطاتُ المركز الأدبية، والفكرية، والثقافية، وخصوصاً الفنيّة مجالاً عمليّاً لتوسيع أُفق المنهج الجمالي وتفاعلاته في عصر العولمة وطغيان الحياة الاستهلاكية. وما كان تفاعُل جمهور المركز مع هذا المنهج لِيتحقَّق لولا قيامُهُ على الإيمان بقوّة تأثير الفنّ في مشاعرنا وأفكارنا، وطموحاتنا، وتأمّلاتنا الجمالية. وهذا ما أعكِفُ إلى الآن على إثباته من خلال المحاضرات الجامعية والثقافية، والمُشاركة في الندوات والمؤتمرات التي تُعقد هنا أو هناك في أوروبا وخارجها.
اختصاصك الجامعي في جماليات اللغة العربية: تُرى هل ماتزال جمالية اللغة العربية في الإبداع المُعاصِر حاضِرةً مُقارنَةً مع ما كانت عليه لدى الأُدباء العرب السابقين؟
علي نجيب إبراهيم: لا شكّ في أنّ أدبنا العربي الحديث ينطوي على جماليات اللغة الشعرية والنثرية والسردية. فما أكثر القصائد الدُّرَر التي أبدعها شُعراؤنا العرب، وما أكثر المسرحيات المؤثِّرة، والروايات العميقة التي صنعتْ تاريخَها الزمني والأسلوبي معاً. إنَّما تجدر الإشارة هنا إلى مُشكلتَين من مشكلات دراسة جماليات اللغة العربية الحديثة.
المُشكلة الأولى أنّ نقدنا العربي الحديث حلّل هذه النصوص بمصطلحات مناهِج وافِدَة لا تحتفل بجماليات الأسلوب، ولا بالإبداع اللغوي. فبدا الأمر كما لو أنّ النصوص الأدبية ـ المكتوبة باللغة العربية ـ مُصنَّفة على نسَقٍ واحد. بمعنى أنّ وصف اختلاف أشكالها (قصيدة، وقصيدة نثر، ومسرحية، ومسرحية شِعرية، ورواية، وقصة قصيرة، وخاطرة…) لا يمكِن أن يُسوِّغ تجاهُل خصائصها الأسلوبية، ومستويات جمالها اللغوي.
والمُشكلة الثانية أنّ مناهج تعليم الأدب في عالَمنا العربي لا تُعلِّم النصوص خارج إطار» الجُملة المُفيدة”، أي التي تدلُّ على معنى ينبغي أن يتمخَّض عنه فِعل القراءة. حتى حين نُحلِّل الصُّوَر المجازية في الشِّعر، نُعيدها إلى عناصرها الأولى من تشبيه واستعارة، ومجاز مُرسَل…الخ. وحين نُحلِّل الحوار المسرحي لا نُحاوِل النفوذ إلى عُمق الموقف المأساوي المُتجسِّد في صُوَر أدبية ينبغي أن نتخيَّلها كما تخيَّلها الكاتب. كذلك حين نُحلِّل روايةً، نصبُّ اهتمامنا على تسلسل الأحداث ومواقف الشخصيات، ولا نحتفل بمنطق الحبكة إلّا قليلاً. وبعبارة أخرى: ما نزال، في برامجنا الخاصة بتعليم الأدب، نضرب صفحاً عن الجانب التربوي لِصالح التحصيل المَعرفي الماثل في فهم الدلالة اللغوية. أقصد بالجانب التربوي تدريب الحواسّ كما الحساسية الجمالية على تذوُّق أشكال التعبير وتمييز مستوياتها الجمالية: تمرين الأُذن على استحسان أنغام الشِّعر وموسيقاه الخارجية والداخلية، وتهذيب الصوت وصَقْل أدائه في الإنشاد والتغنّي والغِناء، وتنشيط المُخيِّلة المُبدعة في تقصّي أبعاد التعبير اللغوي عن الصورة الأدبية. فهذا كلّه يبني الشخصيّة ويُغني وجودَها، ويُسعِدها.
- أين تكمن جمالية النصّ الأدبي؟ وما علاقتها بالنحو وعلم البلاغة، وهل هي مُجرّد إبداع سردي يتجلّى في صورة شعرية أو نثريّة؟
علي نجيب إبراهيم: تتجلّى جمالية النصّ الأدبي في مادّة إبداع الصُّورة الأدبية وتخيُّلها، أي في العِبارة. العبارة الأدبية بِنْتُ المُخيِّلة، والمُخيِّلة هي موهِبَة إبداع الصُّوَر. المُخيِّلة تبتكِر الصُّوَر ولا تلتقِطها كما يلتقطها جهاز التصوير. الجهاز يلتقِط معالِم الصورة كما هي. لذلك يسهُل على أصحاب الهواتف المحمولة مَحو الصورة إذا وجدوا أنّها تُظهِر عيباً من عُيوبهم الشكلية أو الجسدية. ثُمّ يُغيّروا الوضعية والهندام وزاوية التصوير بغية تجميلها على أحسن وجهٍ يَرَونه. على حين أنّ الشاعر يُبدِع صورةً أو مشهداً من عِدَّة صُوَر من خلال عبارة مصوغة باللغة العربية، وبحسب قواعِدها النحوية والصرفيّة والاشتقاقية. هذه العبارة [التي نفهمها لأنّنا نتكلّم اللغة العربية] تدعونا إلى التخيُّل أكثر ممّا تُخاطِب إدراكنا. أو أنّها تمضي بنا في أُفق إبداع الصورة لا في سبُل استقصاء المعنى اللغوي. خُذي مثالاً على هذا قصيدة الشاعر سعيد عقل» نسَمَتْ من صَوبِ سورية الجَنوبُ «التي غنّتها فيروز، وتأمّلي هَذيْن البيتَين
وَيْحَـــهُ ذاتَ تلاقَينا علــــــــى سُندُسِ الغُوطَةِ والدُّنيا غُروبُ
قـــــــال لـي أشياءَ لا أعرفُها كالعَصافير تُنـــــائي وتَـؤوبُ
فقبل أن تُفكِّري في المعنى الذي يقصِده الشاعر، ستتخيّلين مشهد لقاء عاشِقَة بعشيقها في مروجِ غُوطة دمشق قُبيل غياب الشمس. يقول العاشق كلِماتٍ تُطرِب العاشِقَة. وحين تسألها رفيقاتها عمّا قال لها، تُجيب إجابةَ عاشقةٍ خَصبةِ المُخيِّلة. لأنّها أبدعت لكلماتِ عاشِقها صورةً فريدة: قال لها كلماتٍ في العِشق لم تسمعها من قبْل أو تهيّأ لها أنّها تسمعها أوّل مرّة، كلماتٍ تُؤجِّج مشاعرها بين جذْبٍ وردٍّ كعصافير المساء التي تُلاعِب الأُفق قبل المُضيّ إلى مَبيتها
حتى إنّكِ، حين تسمعين فيروز تُغنّي البَيتَين، تتخيّلين المشهدَ ذاته قبل التفكير في الألفاظ البارعة التي حاك سعيد عقل عبارته الشِّعرية بها. وخصوصاً لفظة» وَيْحَه« الزاخرة بالإعجابِ، وزُهوِّ العاشقِين. وبعدُ؛ فهل يُعقل أن تُختزَلَ صُوَرُ البيتَين بالسؤال عمّا قال لها، أو عن البحر الشِّعري الذي تنتظِم مقاطع البيتَين في تفعيلاته، أو عن عناصر التشبيه في الصورة البلاغية؟
ألا يُمكِن، بالمُقابِل، أن يمضي بنا خيالُنا، بعيداً عن ذلك كلّه، إلى تصوُّر عاشِقٍ استجدى موعِداً مع محبوبته، وإذا به ساعةَ اللقاء لا يجِد في حوزته من كلماتٍ تُترجِم شوقه إليها، أو تخطبُ مزيداً من وُدِّها سُرعان ما يعود إلى نَدْب حظّة من مجافاة اللُّغة مُغنيّاً مع فيروز: كالعَصافير تُنائي وتَؤوبُ
- حدِّثنا عن مُشاركتك في جامعة أوتاوا الكندية في مؤتمر عن تعليم اللغة العربية في الجامعات الغربيّة
علي نجيب إبراهيم: في نهاية شهر نيسان/أفريل عام 2019، نظّم زميلنا العزيز الدكتور عادل الزعيم، الأستاذ في جامعة أوتاوا،» مجموعة عمل تطوير مشروع الدراسات العربية «. وذلك ضمن إطار عالميّة internationalisation هذه الجامعة وعلاقاتها المُتبادَلة مع جامعات العالَم الأُخرى. ضمّت المجموعة أساتذةً وخُبراءَ كباراً ذوي تجربة طويلة في التبادُل الثقافي، والترجمة. لذلك انصبّ الاهتمام على البحوث والدراسات العربية الفعّالة التي من شأنها أن تؤسِّس مشروعاً منهجياً لتعليم لُغتنا ضمن سياقها الاجتماعي الثقافي بكلّ ما ينطوي عليه من عادات، وتقاليد، وفنون شعبية، وفنون جميلة، ونصوص أدبية، وغِناء، وموسيقى
انطلقتُ، لاحقاً، من هذا المشروع في تأليف كتابٍ تربوي بعنوان جماليّاتُ الأدب وداءُ العصر. الغرَض التربوي المُبتغَى يفترِض أنّ تعليم جماليات الأدب يُسهِم في بناء شخصية الإنسان العربي المتوازنة المُثقّفة القادرة على تفادي تبِعات العولمة ومنطق السوق، والفراغ الروحي الذي تُشيعه وسائل التكنولوجيا الحديثة. الفراغ الروحي يعني الزُّهد بقيمة الحياة ذاتها زُهداً يودي غالباً إلى الانتحار الفِعلي أو المعنوي. ويعني، في جانبٍ من جوانبه المرَضيَّة، عجزاً فادِحاً عن تحقيق الذات الفاضلة بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي. فالفضيلة قوّة تنطوي على التفكير، والتأمُّل، والرويَّة، والحريّة أيضاً. قوّة تمتح نسغَها من الحساسية الجمالية، والذوق، ورحابة إدراك الطبيعة والوجود إدراكاً جماليّاً، فتُعزِّز فعاليّة الشجاعة في مواجهة صُروف الواقع وصُعوباته، وفي حماية سيادة الإنسان في المجتمع الخاصّ والعام.
هذا الشخص الفاضِل، المُثقَّف الحسّاس، الذي يملِك نفسَه، ويَصون سيادته هو الذي سعى منطق السوق إلى إخفائه من الوجود، باصطناع الفرد الأُمّي ثقافياً، المُستهلِك الفارِغ روحياً، زبون الشركات مُتعدّدة الجنسيات أو وقود حروبها الاقتصادية والعسكرية الضاريَة. هذه الشركات تُزوِّده بأحدث الأجهزة الالكترونية التي سُرعان ما تغدو لديه غاية في ذاتها، مع أنّها ليست أكثر من وسيلة اتصال مُمتازة دون شكّ. وما إن تكفّ عن أن تكون مُجرَّد وسيلة تقنية وتغدو» غاية في ذاتها «حتى تبدأ في التهام وقته، وشَلِّ مَقدراته، وتعطيل مُخيَّلته وتفكيره، وإلقائه في جحيم الأُميَّة الثقافية والجهل. وأين سيجِد نعمةً تفوق نعمةَ جهازٍ يدعوه إلى الكفِّ عن التفكير لأنّه يُفكِّر عنه، ويقيه مشقّة العمل وشقاءه بقيادته في عوالِم افتراضيّة تفوق الخيال!
- شاركتَ العام الماضي في مؤتمر قُرطبة عن “قضايا النهضة العربية الحديثة”. كيف كان تمثيل المغرب في رأيك؟
علي نجيب إبراهيم: العام الماضي، وتحديداً في السابع والعشرين، والثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، عقد معهد الدراسات الابستمولوجية ـ أوروبا IESE Brussels ندوة تبادُل العَصف الفكري في قضايا النهضة العربية الحديثة والتساؤل عن صلاحيتها في عصرنا الرّاهن. لفت نظري مكان انعقاد الندوة الأشبه بمُتحف: إنّه البيت العربي الذي يملكه المُفكِّر الفرنسي روجيه غارودي. وقد استضافتنا زوجُه الفلسطينية بمنتهى اللطف والكياسة.
كان النقاش خصْباً لأنّه انطلق من نظرةٍ مُتفائلة ترى أنّ في ثقافتنا العربية من أسباب الحياة التي من شأنها تعزيز العقل النقدي الفعّال، وحرية التفكير، ومتابعة البحث العلمي وترجمة العلوم والآداب الأجنبية إلى لُغتنا العربية. وقد أسفرت هذه الندوة عن تشكيل لجان خاصّة بمحاوِر مُحدَّدة: مُنجزات النهضة، ومَعوقاتها، ومُستقبَل قضاياها. وسوف يعقد المعهد نفسه ندوةً أُخرى في بروكسل يومَي
19 و 20 من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، خاصّة بالترجمة وواقعها في عالَمنا العربي
أمّا مُشارَكة المغرب فكانت غنيّة فعلاً. وهنا أكتفي بمثال واحد لا يخلو من الطّرافة والمُصادفة المعرفيّة المُدهِشة. ذلك أنّني استعنتُ، في الكتاب الذي أؤلّفه عن جماليات الأدب وداء العصر، بكتاب بالغ الأهمية ألّفه مَغربي باللغة الفرنسية، ونشرَتْه دار Saint Vrin الباريسية سنة 1983. عنوان الكتاب: النحو العربي ومنطق أرسطو. وفي حمأة النقاش وتبادَل الأفكار، حيث يصعد المُشاركون إلى المنبر تباعاً، (ويعرِض كلّ منهم أفكاره خلال مُدَّة تتراوح بين 5 ـ 10 دقائق)، تحدّث بروفسور مغربي ـ حديثَ فيلسوفٍ مُتمكّن ـ عن منطق أرسطو وتأثيره في لُغتنا العربية. سألتُ عمّن يكون هذا الفيلسوف، فأجابوني: هذا عبد العلي العُمراني جمال المُتخصِّص في الفلسفة العربية الإسلامية في الأندلس. ولمّا جاء فاصل الاستراحة، وشُرب القهوة والشاي، هرعتُ إليه أسأله عمّا إذا كان هو مؤلِّف الكتاب الفرنسي الذي اقتبستُ منه بعض الشواهِد. يا إلهي! ما هذه المُصادفة السعيدة؟! ورُحنا نجوب شِعاب فِكر ابن رُشْد القُرطبي المرّاكشي، وتاريخ الفلاسفة العرب الذين جهدوا في الجمع المنهجيّ بين العقْلِ والنَّقْل. ومن ثَمّ تأكّدت في ذهني فكرةُ أن المغرب وريث حضارة العرب في الأندلس بامتياز.
- ما موضوع مداخلتك في هذه الندوة؟
علي نجيب إبراهيم: تدخّلت عدّة مرّات خلال الندوة. لكنّي ركّزْتُ على عِدّة أفكار منها عدَم الإيمان بالقطيعة المعرفية، والانسياق إلى تصنيف مراحل الثقافة العربية تصنيفاً غربيّاً: الحداثة، وما بعد الحداثة، وعصر النهايات الذي بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر يُعلِن موت الآلهة، وموت الفنّ، وموت المؤلِّف، ونهاية علم الجمال. والتبشير بعصر المعلوماتية، والذكاء الاصطناعي. ومنها عدم جواز الأحكام القطعية اليائسة التي تقول إنّ النهضة العربية الحديثة لم تُحقِّق شيئاً، أيَّ شيء. لقد فات الأوان، وصار العرب خارج التاريخ، ويستحيل عليهم أن ينهضوا من جديد. ومنها أنّ الاستعمار، من جهة، والصهيونية، من جهة ثانية، أعاقا النهضة العربية بالتجزئة، والمجازر، والحروب الأهلية، والثورات المُلوّنة وصناعة الحركات الإسلامية التكفيرية التي تُدمِّر مُجتمعاتنا باسم الجهاد في سبيل الله. هكذا شاعت في حياتنا السياسية والاجتماعية مفاهيم متناقضة، عجيبة غريبة كالربيع العربي، والتكفير، والفوضى الخلّاقة، والثورات المُلوَّنة، والوجبات السريعة، والقوَّة الناعمة، وحروب الصورة. وما هي في الحقيقة سوى إفرازات عقليّة همجيّة تتبنّاها الولايات المُتّحدة الأمريكية وحلفاؤها، وشركاتُها العابرة للقارّات. إنّها شريعة الغاب، لا بل أردأ وأقسى!
- هل كانت الندوة ناجحة برايك؟
علي نجيب إبراهيم: بالتأكيد. لأنّ وضع القضايا الفكرية موضع شكّ وتساؤل، يُكوِّن، في ذاته، صورة واضحة عن مشروع فكري مُستقبلي يُكمِل نواقِص المشروعات السابقة، ويُطوِّر منهجه في ضوء المُعطيات الجديدة. وأنا إنّما أقول ذلك لأنني بطبعي مُتفائل.
- كلمة حُرَّة أتركها لكَ في ختام هذه المُقابلة
علي نجيب إبراهيم: أمّا في ختام هذه المقابلة اللطيفة فأدعو المؤسَّسات الثقافية العربية، وخصوصاً مؤسَّسات التعليم، إلى الاهتمام بالجانب التربوي من التعليم. الجانب الذي يبني شخصية أبنائنا، وإرادتهم، وطموحاتهم في الحياة. هذه الشخصية التي تُنمّي علاقتها بالطبيعة وظواهرها الجمالية التي لا يجوز إهمالها. تُنمّي علاقتها باللغة العربية وإمكاناتها التعبيرية قبل إمكاناتها الدلالية. لأنّ أساليب التعبير هي التي تزخر بجمال الصُّوَر الأدبية التي نسمعها أحياناً بأصوات مُطربينا المُتميِّزين، نسمعها، على سبيل المثال لا الحصْر، في كلِمات الشاعر العربي السوري بدوي الجيل، يصدح بها صوت السيد مكّاوي أو صوتُ مها الجابري:
دِياري وأهلي باركَ اللّهُ فيهما وردَّ الرّياحَ الهُوجَ أَحْنى من الصَّبا