شعـرية الاغتـراب في ” مقامات الوجد ” عبد العالي أناني
شعـرية الاغتـراب في ” مقامات الوجد ”
شكّلت الفنون بمختلف أنواعها متنفساً ومخرجاً لما يعتمل بالنفوس ويسيّج الذوات، وبوابةً يُطلُّ منها خاصةً المغتربون عن أوطانهم وذويهم ولو لحظات، قد لا تشفي غليلهم، ولكنها تريحهم وتزوّدهم بالطاقة لمواصلة العيش والتعايش. تنتمي الشاعرة ريم السيد إلى تلك الفئة من المثقفين، ولعل الإهداء الذي دوّنته بمقدمة ديوانها مقامات الوجد يُظهر ما قيل بوضوح: إليكم.. إلى وطني أهدي حروفي.
قصائد ديوان مقامات الوجد تنمُّ عن حسٍّ ذوقيٍّ مميز. تعاملت منتجته مع الشعر على أنه سحرٌ ينهض من الواقع، يجاور ويعانق تجاربها الخاصة والمشتركة، ويهب أجنحةً لخيالها، لتسافر وترتشف رُحاق العوالم المختلفة.
أصرّت الشاعرة ريم السيد في نصوصها الشعرية على مخاطبة الروح، والوجد الفلسفي التصوفي، باعتباره في مرتبةٍ أعلى من التواجد والوجود؛ عبر ترك البوح الشعري يتدفق من غير رقابة الشعور أحياناً، حين تمجّد الحب والمشاعر النبيلة، وحين تعلن الأحاسيس واللواعج عن حضورها القوي داخل المنظومة الشعرية. وأحياناً أخرى تستحضر الشعور بقوةٍ حين تطرح الهموم والمواضيع التي تشغل تفكيرها، كالغربة والوطن والهجرة والمشاكل الإنسانية المختلفة…، فتدع الأحداث والأشياء تندلق بتلقائية، كما حدثت وتحدث في الواقع. تراقبها لتعيد إنتاجها بتدخل الشعور في اللاشعور، وتحوّل ما رصدته إلى رموزٍ وإيحاءاتٍ ودلالات، بتراكيب تبتعد عن العشوائية، من أجل خلق علاقاتٍ داخليةٍ تجلي الوجود الباطني، الذي يُبطل الأحكام النمطية المسبقة، التي تكون عادةً بعيدةً عن الحقيقة، لجهلها بالوجع الذي كان سبباً للبوح ونظم القصائد. باعتماد الشاعرة على ذاكرةٍ تقوم بتخزين وحفظ جميع الأحداث التي مرت بحياتها، ولعبت دوراً مهما في تشكيل الذات وتحديد مصيرها.
انطلقت رحلة الاغتراب / التيه التي حملت الشاعرة إلى مرحلة النضج الفكري، من سوريا والقلب مكلومٌ والعقل حائرٌ بين إرثٍ ضاربٍ في القدم أنهكته الحروب، ووُرودٍ تَعِدُ بالكثير لكن، أشواكها تدمي الأيادي التي تحاول مجرد الاقتراب منها. انعكس ذلك التناقض السافر على القصائد، فتحوّلت إلى مروياتٍ تسرد ما التقطته عدسة الشاعرة في تنقلاتها الكثيرة وأسفارها المتعددة، وهَمٍّ حملته في الذاكرة والوجدان، فكان الديوان استجابةً لنداءٍ داخلي ألهب المشاعر فاندلق الحكي كبلسمٍ يداوي الجراح، ويُقرّب المسافات بين أرض الحلم الذي لم يتحقق، والوطن الجريح حيث الأهل والتاريخ الطويل. في تجوالها بين مدنٍ وعواصمَ اختلفت بين دول الخليج ودول أوروبا، حافظت على هويتها ولم تحاول التخلص من حمولتها الفكرية وتغيير جلدها، وظلّت وفيةً لكل ما تؤمن به. لذا كان الإنصات إلى العمل الأدبي وتحقيق حوارٍ معه ضرورياً قبل الشروع في مغازلة النصوص لتبوح بمكنوناتنا التي تعددت واختلفت، أيضاً لأن الديوان يعجُّ بقصائد مختلفة من حيث الترتيب الزمني الخطي الذي شهد إنتاجها، وكذلك من حيت تعدد التيمات والمواضيع التي انبرت لها الشاعرة، لتعيد حكايتها بطريقتها الخاصة، معتمدةً على عامليْن مؤثرين ضاغطين، ظلت وفيةً لهما على امتداد نصوص الديوان والمتخيل الحكائي الذي لفّت به النصوص. القلب والعقل؛ كانا الميزان الذي تجيد الإمساك به لتكتمل الصور. فبالقلب تعاملت مع المحكي الشعري بطريقةٍ انتقائية، وبالعقل منحت المحكي خيالاً حلّق به نحو متخيلٍ سحريٍ عانقه، وأزال عنه صفة الروتين والانطباعية، حَضنه وأعاد رسمه في صيغةٍ جديدةٍ أكثر بهاءً، وبشاعريةٍ تُعبّد له الطريق.
من أجل منح النصوص جماليةً تفتح لها المزاليج المغلقة تعاملت الشاعرة معها باعتبارها نتاج خليطٍ من التجارب الذاتية والاجتماعية، اسْتحضرت لحظة الإبداع فكانت مادةً / مواد خام، شكّلت استلهاماً حاكت منه وبه قصائد تنبض بالتجارب التي كانت سبب سعادتها وكدماتها وجروحها الغائرة، التي لم تندمل مع مرور الأيام، والدافع للهجرة والانتقال المجبر والتيه ومعانقة الغربة وسط أماكن اختلفت وتعددت رغم الاستقرار بمدينة باريس. فكانت مقصدية النصوص تعتمد على صورٍ شعرية تُبنى وتتشكل من تلك الأشياء التي حُفرت ونُقشت في مخيلتها، وكانت مهندساً رَسمَ صوراً شعريةً مستوحاة من خيالها الاسترجاعي، الذي يستمدّ قوته من خفقان قلبها السريع، ذلك القلب الذي يخفق بالحب، ويحرك تجاربها الذاتية المنقوشة في جوف البطين، يضخّها مع تدفق الدم كلما هاج بها الحنين ورمى بها الشوق إلى الماضي.
جاءت النصوص متخمةً بلواعج عاشت الأحداث المعبر عنها، وكانت سبب البوح، فجعلت الذاكرة الانفعالية مُنطلقاً لها. يظهر ذلك بالصفحة: 170 بقصيدة: “جمر الذكريات“. نذكر منها – على سبيل الذكر لا الحصر- شهقة أبي مودعاً / ما تزال تحفر وجداني / وحتى الآن ما هدأتْ / ودموعك يا أمي / تُزلزل كياني / وحتى هذه اللحظة ما برحتْ. لكن، كان الاختيار يختلف حين يتم استخدام العقل و التفكير في حياكة نصوصٍ تصف الأماكن والمدن التي مرت منها، وحين تُخلّد لحظاتٍ استطاعت فيها الانفلات من هواجسها والضغط اليومي، يجلو ذلك بقصيدتيْ : مقامات الوجد واكتمال التي سمحت فيهما لنفسها أن تنهمر شوقاً وعشقاً، وأن تشي بما يملأ قلبها. تقول في نص اكتمال تصف حروف الحب: عندما أقرأ ” أُ “ / يَتساقط النبض سُقوطاً حراً / من شواهق قمم العشق / إلى الأودية السحيقة / يتردد صدى نبضي / في الوديان المجاورة / تخرج الشمس بدلالٍ من سريرها / وتستحم الفراشات بندى ورودها. كما أبدعت أخرى باستعمال خيالٍ توليدي يجنح نحو إنتاج صورٍ جديدة، لتخليد لحظةٍ ما أو لوصف ما ظل يشتعل في العمق. ولعل قصيدة بحور الأنين هي الأكثر تعبيراً عن رحابة خيال الشاعرة ونَفَسها الطويل في سرد الذكريات الموجعة.
لقد استطاعت الحمامة المهاجرة / الشاعرة التحليق بعيداً وخلقت عالماً افتراضياً يُظهر ما يعتمل بدواخلها، وما ترصده العين بأشكال مختلفة. فظلَّ الانزياح نحو الاختلاف الذي جنحت إليه يعتمد على الواقع، والابتعاد عن الغموض والغرابة، وإعادة كتابة المعاش لا كما يجلو، بل كما تعكسه نظرتها الثاقبة إليه، التي تتحكم فيها مشاعرها الجياشة، ووعي يختزل آلاماً ظلت تشتعل في العمق، وتتوق إلى التغيير واكتشاف عوالم أخرى. والابتعاد عن ذلك الواقع الذي يُعيد نفسه بإلحاح، عبر سجنه داخل صورٍ شعرية، فغدا لحظاتٍ خالدة داخل بورتريهات تُذكِّر مروره بحياتها.
كان حضور الشاعرة قوياً داخل القصائد، فأرخى ظلاله على اللغة، التي اختيرت بدقةٍ لتُناسب التيمات المختارة ومقصدية النصوص بصفةٍ عامة، فأتت مختلفةً لتتجانس مع الرسائل التي تحملها، ومكَّنتها من الوصول إلى الهدف/ المعنى التي من أجلها أُنتج الديوان. اللغة شكّلت نقطة القوة، بساطتها وحسن اختيار مفرداتها داخل الديوان، فكانت تختلف وتتحدد من خلال القصيدة نفسها والتيمة التي من أجلها خُلقت. كما جاء في قصيدة جناحات الهنا التي كُتبت بمدينة كان الفرنسية، حين طار بها الشوق يبحث عن الحبيب الغائب ابن البلد، فجاء البوح صادقاً باللغة العامية السورية، أزال الستار وكشف عن المستور. يجلو ذلك نفسه بالصفحة 19:
اليوم اللّي ما بكحِّل عيوني فيك
ما بينحسب من عمري أنا
الثواني عَغيابك بتبكي
وأيامي على بعادك
قَهر وفَنا
أنت بسمة حياتي
وروحي بتروح
إذا رحت
يا روح قلبي أنا
تحوّلت اللغة في وصف كلمة “أحبك” إلى ألوان استعيرت من ورشة فنانٍ تشكيلي، لا يختار ألوانه اعتباطياً، بل يعيد إنتاجها بدمجها لتناسب الموضوع، ويتحول معها القماش إلى ركحٍ يعرض مسرحيات خالدة. كلمة أُحِبُّكَ في حد ذاتها بسيطةً مباشرةً تحمل معناها ولا يختلف اثنان على شرحها. قد تبدو عاديةً مألوفةً تُقال في كل لحظةٍ وحين. ومن كثرة استعمالها فقدت أثرها ولم يعد يشتهيها إلا العاشق الولهان. لكن حين تتمطط وتتحول إلى قصيدةٍ تصف وصفاً دقيقاً كيف تخرج من ثغر المحب، مُحملةً بعواطف جياشة وأحاسيس ترتعد القلوب لهبوبها، ندرك المعنى الحقيقي للحب الذي تؤمن به الشاعرة، والذي وصفته في قصيدةٍ عنونتها بـــــ ” مقامات الوجد ” وجعلت الديوان يحمل نفس العنوان. ثم أبدعت أخرى وعنونتها بـــ: ” اكتمال ” ووهبت فيها للحروف حياة. فيها تحولت حروف كلمة أُحبكِ إلى لوحاتٍ فنيةٍ وبورتريهات رُسمت بريشة فنانٍ يهب الحروف روحاً تحيا من خلالها مستقلةً تزهو بجمالها وحسن تصويرها. وللكلمات دالٌ تنفرد به داخل القصيدة، وتبدو به أكثر قوةً ووضوحاً من الدال الذي تحمله نفس الكلمات خارجها. يجلي ذلك نفسه بالصفحة: 155، حين تقول الشاعرة:
… عندما أقرأُ الـــ ” ـكِ “
يَكتملُ قاموسُ العشق
يُسمعُ صوتُ انفجارٍ بعيد
يُولد كونٌ جديد
أكونُ فيه الملكةُ
ويُتَوَّجُ ” حبيبٌ لا شريكَ له “
هو أنت
وهكذا عند المرة الألف بعد الألف
كلما قرأتُ ” أُحبكِ “
أولد أنا
أنثى…
بالصبابة..
مُترعة
كان للزمكان تأثيرٌ واضحٌ في حياة الشاعرة ريم السيد لذا كانت توثّق القصائد عند الانتهاء من نظمها، فتكتب تاريخ ومكان ولادتها بذيلها، حتى تظل شاهدةً وتتحول إلى وثيقةٍ تاريخيةٍ تدوِّن كل مرحلةٍ من مراحل حياتها المحفوظة في الذاكرة. يُذكّرها الزمن في جريه الخطي المستقيم باتساع الهوة بينها وبين الوطن، كذلك كان شأن المكان الذي تنوع واختلف بين البلدان والمدن والمحطات العابرة: كالمطارات و الطائرات والقطارات والمقاهي والحدائق… ولم ينسها الحّيز الجغرافي الذي هجرته على مضض. بدا ذلك الامتداد الذي شكله الزمن وتلك الشساعة التي مثّلها المكان كأنهما اختُزِلا وضاقا ليتحولا إلى زنزانةٍ صغيرة، دونت الشاعرة على جدرانها المتهالكة تسارع الأيام التي تبعدها عمَنْ تحب.
الزمكان رغم أنه كان رحباً فسيحاً إلا أنه كان يضيق عليها لدرجة الإحساس بالاختناق في غياب العزوة والوطن الذي حولته حروب الاستنزاف إلى غولٍ يهجره أبناؤه تباعاً.
تأسيساً على ما قيل، ديوان مقامات الوجد كان باكورة الاغتراب (بعد عندما أشرقَ في عيوني) ورحلة استمرت أكثر من خمس عشرة سنة ولم تنته بعد. رحلةٌ رغم ما لها وما عليها لم تستطع خلالها الشاعرة الاندماج في تلك العوالم التي اقتحمتها، وظل الماضي حياً في دواخلها يستنزف طاقتها، فكان الشعر المتّقد الذي تحاول من خلاله الاستمرار في العيش والتعايش. اختارت الحب لتحيا به بدل الكره والحقد والتعصب…، ولتعبّر به عن حالها وتعبُر من خلاله لبر الأمان.
ديوان مقامات الوجد سفرٌ في الذات، وتجربةٌ امتدت لسنوات، تكلَّم بلسان الشاعرة ريم السيد وسجل تساؤلاتها ونظرتها للوجود وللأشياء التي تحيط بها والتي عاشتها. هو باختصار جزءٌ منها يحمل بصماتها وجيناتها.
عبد العالي أناني
…………………………………………………………………………………
°=: ديوان ” مقامات الوجد ” للشاعرة السورية ريم السيد / ۲۰۱٦، دار الفارابي، بيروت-لبنان.
°=: ريم السيد شاعرة سورية تقيم بــ باريس / فرنسا.
°=: “عندما أشرقَ في عيوني” المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة، صادرة باللغتين العربية والفرنسية عن دار نشر لوسكريب-لارماتان، باريس، ۲۰۱۳، والحائزة على جائزة هلالي-المركز الثقافي المصري ۲۰۱۳ للشعر العربي، فرنسا.