أنا أوسيلفي، إذن أنا موجود أو الكوجيطو الافتراضي

أنا أوسيلفي، إذن أنا موجود أو الكوجيطو الافتراضي
ذ. محمد مستقيم/المغرب

أنا أوسيلفي، إذن أنا موجود

أو الكوجيطو الافتراضي

محمد مستقيم/المغرب

تزداد يوما عن يوم أهمية التحليل النفسي في حياتنا اليومية ليس فقط بوصفه طريقة في علاج الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية، بل باعتباره نظرية علمية تقدم نموذجا لتحليل للكثير من الظواهر الاجتماعية التي تطفو على السطح بسبب تعقد الحياة الإنسانية المعاصرة. في هذا الاتجاه أنجزت الفيلسوفة والمحللة النفسية الفرنسية “إلزا غودار” دراسة مثيرة حول ظاهرة السيلفي أي أن يأخذ الشخص صورة له بنفسه من خلال هاتفه النقال أو كاميرته الذكية، باعتبارها ظاهرة تستحق الاهتمام ودراسة أبعادها ونتائجها خاصة على المستوى السيكولوجي، فهي نوع من الدوران حول النفس (أو التمركز النرجسي) ينتج عنها وعي زائف بالذات، والدليل على ذلك أن هو ملاحظة انتشار الظاهرة عند الكثير من الناس إلى درجة السلوك المرضي الذي يتجلى في طريقة عرض الأنا بصورة نرجسية. من هذا المنطلق اعتبرت المؤلفة بأنه ينبغي فهم الظاهرة بوضعها ضمن تفكير شامل حول ما يدور في الفضاء الافتراضي الذي لا يتوقف عن التطور، وخاصة ضمن العلاقات التفاعلية بين الناس في عصر الميديا. إن التطور التقني المعاصر والذي يزداد تقدما بسرعة غير متوقعة قد أدى بالفعل إلى تغيير طريقة نظرة الإنسان إلى العالم وذلك بظهور وسيط بيننا وبين العالم يتميز بالهجنة والغرابة والحضور الدائم: إنه الهاتف، والشاشة، والآلة الفوتوغرافية، والحاسوب. بل إنه وسيط بين ما نحسه وما نقدمه للنظرة، بين أنا وأنت، “فإلى أي حد يمكن لهذا السيلفي أن يكون فاتحة لعلاقة جديدة بين الأفراد؟ خاصة عندما نأخذ في الحسبان إمكانية اختصاره في شاشة، أي إنتاج صورة. وهو أيضا ما يمكن من الكشف عن الأنا، وعن أي “أنا” نتحدث؟ ماذا يقول عني؟ هل سيؤدي التقاطي لصورتي والقذف بها في شبكة تواصلية في انتظار أن تحصل على جيمات أو لايكات إلى تغيير في علاقتي مع نفسي، وإلى تغيير أوسع وأعمق للأنا؟”(ص 28) لقد تحول المجتمع إلى حلبة لعرض أنواتنا، وهي لعبة لا يمكن أن نتجاهل داخلها أبعاد الود والصداقة التي يتميز بها السيلفي، فهناك غريزة حياتية (إيروس) تعبر عن ثورة إيروسية، ومع ذلك لا يمكن لإيروس أن يكون دون أن يستحضر تاناتوس، غريزة الموت (ص30) فللسيلفي نصيب في ثقل العزلة التي يخفيها، في تجاوزاته المرضية، إنه يكشف عن ثورة سادسة هي ثورة مرضية. (ص30).

تؤكد المؤلفة بأن مجتمع الصورة الهشة قد حل محل رؤية العالم المستندة إلى الخطاب العقلاني اللوغوس منذ العصر اليوناني. وهذا دليل على تراجع الثقافة التقليدية والأساطير والمحكيات، وانسحاب اللغة التي كان ينظر إليها باعتبارها سندا للتبادل والفهم والاتصال بين الأفراد والجماعات، فالعالم لم يعد قابلا لأن يحكى، بل يكتفي بان يكون قابلا لأن يرى، فقد حلت الرؤية محل الفكر. إنه انحطاط أصاب البنية التنظيمية للمجتمع العقلاني. أما هشاشة الصورة فهي تتجلى في الاستعجال، والتكاثر، وسرعة الالتقاط، والاندثار. (صص 61/66)

في الفصل الثالث المعنون ب: (ثورة ذاتية، تحولات الأنا) تذكر إلزا غودار أن الإشارة إلى أن نظرية التحليل النفسي مع فرويد قد زحزحت الأنا عن مكانها عند فرويد الذي أعلن “إن الأنا لم يعد الأنا سيدا في بيته.” قد تعمقت بمجيء الثورة الرقمية التي شوشت بدررها على مضمون الأنا، بسبب الإبدالات الجديدة التي جاءت بها من جهة، وبسبب الدور الذي يلعبه الموضوع/الشاشة من جهة أخرى. (ص 76) وفي مقابل أنا أفكر إذن أنا موجود الذي يؤكد وجود الذات والوعي بها وباختياراتها الحرة يجيب عالمنا بكوجيطو جيد “أنا ألتقط صورا ذاتية إذن أنا موجود”، ليحل محل الأنا الديكارتية المنفتحة على الذات، هنا يصبح أنا السيلفي دليلا قويا على تساؤلات هوياتي عميق. (ص 83). من جهة أخرى توظف المؤلفة أحد المفاهيم الأساسية في التحليل النفسي اللاكاني نسبة إلى جاك لاكان وهو مفهوم “مرحلة المرآة” لتقارنها ب مرحلة السيلفي. فمعلوم أن مرحلة المرآة هي من مراحل النمو النفسي التي يمر بها الطفل بين الشهر السادس والثامن عشر، وتلعب دوار حاسما في تكوين “الأنا” عنده. فبمجرد ما يشاهد الطفل صورته في المرآة حتى يشعر بالانفصال عن عالم الأشياء الذي كان يتصور أنه جزء منه، ويبدأ في إدراك جسده كوحدة متكاملة ومنفصلة الشيء الذي يؤدي به إلى التعامل مع الآخرين المحيطين به عبر آلية التماهي التي تنتهي به إلى تمييز ذاته عنهم. وقد بين لاكان بأن هذه العلاقة الصراعية التي تنشأ عن هذه الوضعية تكون هي المسبب الرئيسي لتشكل الأنا عند الطفل. من هنا تقرر إلزا غودار بأن شاشة سمارتفون قد حلت محل مرحلة المرآة حيث تكشف فيها الذات الافتراضية عن نفسها من خلال هذه الشاشة. فممارسة السيلفي تؤشر على طريقة جديدة غير مسبوقة ومخصوصة، تستطيع الذات بواسطتها الإمساك بنفسها. إن إعادة تعريف الذات تتم اليوم استنادا إلى هذا الجوهر الجديد. فلم يعد الإمساك بالأنا دون بديل لها. “يتعلق الأمر بالأنا الافتراضية. وهكذا سننتقل من مرحلة المرآة إلى مرحلة السيلفي”. (ص 86) لقد أصبحت الصور اليوم تحدد كينونة الذات، مثل مرحلة المرآة، فالرهان في مرحلة المرآة، ينصب على وعي الذات بنفسها، كوعي انعكاسي منفصل عن ذات الآخر- كما أنه وعي يولد انطلاقا من اللغة وداخلها. أما في حالة السيلفي، فإن الأمر على خلاف ذلك، فإذا كان البحث عن الهوية يبدو شبيها بذلك، فإنه لا يتحقق بالوعي، لأنه مع انمحاء اللوغوس والقول واللغة سيتلاشى الفكر. وستستمر الشاشة في لعب دور مركزي، وستصبح الصورة حافزا على ميلاد ذاتية افتراضية. هنا نبقى ضمن ذاتية هجينة مستلبة داخل الصورة وفي نظر الآخرين: وبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها لنفسها في تكاثر اللايكات. وهذا هو الإحساس الذي تحيلنا عليه الذاتية الافتراضية. (ص 87). إن ما تكشف عنه مرحلة السيلفي هو شكل جديد من الذاتية الافتراضية الهجينة، ذاتية تجد صعوبة في إثبات نفسها، كما أنها في توتر دائم مع ذات واقعية وبديلها، وشبيهة بذاتية بلا ذات. في هذه المرحلة تكون فيها الذاتية في عز تحولاتها، مثل الأنا التي لا تتوقف عن مساءلة نفسها بين الإحساس الواقعي وتمثلها الافتراضي. إن هذا التوتر هو تعبير عن مرحلة عابرة. لكن المشكل يكمن في معرفة الشكل الجديد الذي سيكون عليه هذا الأنا الذي اخترقه وحوله الافتراضي كليا. لكن زمن التحول هذا يظل غير مستقر، فهو لحظة حرجة ومشكوك فيها. ولهذا السبب فإننا نقلق كثيرا ونشعر أحيانا بأننا نجد صعوبة في العيش في هذا العالم، بل وفي إثبات أنفسنا. وإذا كانت مرحلة المرآة إعلانا عن ميلاد الذات الواقعية، فإن مرحلة السيلفي تكشف عن انبثاق الذات الافتراضية. وفي قلب هذا التحول الذي لا يتوقف عن رد الأنا إلى تساؤل حول ذاتها، تطرح قضية النرجسية. (ص87) إن النرجسية هي مقولة نفسانية مركزية في نظرية فرويد، ولكنها تعد أيضا جزءا مركزيا في وجودنا، فهي موجودة في الكثير من سلوكاتنا. ففي هذا السياق الذي تعرف فيه الذات تحولات حقيقية، يجدر بنا إعادة التفكير في العلاقة التي تجمعنا بها. (ص89) خاصة وأن التقاط السيلفي هو فعل مرضي. ينطلق من استخدام الآخر باعتباره وسيلة وليس غاية، وسيلة للإشباع لرغبة نرجسية. (ص92). تشير المؤلفة كذلك إلى مسألة أساسية وهي أن من خصائص السيلفي أنه سند لتقاسم الانفعالات بين الأشخاص المتواصلين فيما بينهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وإذا كان الخطاب العقلاني (اللوغوس) في تراجع فإن ذلك يتم لصالح تصاعد الانفعالات بقوة (الباتوس). فلم يزد الانتقال من اللوغوس إلى الإيدولون (الصورة)إلى إحداث تغيير في علاقتنا مع العقلانية فقط، بل أدى بنا إلى الانغماس في عالم يتحكم فيه الانفعال في كل شيء. وهو انفعال منفلت من عقاله يكاد يكون غريزيا ويتغير بإيقاع جهنمي ويتحقق دائما من خلال الصورة. إننا نهتز وفق إيقاع محموم لصورة لا تتوقف أمام ناظرينا. لقد أصبح البعد الافتراض بعدا أساسيا في الذات البشرية. (ص103)

بخصوص علاقة البورتريه الذاتي بالإيروسية ترى المؤلفة بأن السلفي هو تعبير إيروسي في لحظة الفعل. والإيروس هو غريزة الحياة التي يميزها فرويد عن تاناتوس غريزة الموت، حيث يرى في كتابه “ما فوق اللذة”، بأن التوازن النفسي للفرد يتحقق من خلال الحفاظ على هاتين الغريزتين، يرتبط تاناتوس بمبدأ اللذة الذي يقود إلى حالة مثالية للإشباع ما بعد حالة لذة قصوى- الموت. وفي مقابل غريزة الموت هاته هناك إيروس الذي يتم تصنيفه ضمن الرغبة أو الحب. وهكذا فكل الغرائز التي تدفعنا إلى الإبداع والإنتاج تصنف ضمن الإيروس. ويمكن القول إن السيلفي يضم، عندما يكون تعبيرا عن لعبة تتجاوز الفرد، إيروس مجسدا في الفعل. (ص131)

من جهة أخرى تؤكد إلزا غودار بأن السيلفي هو تساؤل حول الهوية، وتعبير عن جسد متحول يفلت دائما من التحديد الموضوعي لصاحبه. يحضر السيلفي أمامنا كمحاولة للاستجابة للاضطرابات التي تصاحب تمثيل الذات. فالذات وهي تفشل في تأكيد وجودها وفي استحالة تميزها تتعرض للتفكيك والتلاشي وتضمحل بعد ذلك. وهنا يتدخل الفعل السيلفي لكي يعيد، بشكل ما تركيب هذه الذات الممزقة والمتشظية، وتحل الشاشة محل الإطار المحتضن القادر على الحافظ عليها في موقعها. (ص314)

أما بخصوص الجانب الباثولوجي فترى المؤلفة ترى المؤلفة بأن السيلفي يسقط أحيانا في الدناءة إلى درجة المرض النفسي فهناك من يلتقطون صورا إلى جانب شخص بدون مأوى أو مع جثث ضحايا الإرهاب أو في المقبرة أثناء مراسيم الدفن، كما ان هناك سيلفيات انتهت بموت أصحابها وهم يلتقطون صورا لأنفسهم. وهذا يعني لا مراعاة الاعتبارات الأخلاقية. من هنا يمكن للسيلفي أن يصبح شعار الكثير من الانحرافات الفردية والاجتماعية ويحاول التعبير عن آلام لا يمكن أن توصف أحيانا(ص151)

لكن تؤكد المؤلفة بأن هذه المظاهر النفسية والاجتماعية المرتبطة بالسيلفي لا تعني إلغاء الجانب الجمالي والفني والرؤية الفنية في الظاهرة، فمعلوم أن فن البورتريه تزامن في الفن التشكيلي مع ظهور مقولة الذات في الفلسفة. حيث كانت الفلسفة والفن يحملان التساؤل نفسه، فقد استعمل كلاهما مقولة الذاتية، وتساءلا عن النظرة الداخلية والخارجية التي يحملها الإنسان عن نفسه، من هذا المنطلق فالسيلفي الذي تزامن مع ظهور الأنا الافتراضية، هو رد على البورتريه الذاتي الذي خرج إلى النور مع ميلاد الذات. في نهاية الكتاب تختم إلزا غودار بأنه ينبغي أن ننظر إلى مرحلة السيلفي بأنها بالغة الأهمية مادامت تعبر عن رؤية جديدة لا يمكن تجاهلها في المستقبل. إنها تؤشر أيضا على ميلاد ذات يجب إعادة خلقها باستمرار كشرط لثورة جديدة.، بل علينا أن نربط هذه الأنا الافتراضية بأنانا الواقعية عوض أن نخاف منها، وبذلك نستطيع أن نضع أسس نهضة جديدة.

المرجع:

*- إلزا غودار: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحولت الأنا في العصر الافتراضي. ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2019

 

 

 

 

 

 

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com