الشعر بنون النسوة
الشعر بنون النسوة والنشوة” سفر بين أزهار اللغة
أن يكتب شاعر قصيدة فهذا أمر رائع فعلا ،لكن أن تكون هذه القصيدة شكلا منمقا من أشكال الجمال ،فهذا أمر أكثر روعة ،فأنت إذا ما كتبت عن شيء ووصفته ، فإنك تضيف جمالا عليه ، أبدعت في وصفه فقد كسوته جمالية ،فتكون بذلك في ما يمكن تسمية “الميتاجمال “أو “الميتافن”. و الجمال – كما جاء تعريفة في المعجم الوجيز – “صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس بهدة و دهشة ، وهو عكس القبح” ، ولكن الجمالية شيء آخر أكثر عمقاً
الجمالية أيضا تكتسب من الناحية البلاغية في اللغة المستعملة والأسلوب ، و لا يختلف اثنان أنه كلما كانت اللغة صافية نقية ، كان النص جميلا أو ذا جمالية ، و العكس صحيح بمعنى أن القبح في اللغة و الأسلوب يسيئان الى النص .و هذا ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني و ابن طباطبا، و قدامة والقرطاجني
ومن جماليات النص الشعري، أن يتميز بالتكثيف والعمق والمغايرة والتنوع الذي يحدث قدراً من الدهشة والتفاعل وأن يتميز أيضا بالاتساع الدلالي وأن يمنح المتلقي خيارات متعددة للتأويل سواء كان هذا المتلقي في ذهن المبدع أو خارج بؤرة اهتمامه، وأن يتبنى النص الشعري منطقاً ما، حتى وإن اختلف هذا المنطق عن المنطق الحياتي والبديهي، فلا بأس من ذلك، فالبعد عن المنطق بمفهومه التقليدي هو في حد ذاته منطق، حيث الإسراف في الذهنية يخرج النص الشعري من حالة الغموض الرائعة التي تحث على إعمال عقل المتلقي ليصبح شريكاً في العملية الإبداعية بما يمنحه له النص من مدى متسع من التأويلات، إلى نوع من التشرذم الذي يؤدي إلى لا شيء، فيصبح من الصعب الوصول إلى نسق جمالي
و حسبنا في هذه الدراسة أننا قرأنا المتن بين أيدينا بعين المتذوق الذي يقرأ بشاعرية أكثر ، لا بعون الناقد بمعول النقد الذي همه أن يبحث عن مكامن الضعف أكثر ،و قد يتناسى الجوانب الجمالية الفنية ،و الصور الشعرية و المحسنات البديعة التي تضفي على المتن المدروس مسحة جمالية
“الشعر بنون النسوة”، ديوان لجمع المؤنث السالم، لغته وجدان جمعي يعطي للتجربة النسائية معنى آخر غير الذي شاع. ويمكن اعتبار هذا الكتاب مولودا من أرحام متصلة بجمالية اللغة الشعرية التي تتجاوز المعنى الاجتماعي للغة، وتتخطى حدود التقعيد والتعقيد، للتواصل بالمشاعر وعبرها، ورغم أن الأستاذة لطيفة، أشارت في المقدمة إلى أن هاجسها في المقدمة ليس ماديا وليس توثيقيا لتجربة الشواعر بشكل موسع، إلا أنها تجربة فريدة بحيث يساهم هذا الدليل في مسك تجارب شعرية مختلفة، ووضعها تحت منظار تجربة موحدة، ولنا أن نتساءل أمام هذه التجربة: كيف تفاعل التنويع في خلق الفنية في هذه الأضمومة الشعرية؟ وكيف تفاعل الاختلاف في خلق الهوية الجمعية لهذه التجربة؟
:الجمالية في التقديم
ينطوي التقديم لهذا الكتاب على شروط ذاتية وأخرى موضوعية، وبينهما تخلق الجمالية للوفاء للشروط الذاتية والموضوعية المختلفة، أما الشرط الذاتي فيشمل كل الدوافع التي دفعت المعدّة للكتاب والمقدِّمة له لوضع هذا الدليل، وهو ما جاء في تصريحها بالقول: “عندما عزمت على إصدار هذا الدليل الصغير، كان هدفي التعريف ببعض الشواعر، وقد عرفتهن عن كثب، ليس فقط في منابر الأدب على أرض الواقع ولا في العالم الافتراضي، ولكن عبر التواصل المبني على الاحترام والتقدير، ولم يكن الهدف إصدار أحكام نقدية تراتبية في عالم الإبداع، ولكن لأسهم في التعريف بهن، بعيدا عن غاية نفعية أو تبادل مصالح”، وكذلك نوع العلاقة التي تربطها بهذه الفئة من الشواعر في فضاء يتحدد مكانا بالامتداد برؤوس مثلث أضلاعه منابر الأدب في الواقع، والعالم الافتراضي، ومجال التواصل المبني على الاحترام المتبادل، وزمانا في “زمن تحكمه سطوة إعلامية ذكورية” وأما الشرط الموضوعي فيمكن تلخيصه في وقع الكلمة الشعرية عليها وحضورها في دائرة الموضوعات التي تسترعي اهتمامها، وهذان الملمحان هما رأسا الخيط الناظم بين النصوص الثاوية بين دفتي هذا الكتاب الذي أشير إليه بأنه “دليل”
يتضمن التقديم خطابا لتبرئة الذمة، مما يعني أنه قراءة تأويلية مسبقة للكتاب من خلال عتباته، بمنظار صنف من المتلقين، خاصة أولئك الذين يجهزون أنفسهم لتوزيع الاتهامات لمحاكمة الأدب والأدباء، فجاءت هذه التبرئة في صيغتين مختلفتين، إحداهما تبرئة النفس من التهمة بالإقصاء، وثانيهما التبرئة من التهمة بتقاسم المصالح المادية في تجربة “هذا الدليل الصغير” كما جاء في المقدمة، وكانت صفة الصغر مسوغا لعدم إدراج شواعر أخريات في هذا العمل، وهو ما يجب على القارئ انتظاره في “الدليل الكبير” الذي سيصدر قريبا بتعبير المقدمة للكتاب، وهو ميثاق ضمني بين الأستاذة لطيفة الغراس وقراء الكتاب
:جمالية التداخل اللغوي
تتداخل في هذا الدليل ثلاثة أشكال من التوظيف اللغوي، وهي العامية والعربية الفصحى والفرنسية، وهي كلها لغات حاملة لمشاعر إنسانية قدمتها المشاركات في لوحات فنية، تجعل اللغة وسيلة لمواجهة فوضى الحياة المسمى بمسميات مختلفة. قالت فيه ليلى حجامي، بلسان دارج “لغدر يسري ولعقل تلفان”، وأضافت في النص نفسه ” سولت على الرحمة فجميع لبلدان.. لقيتها شجرة خضرا فكل الأديان.. تقطعها هضرة من زلة لسان”، وفي نص زجلي آخر في ظل هاد لكون تاهت لمرا.. حلفت للزمان حتى تكتب وتقرا.. ترسم فاللوح … تعتز بالبوح”، ليتضح أن المرأة قصيدة شهيدة الثقافة إذ تسافر بجناحين مكسرين في عبث هذا الوجود. إنها لعبة التحدي في “زمن التحدي”، بحيث “يتفكك كل شيء كما تتفكك اللعب، ويشيخ الزمن من الصراعات واختلالات الأدب ويغادر الطير عشه..”، كذلك تصرخ الأنثى لابسة زي الفصول كلها، لتقعيد رجْع صرخاتها أسوار وليلي وتضاريس زرهون
“الشعر بنون النسوة والنشوة” سفر بين أزهار اللغة، تتنقل فيها نفس القارئ بين الأغراس بلطف، كما تنقلت بينهن لطيفة الغراس، أو كما تساءلت نبيلة حماني عن الجمر الساكن جذوع صبرها، في قصيدة تطاير “رذاذ الوهم” فيها، حتى عانق شوقها للأم، فيتم الوصل بين القصيدتين بمعجم الطبيعة والوجدان، وكأن لغة الشاعرة نسمات وأزهار وكروم وسلسبيل، وهي بذلك تحاول رتق الذاكرة الحية التي تهيج الأنين وتجعل الريح تعزف على ربابة الذكرى، كما يذكي هديل الأم تغنج الصبا فيفوح العبير سحرا أو زلالا يسقي حقول الروح وخميلة الحب
في “غفوة يقينها” تاهت حروف فاطمة عواد في منعرجات المعنى، باحثة عن معنى مزركش لم تعصف به رياح “عصفت بذكرياتها، حين ارتدت قصتها المطرزة بحروف الهجاء والصمت، ليخفي الغروب، وتنظر إلى الوجود خلف نظارات قاتمة، تخفي دمعتها اليتيمة، بعد نفاذ فيض خاطرها على شط الذكرى وتعطل مركبها الذي أوقف رحلتها، ومازالت تطرح السؤال: من يكسر جدار الصمت؟ الذي يحفر في الذاكرة ليبعث سؤالا قديما: من يعلق الجرس؟ ويخلصه من حبل مشنقته في صيغة جديدة: من يحرك الجرس؟
إنها وحيدة في منامها السري، ولن يجيب عن سؤالها إلاها، لأنها الوحيدة القادرة على البوح شعرا ونثرا، لتعزف على كمانها أنغام البيان، وترتل بخشوع تام نوطاتها، لاجئة إلى ذلك الملاذ الذي يحتضنها من نفسها، وما وسوست في محراب يغص بآيات “من وحي السحر”، بحيث يتلحف المعجم زيه الديني في دنيا الدناسة المطلقة، ليكشف عنها الغطاء وتترآى الحقائق بعين البصيرة
“هذا ما يحدث الآن”، في عنونة لسميرة جودي التي تجود في سمر شعري بكل حروفها، غير أنها لا تملك الركض خلف نفسها وهي توثر السفر بموج خاص، فتسقط كغيث يلوح بيد على كتفها، لتعبر كل شوارع Granada، وترقص أحيدوس وحدها غريبة، لكنها تتقن فن الغواية بطريقة خاصة، تصبح فيها اللغة مشاعا وأرضا بكرا تفعل بها ما تريد وتزرعها بألغامها الشعرية كما تشاء، فتركض عليها حافية لتمسك بالفرح وتختزل كل العمر في تغريدة، متخفية عن المرآة كي لا تراها وتفضحها
تهمس أمل برادة في أذن اللغة مستعملة “نحوا فرويديا”، يجعل المسافة بين الضمائر وسيلة لكسر قواعد اللغة الصماء، فتلصق الضمير “هي” الدال على الغائبة “هي”، باسم الإشارة “تلك” الدال على حضور “هي”، وهي لعبة نفسية منبثقة من قرحة الآهات والصحوة من السبات، والحلم في اليقظة، والرغبة التي يجب ألا تجهض، لأن الطموح والأمل والحلم ملاذ الشاعرة المتداخلة مع “تلك” و”هي”، كما يتداخل الهو والأنا الأعلى والأنا في تشكل الهوية، فتتداخل الرغبة والإرادة بالقدرة والرفض، وتتكون سحابة الحياة لتمطر أسئلة منها “من أنت؟” وهو سؤال لا يراد منه التعريف بالذات، بل هو نفي لهذه الذات التي تنفي “الأنا” في لغة شاعرة تعشق الحرية منذ تحررها عن الأم بقطع حبلها السري، وهي كائن حي موجود، لها هوية وقضية ونخوة، وهو قاموس غارق في محيط لغتها الفرنسية الرشيقة، وفي أرجوحة ألفاظ تحملها من لغة إلى أخرى بنفس سيكولوجي يعيد رسم شطرنج اللغة، وتضع له قطعا مهمة لا تقبل الهزيمة حتى لو اقتضى حالها العصيان، إنها روحها وقلبها ووعيها وريشتها التي ستبقى دائما قطوفا دانية من شجرة تحمل اسم “أخطاء الشباب”
إذا اتسع معنى الكلم، فلا مفر إلا المفر، وإذا كان هذا جوابا كافيا لسؤال: “أين المفر؟” فالشاعرة نعمة بنحلام أول من سيطرح السؤال من جديد: ماذا أقول؟ إنه هوس السؤال الذي يقذف بالشاعرة في أحضان المجاز بميم المتنبي المرسومة على آخر القلم، كعصا موسى .. وهي مفتاح “حلم يجرف الشاعرة طينا بلا قدم، فتتيه لواعجها في سقم صار لها أسلوبا في التعبير، فترفع بعد ذلك حرف الرفض والنفي “لا”، كعلامة نصر مفقود، ويتحول هذا الرفض إلى “لاءات حبلى بجنون سؤال لم يلد بعد” لأنها مسكونة بالآفاق والاشراق وتتحسس نفسها وتبحث لعلها تجد منفذا من دوامة الحياة إلى نفسها، فتسافر “على جناح القصيد” مع فاطمة الخمليشي، لعلهما تجدان مهربا من “انتظار” مبهم، وفي هذه اللحظة الشعرية، تتسلل الشاعرة فاطمة إلى تلك الأنا الهاربة من منزل فرويد لتختبئ في جفون السكون، وتشع في بريق العيون لترميم وجدان يحمل القصيدة بين يديه يراقصها على إيقاع الصدى في لحظات التيه والانتظار، في فضاء منفلت يساكن النغمات في لباس الليل وعنفوان النهار، “فيهمس في قلب الصباح من شدة الحنين أنينا، بتعبير صباح الهزاز، التي ترفع أكف الحروف إلى السماء، فيهتز لها الفؤاد ويلين الحجر حتى يصير طينا في طرقات مبللة تحت أقدام شاعرة اعتادت الوقوف تحت المطر انتظارا وأملا في شيء مجهول، في لحظة عشق يهمس بها الفجر، فيأخذ قلبها الصغير كل الأكوان وتتسرب ذكرياتها المتغلغلة في الروح والكلمة الشعرية.. أو تلك “الكلمات Les mots” التي سافرت Chama Ami في تفاصيلها، وهي المحبة العاشقة لكلماته ذات الرائحة العجيبة، والتي تشرب حزن الشاعرة، وتحملها على أجنحة المعاني بعيدا لتغذي أحلامها وتوقظ ذكرياتها من السبات، ,تنطلق كالسهم تلاحق ظلها، في هذه الإنطلاقة Départ المفاجئة، وتخلف وراءها ذكريات لا تحصى في كل الأركان وتحت القناطر والممرات تخلف روحها ونظرتها وآفاقها الجديدة، وكأنها في لحظة عشق تستمع لصوت فيروز ينثر الحنان، ورائحة القهوة تنتشر والشوق يطرق بابها بدون استئذان.. والكلمات تراقص معانيها وتهتز طربا، لأن خطيبة مونديب تعدك أن تكتب إليك على نسمات الصباح الجديد رسالة تحمل إليك على جلود الموتى والملائكة المحلقة على ظلك وتراسلك في أحلامها وعشقها وشوقها أنها بكل بساطة اشتاقت إليك، وهي تحاور فيك نفسها، لتكتب شعرا بقلبها قبل قطرة دم وبعقلها قبل فكرة أو تأمل.. كذلك كانت القصيدة :سأكتب إليك