قصة “زهور في لحيته” للكاتب والروائي هوانغ تشونغمينغ

قصة “زهور في لحيته” للكاتب والروائي هوانغ تشونغمينغ
هوانغ تشونغمينغ
             حميد عقبي

 ملامح الحداثة والتجذر في القصة التايوانية المعاصرة

رغم عمق التجربة الأدبية في تايوان، وثراء خطابها السردي والشعري، لا تزال الأعمال التايوانية شبه غائبة عن المشهد الثقافي العربي، سواء في الترجمة أو الدراسة. يعود هذا الغياب إلى عوامل جغرافية، ولغوية، وسياسية، وكذلك إلى هيمنة المركزيات الأدبية الغربية والآسيوية الكبرى (مثل اليابان والصين)، ما يجعل الأدب التايواني معزولًا نسبيًا عن التلقي العربي. لكن في السنوات الأخيرة، هناك أمل بأن تبدأ بعض الأصوات المترجمة والنقدية في فتح نوافذ صغيرة على هذا الأدب، حيث تتوفر أعمال مترجمة إلى الإنجليزية وكذلك الفرنسية، ومن أبرز الناشطات في هذا المجال الشاعرة والمترجمة الأمريكية إليانور غودمان، التي نقلت بعض أعمال الكاتب التايواني الكبير هوانغ تشونغمينغ إلى الإنجليزية. فلنذهب في رحلة قصيرة مع هذا الكاتب.

أولًا: تطور السرد القصصي في تايوان

تطوّر السرد القصصي في تايوان من التقاليد الشفوية والأساطير الشعبية إلى شكل أدبي حداثي متميز. في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدأت ملامح “أدب الأرض الأم” (Xiangtu Wenxue) تتبلور، بوصفه تيارًا مقاومًا للاغتراب الحداثي، ومناديًا بالعودة إلى تفاصيل الحياة القروية والتقاليد المحلية. شكّل هذا التيار نوعًا من الواقعية الحسية المتجذرة في الأرض واللغة والهوية.

في هذا السياق برز هوانغ تشونغمينغ (1935–)، كأحد أبرز الأصوات التي وظّفت البساطة الظاهرة لبناء سردي معقّد دلاليًا ويتميز بالسحر والدهشة، يتأرجح بين التهكم والتعاطف، ويستبطن مقاومة ناعمة للسلط الرمزية والاقتصادية.

ثانيًا: تعريف موجز بالكاتب

وُلد هوانغ تشونغمينغ عام 1935 في مقاطعة ييلان، شمال شرقي تايوان. يُعد من رواد “أدب الأرض”، وتتميّز قصصه بالتصاقها المتين بالحياة اليومية للفلاحين والعمال وأهالي الريف. لا يعمد إلى التنظير أو التأمل التجريدي، بل يخلق عوالمه السردية المشهدية من خلال تفاصيل دقيقة، ولغة ذات إيقاع حسي، مع قدرة بارزة على التقاط المفارقات واللحظات الإنسانية الكثيفة.

ترجمت العديد من قصصه إلى الإنجليزية، وذاع صيته بفضل مجموعات مثل “وداعًا، سايونارا” و”طعم التفاح“، وتُعد قصة “زهور في لحيته” من أبرز قصصه القصيرة التي تجسّد رؤيته الفنية.

ثالثًا: ملخص مختصر للقصة

تدور القصة في قرية تايوانية بعد موسم مطير طويل. يظهر رجل عجوز نائم تحت شجرة قرب مزار، فيخطئ الأطفال في ظنه تمثال “إله الأرض” وقد خرج ليرتاح. فيلعبون حوله، يزينون لحيته البيضاء بالزهور، ويتشاركون لحظة من اللعب والدهشة والطقس العفوي. الرجل، الذي لا يكشف هويته، يتفاعل بصمت ويذرف دموعًا. في اليوم التالي، يختفي، لكن الأطفال يشعرون أن تمثال الإله بات أكثر قربًا ودفئًا، وكأن شيئًا حقيقيًا حدث.

رابعًا: التحليل الموسع للقصة

المستوى الدلالي والرمزي:

القصة تشيد عالمًا تتقاطع فيه الطفولة بالروحانية، واللعب بالقداسة. الرجل العجوز ليس إلهًا، لكنه يصبح كذلك عبر نظرات الأطفال وخيالهم ثم نقاشهم الحاد. اللافت أن القصة لا تسخر من هذا الالتباس، بل تحتفي به. كأن القاص يقول إن الإله ليس بحضوره المادي في التمثال، بل في تلك اللحظة الحسية الساحرة التي صنعها الأطفال حول جسد عجوزٍ غريب.

اللحية البيضاء، الزهور الوردية، البخور الذي لا يشتعل، كلها رموز مشبعة بالدلالة، تُحيل إلى هشاشة المفاهيم الثابتة للقداسة. فالإله ليس ما نؤمن به، بل ما نحسّه، أو بقدر ما يعطينا من سعادة. نلاحظ أن المطر المستمر جلب التعفن، وعند ظهور الشمس عادت الحياة بضجيجها ونشاطها، وهذا أيضًا يحيلنا إلى الحروب وما تجلبه من كوارث وزعزعة للإيمان. السلام هنا بمثابة الشمس القادرة على إزالة العفن وآلام الأجساد والأرواح.

الأسلوب المشهدي:

يمتلك هوانغ قدرة سينمائية على بناء المشهد: المطر، الشمس، الشجرة، الوجوه الصغيرة، حتى أصغر الفراشات، تنقل القارئ إلى قلب القرية. كل جملة مشبعة بالحركة واللون والصوت. الفضاء السردي يتحرك بإيقاع زمني مرن، يُحاكي إيقاع الذاكرة والطقس.

اللغة والتوتر الشعري:

اللغة بسيطة، لكنها شديدة الإيحاء. المفارقة أن الحوار نشط وقليل، ومع ذلك فكل فعل يحمل شحنة شعورية عميقة: لمسة على اللحية، ضحكة مكبوتة، دمعة تتسلل إلى الأنف، عطسة تنهي الطقس. كل شيء يتحرك في مجال شعري مشهدي.

الدين كأثر لا كسلطة:

القصة تعيد تعريف الدين كأثر حسي مشترك، ويهدم الكاتب المنظومات السلطوية. هو لا يدعو للإيمان أو لنبذه، لكنه يصوّر كيف تنبع القداسة من التفاعل الإنساني والعاطفة والحوار وحتى لعب الأطفال.

الأطفال كمبدعين للمعنى:

الأطفال هنا صانعو قداسة. إنهم من يقررون من هو الإله، وبعد الحوار يصنعون طقوسهم، ويمنحون التمثال “ابتسامة” جديدة. وهذا يُحيل إلى طاقة اللعب والخيال بوصفها قوى معرفية وجمالية.

خاتمة:

تكمن فرادة وروعة قصة “زهور في لحيته” في قدرتها على مساءلة الرموز دون كسرها، وعلى إبداع طقس بديل دون السخرية من الطقس القديم. نحن أمام قصة عن الجسد، والحنان، والغياب، وعن ما يمكن أن تصنعه يد طفلٍ وهو ينسج زهرة في لحية رجل مسن مجهول. هكذا، يقدم لنا الأدب التايواني، عبر صوت مثل هوانغ، درسًا في أن الشعر لا يحتاج إلى كلمات كبيرة، بل إلى عين ترى، وجسد يتذكّر.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *