قصة للكاتبة اليمنية: بلقيس الكبسي


رمس سهاد…
عندما فتحتُ عينيَّ لأول مرة، قرأتُ ملامح وجهه الموشومة بالشدة، وربما بالحزن. ورغم قسوته، حفظتُ وجهه عن ظهر قلب…، بل عن ظهر حب. في تلك اللحظة زُرِعَ حبّه في أعماقي، نما وترعرع، كأنني أحببته منذ الوهلة الأولى، بل أظنني أحببته قبلها، ربما عندما سمعتُ صوته للمرة الأولى، وهو يداعب حبيبته سهاد. كنتُ أُصغي إلى همسهما، لم يكن قد رآني بعد، ولم أره، لم يسمعني، لكنني سمعته “فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.
رغم إحساسي العميق به، وبكل تفاصيله، إلا أن قسوته كانت حاضرة دائماً، لا لشيء فقط لأنه أخبرني أنني أشد ورطاته وأن وجودي في حياته خطيئة كبرى. وأصدر قرار إقصائي من قلبه، كلما ترعرعتُ في كنفه الرافض لي، ترعرع حبّه في قلبي الشغوف به. هو لا يناديني باسمي مطلقاً، لا اسم لي في هذا البيت، والدته تناديني “بُنيّتي”، وهو يناديني فقط بـ “أنتِ”. كأنه لا يراني ، لا يشعر بوجودي، كأنني انتقام تائه في غياهب حقد قديم.
أنا ووجعي لسنا سوى نزيلي بيته الجليدي الذي يزداد صقيعاً ريثما يرحل، هذا البيت مهجور من الحب ، لا أحد فيه سوى خيباتي، وحضوره النادر ووالدته القعيدة، كثيرة الدمع، دائمة الصمت، وحدها كانت بلسماً لجروحي التي يدميها سخطه. ورغم كل شيء مارست دهشتي به يوميًا لم تفنيني قسوته أن أعتاد على شروده وقسوته وعبوسه ونظراته القاتلة، وصمته الحائر. هذا الرجل قبس من نار ونور… كلما اقتربتُ منه احترقت، لذا آثرتُ أن أكتفي ببصيص دفء عن بُعد. أراقبه بصمت، أتفحص ملامحه، أتأمل حضوره، اعاصيره وسكناته، ابتساماته المباغتة وعبوسه المفاجئ، ودمعاً حبيساً في عينيه لا سبب له سوى وجودي في حياته. كم تمنيت أن أراه متوهجا بابتساماته في ألبوم صور له التقطها مع سهاد. حبي له كان أقوى من قسوته وكراهيته، أقوى من احتجاجه وغضبه ورفضه وعدم تقبله. نعيش في بيت كئيب كغريبين جمعتْهما لعنة قدر، هو صامت كمداً وكُرهاً، وأنا صامتة رهبةً ورغبة.
حتى جاء ذلك اليوم الذي غيّر مداراتنا حول بعضنا، رجع إلى البيت يتصبّب ألما وآهات تهادت خطواته متثاقلة إلى غرفته، كان منهكاً من حرارة الشمس وألم الفقد معًا. تجاسرتُ وتبعت خطواته، كانت المرة الأولى التي أتجرأ على دخول غرفته. رأيته ملقى على سريره، يحتضن ارتجافه. وضعت كفي على جبينه المستعر، فسمعته يهذي: “سهاد، يا نبض القلب… أطفئيني، إنني أستعر!”. أعطيته مسكناً وخافضا للحرارة، جلستُ قربه أضع كمادات باردة على جبينه، ظللتُ بجانبه حتى غفا في نومٍ عميق. تأملتُ غرفته .. بدت مبعثرة، حزينة، كأنها مرثية حزينة. خزانة مواربة، ثياب أنثوية بألوان زاهية تعود لسهاد. طاولة عليها صورة أنيقة وهو يحتضنها بحبّ.
كل شيء هنا ناطق باسم سهاد. غفوت على مقربة من أنينه بقلب من قلق وترقب، ما هي إلا لحظات حتى أفزعني صوته المبحوح:
– أنتِ أيتها الرمس أأنت إرث سهاد؟ لماذا كل هذا الشبه؟ لماذا تقلدينها؟ ظللت صامتة… لا أعرف بما أجيبه. فجأة تغيّرت ملامحه، وهاج كإعصار:
– لماذا تشبهينها؟ كيف للقاتل أن يكون نسخة من ضحيته؟ أين سهادي؟ أعيديها لي!
تجمّعت كل جروحي عبر سنوات القهر وتفجّرت، فصرختُ باكية مدافعة:
– لماذا اسميّني “رَمس”؟ أحقًا تظنني قاتلة سهاد؟ أنا لست قاتلة كيف لرضيعة أن تقتل؟ كيف أقتلها وأنا وحيدتها؟
لم أرتكب خطيئة سهاد، ولم أحرمك منها… إنه القدر من أخذها منك، وأعطاني لك.
نظر إليّ بحدة، كأن كل سنوات التجاهل والغضب تنصهر في عينيه دفعةً واحدة، ثم قال بصوت مرتجف:
-أنت نسختها المطابقة، وكأنها سهاد التي رأيتها لأول مرة، ثم أخرج من درجٍ صغير مذكراتٍ قديمة، ناولني إياها قائلاً: كتبتُ لها كل يوم… ولم أكن أعرف أنني أكتبها إليكِ. أخذتُ مذكراته بيد مرتجفة، فتحت الصفحة الأولى، وقرأت: “إلى سهادي الحبيبة لقد أسميتها رمساً؛ لا لتكون شاهدة على فقدي ووجعي واشتياقي لك. ظللت اقلب الصفحات حتى تسمرت عيناي على سطر كتب فيه:” سهادي الحبيبة إنها تشبهك كأنها أنت إنها تحاصرني بكِ بكل تفاصيلها، كلما رأيتها تذكرت فقدي، اعذريني يا سهادي.. أعلم أنك أوصيتني بها لكنني لم أفِ بوعدي لك ، لم أكن أتوقع أن تكون نسخة منك وأنت الاستثنائية لا شبيه لك، كيف لك أن تمنحيني شبيهة لك أخرى” ارتجف قلبي، شعرت كأني للتو وُلدتُ من نبض سهاد وامتدادها. شدّني إلى حضنه كمن استعاد ضوءًا سلبته العتمة لسنوات.
عاشقُها للموت
بدا تائهاً متخبطاً ضجراً من خيبات ألمت به، هارباً من صدمات أوجعته، متهاوي الخطى في دروب الشتات؛ علَّه يجد متاهاتٍ تحتويه، أو سراباً يتمرغ فيه، أو مأوى ينجيه من واقعه الشرس، فكان لقاءه الأول بها. ريثما وقعت بين يديه بجسدها العاري أرخت له كل مفاتنها إلا من رقيق يلفها؛ فكانت بداية غوايته بها، ظل يقلبها ويتفحصها ويمسح على طولها ويتفقد عرضها، ويتأمل كل تفاصيلها ومفاتنها، ومن ثم حملتها أنامله المرتعشة لترتمي بين شفتيه، تهدم وهو يرتشف أحشاءها، تهدج صوته مبحوحاً وهو يشهق نخاعها. هكذا بدأت حكايته معها وعشقه المميت لها.
لثمها حتى أدمنها؛ فأصبح لا يستطيع لها فراقاً ليلاً أو نهاراً، هي قابعة بين شفتيه، وهو مسلم لها كل جسده لتعبث به كيفما تشاء، استعرتْ مشاكله مع زوجته عندما أيقنت أنه يعشق مهلكتهُ حتى الجنون؛ ينفق ماله وصحته عليها، سيما أن صحته العليلة لا تسمح بكل هذا الهدر؛ فوضعته في خندق الاختيار وحاصرته بخيارين لا ثالث لهما، إما هي أو تلك، لم يكن مهيئاً لأي اختيار، ولم يكن يملك أي خيار، ولم يستطع اتخاذ قرار حازم، كان قد تهاوى في غياهب إدمانه لها ، لم يستطع مقاومتها؛ ففضلها على زوجته وأولاده. تدخل الأهل والأصدقاء لثنيه عما يفعله بنفسه، عله يرجع إلى صوابه، إلا أنهم باءوا بالفشل أمام قوة إغراءها وضعف مقاومته لها، لقد تمكنت منه وأوقعت به في حبائلها.
هو يعلم جيداً أن عُشاقا كُثر رحلوا بسببها، و يدرك تماماً أن لها ضحايا قبله وأن نهايته ستكون على يدها، وأنها قاتلته لا محالة، لكن ولعه الشديد بها جعله مسلوب العقل مسير الإرادة، ولم يستطع إلا أن يكون لها خاضعاً منقاداً ومدمناً حتى تهدم شبابه وشاخت صحته وحانت ساعته المحتومة.
مازالت ترافقه وهو مرمي على أحد أسرّة المستشفى بجسدٍ عليل، ضمتها أنامله، تأملها وهي تتلوى كأفعى في فضائه الخانق، تتأهب لتنقض على ما تبقى من فريستها، استسلم لانقضاضها برغبة. تصلبت شفتاه، زاغ بصره، انتفض صدره، أربد كل جسمه وارتجف كمن أصابه مس، بدأت روحه تنسل من جسده ببطء؛ لتصعد مع رقصاتها اللولبية.
وقبل أن تنتهي صلاحيته للحياة ببضع دقائق، قبضت كفه المرتعشة أطرافها، رفعها أمام عينيه الغائرتين تأمل المكتوب على غلافها الخارجي: “التدخين مضر بالصحة يؤدي إلى أمراض القلب والسرطان وتصلب الشرايين” فتحها، تناول إحداها، حاول إشعالها، لكنه لم يستطع، هوت كفه بلا حراك، سكن جسده، انطفأ بريق عينيه، صمت قلبه. وقدمت نبضاته استقالتها، ريثما سكن جسده متصلباً، انتصبت بين سبابته ووسطاه معلنة -بانتشاء -انتصارها ورحيل عاشقها للموت.
* روائية وشاعرة يمنية (لندن اونتاريو)/كندا