في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (2)

في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (2)
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
حسن حامي

                                 في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة

 

يفسر المتخصصون في تفسير الأحلام سرقة الجواهر في المنام بأن شيئا نفيسا سيفتقد. ولكنهم لا يجدون تفسيرا مقنعا   لحلم البكاء على قارعة الطريق، سوى أن السكن مفقود. كما يفسرون فقدان السيطرة على مقود السيارة أو الدراجة أو لجام الفرس برغبة دفينة في التخلص من المسؤولية. وهذا الحلم شبيه بما يراه متروي في أحلام اليقظة. والحقيقة، هي أنه أصبح يفكر جديا في الهرب من جديد، كما فعل حين غادر تافراوت في جنح الليل. الحوار الذي أجراه مع مستعد أفرغ ما في نفسه من هوس، وجعله يشعر وكأنه تحرر من عبء ثقيل. ولكنه لا يصدق ذلك في واقع الأمر. كلمة المشورة التي كررها مستعد عدة مرات، قولا وإشارة، أصبحت كابوسا بالنسبة إليه. فهل يهرب مرة أخرى؟ وتذكر كل شيء وهو منكمش في عربته، وسط ديكور محبط رغم ضخامته. لم ينته التصوير بعد، لأن أحد الممثلين الكبار لم يأت بسبب حدث طارئ. العربة، ملاذه المثالي، كما كان الأمر في زمن ليس بالبعيد
سكون الليل…كان يمسك الظلام بعينيه. الرمال…كان يجادل فحيح الأفاعي. الترقب…كان يرتجف من هسهسته… صحيح أنه أمن الأهم، وهو حفظ المخطوطات والوثائق المهمة، ولكن المتربصين به لم يفقدوا الأمل في إرغامه على الكشف عن مكانها. كان لا بد أن يكذب على أمه وأخته وزوجته مليحة. “أنا ذاهب في رحلة قصيرة لأمر جلل، وسوف أعود سريعا، قال لهن”. لم يصدقنه، ولكنهن لم يمنعنه من السفر، لأنهن يعرفن أنه لم يجد لسعيه خيارا آخر. قال للعدل إنه يعتمد على فصاحته كي يكبح فضول الجميع حتى عودته، لم يصدقه، ولكن رأى أن من واجبه التستر عليه هذه المرة. سكون الليل… قطع الطريق الطويل مرورا بشعاب صعبة وكل همه أن ينجح التمويه الذي خطط له بمعية صهره، راجح، الذي أظهر حنكة وشجاعة لا تضاهيهما سوى المخاطرة بسمعته وسط الأعيان. لكن راجح يعلم أيضا أن بقاءه هناك يشكل خطرا على الجميع. عندما یملك أحد المال والجاه والسلطة، فهو مرجعية. وعندما یفقد أحدها أوجميعها، فهو قطرة ماء في حنفية تتآكل بالصدأ وتتسيد فيها الصراصير
وکان ذاك حظهما: راجح خسر، لأنه زوج ابنته الوحيدة إلى رجل يتموقع بين الدين والدنيا ويتصوف على هواه، ولم ينعم بحب حفيد يرفع رأسه بين الأعيان. ومتروي خسر، لأنه لم يخلف، بل اجتهد، رغم أنه أرغم على ذلك، في خلق كوارث كادت أن تعصف بالجميع. التضحية؟ ما معنى التضحية؟ وما وازعها؟ وما مداها؟ هل تكون التضحية آخر مسمار في نعش حياة لم تستقم يوما؟ هل تكون التضحية هربا من محنة لم تعد تحتمل؟ هل التضحية، فعلا، نكران ذات وقفزة في المجهول لإنقاذ الآخرين؟ مهما يكن، كان متروي يشق الطريق الوعرة لا يحمل سوى كيس متوسط الحجم يتضمن أغلى شيء بالنسبة إليه: مخطوطات ووثائق ثمينة
الإيمان… هل الإيمان صك غفران في كل الأحوال، مهما اختلفت المعتقدات؟ الناس يغيرون معتقداتهم حسب تطور تطلعاتهم الدنيوية. وعندما يلتقي الدين بالرغبات المادية الملحة، تنتهي العلاقة بين الإنسانية من أجل الإنسانية والدين من أجل الدين؛ وفي الحالتين، يغيب الإيمان المتعارف علیه ويصبح الحديث عن الإنسان بدعة. کما یصبح الحدیث عن التضحية عبث. كشفت المخطوطات حقائق… كشفت الأوراد تصدعات… كشفت السلاسل الروحية نواقص يمكن تصنيفها في خانة الشغف بالانتماء الروحي، ليس إلا… قيل له: لا تتسرع! قد تندم! لا تنزع الخرقة عمن لبسوها في الماضي، لأن الماضي لا يستنسخ. من يبحث عن الحقيقة، لا ينحرها في وسط الطريق بدعوى ضرورة نحر قربان لاستمالة الأقدار. هل يكون هو نفسه القربان الذي يبحث عنه؟ كل مشروع جديد، یحتاج إلى دم جديد!  لكن دمه ليس مقدسا، لا وليس إكسيرا يشفي غليل من يبحث عن ماء زلال كيفما نزل. الناس تسبح في الكذب وتلبس ثياب الصدق للتبرج. لكنه لا يكذب ولا يجنح إلى التبرج. لم التبرج إذا كانت الألوان لا تعني في معجم العمى أي جمال إلا جمال الروح حين تستفيق من سباتها؟ وهو استفاق الآن. استفاق ليهرب. هارب من جحيم الحقيقة التي أحرقت جزءا مهما من الذاكرة الجماعية لأهله وعشيرته. وقدره، الذي غدا يكرهه، يرفض أن يجعل منه ضحية أو قربانا أو سلسلة أو خرقة. لكنه سيواجهه كي يقهره
كانت المحطة الأولى عمادة جامعة إبن زهر، حيث سأل عن أحد أساتذته القدامى، مناجي، الذي يدين له كثيرا بما تعلمه من الفصل بين شؤون العقل وشؤون القلب، فعلم أنه انقطع عن التدريس لفترة طويلة، وأنه فضل أن يختلي بنفسه في جهة دكالة، بين أزمور والجديدة والبئر الجديد. حاول الحصول على معلومات إضافية؛ دون جدوى. وكانت المحطة الثانية، إيموزار إد أوتنان. سبق له أن زارها، أول مرة، في إطار تجربة فريدة عندما كان طالبا في جامعة إبن زهر. ثم زارها، بعد ذلك في إطار ندوات كان ينظمها أحد أصدقائه، معتصم، بعد تخرجهما.  كان معتصم رجلا عارفا وأهل ثقة، جمع بين دراسة علم الفلك وعلوم الأرض وكذلك الفقه كهواية. لعبت إيموزار إد أوتنان دورا هاما في تكوين متروي  الفكري، وكانت له مبارزات كثيرة مع بعض علماء الفقه والشريعة، تطورت أحيانا إلى سجالات لا تنتهي. كان يبدو لبعضهم أن إيمانه ليس قويا وأن درايته الواسعة بأصول الدين ليست سوى مطية، وأن ميولاته تسير في اتجاه العلمانية ــ بل الإلحاد، بسبب تكوينه في العلوم التجريبية. لم يكن يكثرث لادعائهم. وتمكن في أكثر من مرة من أن يخرج منتصرا. ليس لأن باعه كان طويلا، ولكن لأنه كان صبورا في تحمل الانتقاد وملحاحا في تقصي الحقيقة. لم يكن غريبا إذن أن يستقبله الأهالي بترحاب كبير، وبكرم عهده فيهم في السراء والضراء. لم يكونوا يعلمون بما جرى، وهو ما أثلج صدره. لم يمض عندهم سوى أيام قليلة، وغادر بعد أن ائتمن معتصم على ظرف كبير مشمع من مقتنيات الكيس، على أن يسلمه إلى أخته لاحقا، إذا لم يتمكن من العودة في الآجال. ثم توجه بعد ذلك، إلى مولاي إبراهيم، نواحي مدينة مراكش، کمحطة ثالثة، واستقر عند أحد معارفه، مبارز، صديق  الدراسة أيضا، من سكان المنطقة، يدير تعاونية نسائية تتخصص في صناعة الزرابي التقليدية. وانتهز الفرصة لیئتمنه على جزء آخر من محتويات الكيس، ظرف مشمع أيضا متوسط الحجم. كما أوحى إليه بتسليمه إلى راجح، إذا دعت الضرورة إلى ذلك. غادر بعد ذلك إلى أزمور، نشدانا للقاء أستاذه، مناجي، الذي ترك التدريس وتفرغ للتصوف بعيدا عن أماكن العبادة التقليدية، كما أخبر به في أكادير. کان قد نسي أن مناجی ینحدر من اشتوكة آيت باها، حيث تعیش أسرته التي كانت تنعم برغد العيش من خلال زراعة عشرات الهكتارات. ولكنه اختار حياة الزهد، وابتعد عن أسرته، تقول الشائعات، نظرا لأنه لم يكن راضيا على الطريقة التي اقتنت بها بعض الأراضي التي ترجع ملكيتها لرجل أصيب بالجنون وهو في ريعان شبابه، زوجوه إحدى بنات عامل فلاحي يشتغل في الحقول.  كانت الزوجة بكماء وصماء، أنجب منها ولدا واحتفظ به مثل الرهينة إلى أن مات قبل إتمام مساطير انتقال الملكية، رغم تواطئ عدلين لم يكونا أقل خبثا وجشعا من العائلة
لم يكن سهلا الوصول إلى إقامة مناجي، التي كانت على بعد عشرين كيلومترا، تقريبا من أزمور فی مکان يسمى ‘عش اللقلاق’، وهو إسم غريب، لأن المكان لا يحمل أي أثر لوجود هذا النوع من الطيور
ـــ ما الذي يقلقك؟ سأله أستاذه
ـــ أنا هارب من نفسي
ـــ وهل الهرب من النفس حل من أمرها؟
ـــ لا أعرف غير الهرب سبيلا، إن أنا ضعت لوحدي، سلمت أقوام؛ وهذا يكفيني ويغمرني بالسعادة
ـــ كلامك لا يستقيم. أنت هارب لأنك غير مستعد لكسر الحلة
ـــ أنا أحاول أن أحافظ على السر كي لا تتكسر الحلة
ـــ ومن أدراك أن الحفاظ على السر فيه خلاص للآخرين، وفيه قوة عزيمة من قبلك؟
ـــ أخشى أنني قصدت المكان الخطأ
ـــ أبدا، و لكنك غير مستعد
ـــ ربما
ـــ واصل رحلتك… ولا تعد إلى هنا أبدا. أنا تركت الدنيا لكم… والدنيا رائعة لمن يعيها. والدنيا مخيفة لمن يرقد على الجانب الخطأ
ـــ كنت أتمنى أن أئتمنك على شيء
ـــ لا أحبذ ذلك. كل ما يصدر عنكم  ينتهي بما لا تحمد عقباه
ـــ إن الموضوع قصة حياة أو موت
ـــ لا أظن أنني أستطيع مساعدتك. ما الذي يدفعك إلى أن تثق في آخرين، وأنت لا تثق في نفسك؟ ألم يحدثك أحد من قبل عن حكاية الجمرة؟
ـــ لا، ما حكايتها؟
ـــ عندما يكون عندك سر ما ولا تستطيع الاحتفاظ به لنفسك، لسبب ما، فلأنه مثل الجمرة يحرقك وتريد أن تتخلص منه، لأنك لا تقوى على تحمل الحريق؛ ثم تنتظر من المتلقي أن يحترق مكانك… غير معقول
ـــ أنت أستاذي
ـــ ماذا تعرف عني؟ لا شيء. ربما أنني تغيرت؟ ثم لم لا تسأل نفسك لم أنا تركت كل شيء وانعزلت في هذا المكان؟ ربما أكون هاربا لغاية لا يعرفها سواي
ـــ أنا مشتت بين حقائق ولا أعرف كيف أجزم؟
ـــ للحقيقة رائحة واحدة، ولكن الناس يلبسونها عطورا مختلفة، رغم أنف حاسة الشم
ـــ علمتنا أن نثق بأهل العلم، وأنت منهم
ـــ ليس من يلبس خرقة، يتنفس بالتصوف. وأنت نفسك من أهل العلم
ـــ أخشى أن تكون ما زلت  مصرا على موقفك منا
ـــ أنا لم أغير موقفي حول تفسير التصوف الذي كان يروج له جدك
ـــ ألم تقل لنا دائما إن المهم هو الاجتهاد؟
ـــ الاجتهاد في الطريق الصحيح
ـــ وما هو الطريق الصحيح؟
ـــ أنت تتهكم علي الآن… الصحیح ما تؤمن به ولو كنت على خطأ، ولا تحمل البخاري ومسلم و غيرهما ما لا طاقة لهم به
ـــ أبدا
ـــ جدك، كان على علم بأشياء كثيرة وظل لسانه أخرسا، ولم يكن لسانه سليطا إلا لتبخيس من يلبس خرقة غير خرقة فصيلته
ـــ أحترم رأيك.  كل ما أتمناه، ألا تنقلب الأمور رأسا على عقب
ـــ بادر أولا وغير من طريقة بحثك عن الحقيقة التي أنت هارب منها. أول خطوة يجب أن تقوم بها، هي أن تتنكر
ـــ كيف؟
ـــ ارتجل. لا تختفي في أماكن يمكن لمن يتعقبوك ــ إذا كان زعمك صحيحا ــ أن يجدونك فيها بسهولة
ـــ لا أستطيع أن أختفي على هواي
ـــ إذا كان ما بحوزتك شيء مهم، تصرف وتخلص منه. وإن لم تستطع، إبلعه
ـــ لا أستطيع
ـــ لك واسع النظر
غادر أزمور والخيبة تلبسه والتردد يعصره. كان يمني النفس أن يترك آخر جزء من محتويات الكيس عند أستاذه. والآن، عليه أن يختار مكانا آخر. الدار البيضاء؟ لم لا؟ المدينة يعرفها جيدا. ويعرف أنها تعيش فترة من الحركة والنشاط؛ ويمكن له أن ينساب مع التيار دون أن يثير الانتباه. وبينما كان يسير في طريق مهجورلا يعرف إلى أين يقصد، وجد كتبا ملقاة فوق عربة مهترئة بجانب حاوية مهملة. لم يتمالك نفسه وأخذ يتفحص محتوياتها : كتب متنوعة وبلغات مختلفة رغم أنها قليلة. بعض الكتب كانت في حالة جيدة؛ بينما  كانت أخرى غير مكتملة وتتضمن صفحات ممزقة. من تخلص من هذه الكتب وبهذه الطريقة في طريق مهجور، ومن عربة لا تستوي؟ وكأنه يسمع صوتا يهتف في أذنيه : ‘العربة سلاحك المثالي لتنصهر في النسيان إلى حين. أجزم وتوكل…’؛ تملكه التردد لثوان
” ثم لاحظ أن شخصا يراقبه، وبينما حاول إسراع الخطى مبتعدا، خاطبه
ـــ لا تستعجل!  خذ وقتك الكافي، هذه الكتب، على قلتها وصغر حجمها، مرمية هنا منذ أسبوع، ويمر الناس بجانبها ولا يتوقفون. وسوف تتخلص منها أو أنها ستتخلص منك في أجل قريب
العربة؟ الخرقة؟ ورد جديد في انتظار الجديد. وهذا الشخص الغريب… أسرع الخطى قاصدا مدينة الدار البيضاء. الدار البيضاء، حيث يتجول جزء منه في  أزقتها. كم يكرهها وكم يحبها في نفس الوقت
مرت أسابيع ، ووصل تصوير الفيلم  إلى آخر مراحله، بعد أن حضر الممثل الرئيسي. وأصاب حضوره الساكنة بهستيريا غير متوقعة في بادئ الأمر، ثم هدأ الوضع عندما أبدى الممثل تواضعا لا مثيل له، وتناول الشاي بالنعناع مع الناس في ‘المنتزه’، وردد كلمات نمطية بالدارجة المغربية. كما أنه تحدث إلى متروي بضعة دقائق قبل تصوير مشهد يظهر فيه متروي يحمل مجلدا ويقرأ بصوت عال: “العادة تقتل الإبداع ولكنها تلعب دورالمسكِّن الذي يكبح جماح المغامرة.” كان عليه أن ينطقها بدون لكنة بلغتين مختلفتين لإضفاء نوع من التشويق. وقد نطق متروي الجملة بإثقان كبير. لم يطلب أحد منه أن يغير ملابسه، التي كانت نظيفة، كالعادة، ووضع قليلا من الماكياج على وجهه. وأثناء العملية، داعبته إحدى الممثلات
ـــ هل تعلم أن لديك عينان قاتلتان؟
: ابتسم وأجاب
ـــ أعلم، ولكنهما تنطقان بالجريمة
استفزته من جديد وسألت
ـــ هل تتزوجني؟
:  فأجاب
ـــ لا أحب السفر
:  سألته
ـــ وماعلاقة طلبي بالسفر؟
:  أجاب
ـــ عندما يسافر الناس خارج أوطانهم يعطلون مكابح الحياء ويعلنون الحرب على الأخلاق، وكأنهم يتحررون من استلاب وقمع عشعش فيهم طول حياتهم . يتحول الخجل إلى وقاحة في النظر والكلام والأكل واللباس. لكن الندم يأتي في آخر المطاف ليعيد الأمور إلى نصابها ــ أو هكذا يظنون، بعد فوات الأوان
لم تستسلم ولاحظت
ـــ لا أظن أني أفهم ما تقصده. هل تقصد أن الزواج مثل السفر؟ أظن أنها فكرة تتطلب نقاشا مطولا
:ابتسم وأجاب
ـــ الحياة لها ما لها وعليها ما عليها. الارتباط بالآخر رحلة، مهما طالت، تظل قصيرة. وكل ارتباط يعتبر نزوة؛ عين ترى وأعضاء أخرى في الجسم تتحرك من فرط الإعجاب أو من فرط التذمر؛ البعض يسميها حبا والبعض يسميها ميولا، ليس إلا، وصنف آخر يعتبرها لحظة فراغ، كما هوالحال بالنسبة إليك ياآنستي
: عقدت حاجبيها وقالت
ـــ اتظن أنني غير جميلة وأنني ــ مجازاــ لا أستحقك؟
ـــ أبدا، يا آنستي، أنت جميلة، وأنت تسخرين مني.أنا في سن أبيك أو أكثر. شيخ لا أملك سوى لسان تتقاذفه الكلمات. وحتى لو صدقت أنك لا تمزحين، وحاولت أن أتغير، ستظل بركة الماء هنا سمائي وستظل سمائي وحل
: تراجعت إلى الوراء وأمعنت النظر فيه طويلا، قبل أن تسر إلى ممثلة أخرى
ـــ هذا الشخص مميز جدا وقد أقع في حبه فعلا من غير أن أشعر. صدقيني
ـــ قلت لك، لا تعبثي معه، أجابت الأخرى. أتظنين أن المخرج اختاره عشوائيا؟ ولكن أتفق معك، عيناه قاتلتان
أدارت الممثلة الفاتنة وجهها وانصرفت بعيدا عن مكان تصوير المشهد. لاحظ متروي أن نقاشا احتدم بين المخرج والممثل الرئيسي وأفراد من طاقم التصوير، تبين أنهم كتاب السيناريو، إضافة إلى معروف، السنيمائي المغربي، بصفته ثاني مخرج مساعد. كانوا يتحدثون وينظرون إليه بين الفينة والأخرى. لم يكترث كثيرا، سيقوم بما سيطلبونه منه، وسينتهي كل شيء. ابتسم وقال في قرارة نفسه: ‘لو تحقق هذا… أن يقترن بهذه الممثلة… في عالم آخر، ربما! ولكن، لو تحقق هذا؟ لن يعترض أحد هنا، وسيتحول إلى شخصية مهمة. ولن يطلب أحد شهادة العذرية من الممثلة. سيفتي من له حجة الإفتاء بأن هذه الخطوة فتح جديد في صراع الحضارات، وأن الفتح يصنف في خانة الجهاد الأكبر. سيعلن أعيان القبيلة تراجعهم عن طلب رأسه وسيقترحون، بكل يقين، إبرام  صلح حديبية معطر بأجمل النقوش ــ حتى ولو لم يضعوا أيديهم على الوثائق الثمينة. هذه الوثائق الثمينة لو علموا أصلا ما تتضمنه من … آه لو يتمكن من اختزال أفكاره
لم يستمر في تيهه، اقترب منه معروف، وهو يحمل وجها تغلفه جدية كبيرة. تبعه المخرج وأحد كتاب السيناريو. شعر متروي بنوع من الرهبة. هل تجاوز حدود اللباقة، عندما تحدث مع الممثلة بتلك الجرأة؟ ما كان عليها أن تتهكم عليه بتلك الطريقة
:بادره معروف
ـــ أنت غريب الأطوار، وتنضح بالمفاجآت
ـــ لا أدري. هل قمت بفعل لا يرضي؟
ـــ أبدا. المخرج أعجب بطريقة تعاملك مع جينفر
ـــ إسم الممثلة جينفر؟ لم أكن أعلم
ـــ نعم، إنها ممثلة ناشئة وجيدة
ـــ وجريئة
ـــ نطقك باللغة الانجليزية سليم
ـــ أعرف ذلك، ولست الوحيد في هذه الربوع
ـــ هل يمكنك أن تتذكر بعضا من الحوار الذي تبادلته مع جينفر؟
ـــ لا أفهم
ـــ كان ردك يحمل كثيرا من الذكاء. و يرى المخرج أن إعادة صياغته بطريقة أخرى، ربما تفيد السيناريو
ـــ هذا شيء يشرفني ويفزعني في نفس الوقت
ـــ حاول! إن فعلت، ستصبح مشهورا، وربما غنيا أيضا
ـــ أنا لا أريد أن أكون مشهورا، ولكنني سأحاول أن أتذكر. لو سمحتم، سأدون ما استطعت إليه سبيلا باللغة العربية وأعطيك إياه، بعد حين. ولك أن تترجمها على هواك
ـــ هل يمكن لك قراءة ذلك بعد الترجمة؟
ـــ أخشى أن أرتبك، فلغتي الانجليزية ليست جيدة عندما ينصت إلي ناس من أهلها
ـــ لا عليك، تقنيا، يمكن السيطرة على الوضع. تعامل مع الوضع كما تشاء. سنقوم بالترجمة فورا. وإذا لم نتوفق الآن، سيصلح الأمر لحظة التوضيب النهائي
ـــ هذا، إن لم يحذف المشهد أصلا
ـــ لا عليك. المخرج يفكر في أن تظهر في مشهدين على الأقل
ـــ سأنسحب للقيام بالمتعين. وأتمنى أن أتذكر
ـــ لا يهم. إذا لم تستطع، دوّن أفكارا من نفس الفصيلة. واستعد للتصوير في أية لحظة
ـــ أنا لا أقدم الوجبات السريعة، سيدي معروف
ـــ حاول! إن لم يكن اليوم، فغدا
اعتكف متروي في العربة، لم يتمكن من تركيب المشهد في ذهنه. كما أن جينفر ذكرته بالشابة التي توقفت عن المجيء. نفس الجرأة، ونفس الغنج والدلال. وكأن نسمة لعوبا تفيقه من غفوته، ولم يدر إلا ويده تخطف القلم الأخضر. فتح المفكرة البنية، وكتب
الناس يموتون رغبة في إيجاد مكان يتكلم الجميع فيه لغة واحدة وأن يعم الصمت طول الوقت، ولكن المكان الوحيد الذي يمكن أن يحصل فيه هذا الأمر هو المقبرة، حيث الصمت واللغة الواحدة تتصدران المشهد

(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com