قصة قصيرة للكاتب المصري القطعاني


سحابة من طيور
على عَتبةِ مَنزلِه المشرفِ على الساحةِ الترابيةِ لَمَحَهُ، وجدهُ مُنكمشاً، مُنزوياً بالقرب من (الفُرْجةِ) الضيقةِ في الباب الخشبي التي يتسللُ منها الهواءُ البارد للخارج، ماداً رأسَه نحوها، مُستجدياً نَسْمةَ الهواءٍ الهاربة من تلك الفرجة ، رِئتاه رهينتا تلك النسمةِ كي يبقى على قيد الحياة ، ضاماً جناحيه حولَ جسمِه النحيل، مُمَدِّداً على بطنِه الضامرةِ يغشاه السكون والصمت .
ظنّه نائماً، تساءل:
ـ لِمَاذا لَمْ ينهض حتى الآن ؟
الشمسُ غازلتْ الكون، وأيقظتْ مَنْ فيه، كلٌ يسعى وراء قوته، علت الأصوات، بدأ الضجيج يفترش الطرقات ، وَالي النظر إليه، وتساءل :
ـ لماذا تركه رفاقُه ؟
ـ لماذا لمْ يغدُ لرزقه مثلهم ؟!
ـ لماذا يتقمصُ حالةَ السكون تلكَ ؟!
انحنى عليه برفقٍ مُبتسماً، مسحَ بأنامله رأسه وظهره، لم يتحرك ، داعبَ ظهرَه مراتٍ، مازال ساكناً ، جسدُه الضئيل مُتخشبٌ، ساوره القلق، التقطه بأصابعِ يدِه اليمنى، رفعه لأعلى، مازال مُستسلماً، أضجعه على باطنِ كفِه اليسرى، فتدلتْ رأسُه من عندِ إبهاِمه لأسفلَ، لقد فارق الحياة .
تأمّله طويلاً وهو مُستلقٍ على باطن كفه، ومن عينيه انساحتْ دمعاتٌ ، ارتعشتْ أعضاؤه ، ارتَجفَ قلبه، ظلّ صامتاً لمدة طالتْ، لا يدري ماذا هو فاعل، انفتحَ باب منزله من الداخل فجأةً ، شاهدَه ابنُه (إبراهيم) على هذه الحالِ واجماً، والطائرُ مُسدّى على باطنِ كفِه .
نظرَ ابنُه إليه ، ثم نظرَ إلى الطائرِ ، وسألَ :
ـ هل هذا الطائر نفقَ يا أبي ؟
أجابه أبوه بصوتٍ مُنكسر، ودموعُه مازالتْ تتقاطرُ من عينيه:
ـ نعم يا بُني ، فارق الحياة من قَسوةِ حرارةِ الجوِ، العَطشِ قاتل .
في صَبيحةِ اليوم التالي َحملَ الحاج ( طاهر) مَواعينَ الماءِ والحبوب، ونصبها في الساحةِ الترابية أمامَ منزلِه تحتَ مظلةٍ مُتواضعة صنعَها بنفسِه من عِدةِ أعوادٍ خشبيةٍ قديمة، ثم بَسطَ فوقها قِطعاً من القماشِ جَمعَها من أحدِ دكاكين الخياطين .
الطيورُ رأته، فأسرعت، تجمعتْ حوله، صارتْ تتزايد وهو سعيدٌ بهبوبها نحوه ، قدم لها الطعام والماء، ضجت الساحةُ الترابية بأصواتِ الطيور، شعرَ بالرضا ، لن يَهلكَ طائرٌ بعد اليوم منْ لهيبِ الحر وشُح الماء، طمأنَ نفسه .
هذا دأبُ الحاج (طاهر) مُنْذُ عشرِ سنواتٍ بعد حادث موت الطائر، الطيورُ تكون في انتظاره كلَّ صباح، تلتفُ حوله، تقفُ فوقَ رأسه، تتوسد مَنْكبيه وهي ترفرف، وتغرد، كلما حانَ وقتُ الطعامِ والتروية.
برفقٍ يضعُ لها ماءَها ومرعاها، فتزداد بهجتُها، يعلو تغريدُها ، تفرش أجنحتُها، تملأ الساحة نغماتٍ ، وتتوالى التغريدات، يداعبُ بعضها بأنامله، وعلى وجهه إبتسامة لا تفارقه .
مع مرورِ الأيامِ تزدادُ ألفةُ الحاجِ طاهر بالطيورِ حتى أنّ الناس أسموا هذه الساحةَ ( ساحة الحاج طاهر )، لم يتخلفْ يوماً عن إطعامِها، لا يتناول طعامَ إفطارِه قبلَ طيوره أبداً، هذه عادتُه اليومية قبل توجهِه إلى عمله .
ذاتَ يوم تجمعتِ الطيورُ كسنتها من كل الجهات الأربع في انتظارِ خروجِ الحاج طاهر، الوقتُ يمضي، لم يخرج الحاج طاهر من منزله حتى الآنَ ، بعضُ الطيور تُيمّمُ أجنحتَها نحو بابِ منزلِه ، ثم تعود، تستطلع الأمر، اقتربَ وقتُ بزوغ الشمس، ليستْ هذه عادته،عُرِفَ عنه وفاؤه بمواعيده .
دوّت صرخةٌ من داخل بيت الحاج طاهر، انتفضتْ منها الطيور، توافدَ على المنزل بعد قليل رجالٌ ونساء وأطفال يتشحون بالسواد ، أصواتُ البكاء مُختلطة، والدموع منهمرة ، فهذا بكاءُ رجلٍ، وذاك نحيبُ امرأةٍ ، وتلك دموع أطفال تنساب على خدودٍ وردية بدأت تعرف ألمَ الفِراقِ مُبكراً، الحزن يخيم على الوجوه ، ترتفع الأكفُ إلى السماءِ طالبةً المغفرة ، وعلا صوتُ أحدِ الحاضرين مُبتهلاً :
ـ ادعوا للحاج طاهر بالرحمة.
الطيورُ التي كانتْ تحلقُ في السماء وهي تغردُ في انتظار خروج الحاج طاهر صمتتْ ، اصطفتْ فوقَ سورِ منزله صانعةً تاجاً بديعاً بِريشَها الملونِ، نكّسَتْ رؤوسها ، خفضَتْ أجنحتها، حالةُ حِدادٍ وحزنٍ على مَنْ فارقها .
خرجَ النعشُ من المنزل مَحمولاً على أكتافِ محبيه، اتجهوا بجسده نحو المقبرة ، المُشيعون يسيرون في سكينةٍ ، الكلُ يسارع إلى حملِ النعش، درجةُ حرارةِ الجو في ارتفاعٍ ، في مُقدمةِ المشيعين ابنُه إبراهيم وبجوارِه صديقُ والدِه ( الحاج علي ) .
لحظةَ خروجِ الجثمانِ من المنزل انطلقت الطيورُ من فوق السور على شكلِ أسرابٍ وطبقاتٍ تُظلل النعشَ، وتحميه من أشعةِ الشمس، صنعت الطيور فوقَ النعشِ سحابةً مُحكمةً، لا ينفذ منها أيُ شعاع، استمرتْ على تلك الحالِ حتى وُورِيَ جثمانُه الثرى وسَطَ دهشةِ الناسِ وتعجبهم ، فارتفع صوتُ التكبيرِ والتسبيح .
في أثناءِ عودةِ إبراهيم من المقبرة إلى منزلِه، اقتربَ منه صديقُ والده الحاج (علي)، وضعَ يده على كتفه، شدّ من أزرِه، ترحّم على صديق عمره، وبصوتٍ تخنقه العبرات همسَ في أذنِ إبراهيم :
ـ إنّ برَّ الوالدين لا ينقطعُ بموتِ أحدهما أو كليهما، من بِرّ الوالدين أن تُطعم منْ كانوا يطعمون ، وتَسقي منْ كانوا يسقون ، وتَرعى منْ كانوا يرعون .
وأكمل :
ـ أبوك ـ رحمه الله ـ كان لديه سجلٌ بأسماءِ الفقراء، وجعلَ لهم نصيباً من المالِ يوفيّه إليهم مع بدايةِ كل شهر ، كما جعلَ للطيرِ في الساحةِ نصيباً من ماله كما الفقراء .
التفتَ إليه إبراهيم مُتعجباً، وقال :
ـ أفهمُ يا عمي (علي) أنّه من البر إطعامُ البشر، فهل من البرِ إطعامُ الطير؟
ابتسمَ (الحاجُ علي ) ابتسامةً خفيفةً سرعان ما أوقفها ، وأضاف :
ـ نعمْ يا بُني ، فالطيورُ أرواحٌ كالبشر، وفي كُلِّ ذاتِ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ .
واستمر في حديثه ، وإبراهيم ينصتُ إليه :
ـ يا إبراهيم إنّ مِن ثِمار بِرّ الوالدين في الدنيا والآخرة أنْ يسموَ شأنُ الابن، وتطيبَ سيرتُه بين الخلق، وترضى عنه السماء، وتحلَّ عليه بركةُ الله في عمرِه ورزقِه .
هزّ إبراهيمُ رأسه ، تناولَ يدَ صديقِ والده ، قبلها ، وقال :
ـ ستجدني كما تُحب، ولن أخذلَ والدي وهو بينَ يدي الرحمنِ، كما لم أخذلْه لمّا كان في الدنيا .
عقبَ ما حدث في جنازةِ الحاج طاهر، وما كانَ من سلوكِ الطير نحو نعشِه، أخذتْ ألسنُ الناس تلهجُ بحكاياتٍ عن الحاج طاهر، وعن علاقتِه بالفقراء، وبالطير، يقولُ أحدُهم :
ـ الحاجَ طاهر إمامٌ من أصحابِ الكراماتِ، ومن السّادةِ أولياءِ الله الصّالحين، وكان يَعلمُ لغةَ الطير .
يقول آخر، وهو يُقسم أغلظَ الأيمان :
ـ إنّ الحاج طاهر نما رزقُه، وفاقَ الحدَّ بسبب رعايته للطير وخاصةً (الهدهد) الذي كانَ ينقلُ إليه أخبارَ التجارِ والسلعِ .
ويزيد ثالثٌ وهو يضربُ كفاً بكفٍ :
ـ واللهِ ، إنّ الطيرَ كان يجعلُ من نفسه بِساطاً للريح، ويحملُ الحاجَ طاهر على هذا البِساط ، ويزورُ الأماكنَ المقدسة ، ثم يعودُ في اليومِ نفسِه .
شُغلَ إبراهيم بترتيبِ أوضاعِ أسرته بعدَ وفاةِ والده، والإشرافِ على شؤون تجارتِه، كان سعيداً بما يسمعه من حكاياتٍ عن رحمةِ والدِه بالطير وبالبشر، وأعمال الخير التي عرف بها، و ما هم فيه من نعيمٍ بفضلِ من الله وبفضل دعواتِ الكثيرِ من الأسرِ المُتعففةِ التي كان يصلُها بما يحتاجونه كما أخبرَه بذلك (العمُّ علي) .
كما انشغلَ إبراهيم َبترتيب شؤونِ تجارتِه وأمورِ الفقراء، ورعاية هذه الأسرُ كما كان يفعل والده، انشغلَ أيضاً عن توفيرِ الطعامِ والماءِ لطيورِ الساحةِ، فقلّ عددُها، ما عادَ الناس يشاهدونها وهي تحومُ حولَ منزلِ الحاج طاهر، ماعادوا يستيقظون على تغريدِها في صباحِ كل يومٍ كما كان الأمُر في حياة الحاج طاهر.
الناسُ يترحمون على أيام الحاج طاهر، وفي ترحمهم لومٌ لابنَه إبراهيمَ الذي لم يواصلْ سنةَ أبيه في رعايتِه لهذه الأرواحِ في ذلك الجو الحار اللاهب .
في الليلة الثالثة لانتقال الحاج طاهر إلى الرفيقِ الأعلى، رأى ابُنه إبراهيم فيما يرى النائمُ والدَه مُرتدياً ثوباً أبيضَ ناصعاً، وعلى رأسِه عِمامة باللونين الأسود والأخضر، وحوله طيوٌر كثيرة زاهية الألوان، ويشيرُ بإصبعِه السّبابة صوبَ الساحةِ الترابية وهو مُبتسمٌ .
في صباحِ تلك الليلةِ شدَّتْ آذانَ سكانِ البيوت المُحِيطةِ بالساحة أصواتُ رَفرفةِ أجنحةِ الطيورِ، وتغريدٍ عذبٍ لا يتوقف مُطرباً إياهم بنغماتٍ افتقدوها لأيامٍ، ذكّرتهم بأيام المرحوم الحاج طاهر، فانسلوا مُنطلقين خارجَ بيوتهم ؛ ليروا ما يجري .
دُهشوا عندما شاهدوا إبراهيمَ بن الحاج طاهر يحملُ في يديه مواعينَ الحبوبِ والماءِ التي كان يحملها والده ، ويسيرُ نحوَ الساحةِ الترابية في سكينة، والطيورُ تلتف حوله، وتتوسد مَنكبيهِ، وتقف على رأسِه وهو يداعبها مُبتسماً .
محمد ياسين خليل القطعاني (مصر / الكويت)