قصة قصيرة للكاتبة إنجي علوي شلتوت

قصة قصيرة للكاتبة إنجي علوي شلتوت

“إنذار بالقتل”

      إنجي علوي شلتوت

“شاحنة ترحيل المساجين بالانتظار يا سيدي، ننتظر منك أمرًا بترحيلهم إلى السجن المركزي”

من داخل مكتب الضابط، هكذا تحدث أحد معاونيه المكلف بإتمام عملية الترحيل.

يرد الضابط عليه بحزم قائلًا:

– نفذ الأمر الآن.

– تمام ياسيدي.. ولكن قد يهمك هذا الأمر، فتلك المفكرة الصغيرة كانت بحوزة أحد المساجين الذين هم قيد الحبس، فإذا ما أردت الاطلاع عليها.. فها هي تفضل.

يتفحص الضابط هيئة تلك المفكرة المُتهلهلة من الخارج، يشعل لفافة تبغ أخرى، ويأمر معاونه مشيرًا له بيده أن ينصرف خارج غرفة مكتبه.

يمد ساقيه فوق المكتب، ثم يضع إحداها فوق الأخرى، يقلب في صفحات المفكرة بعدم اكتراث، محدثًا نفسه:

“حسنًا، لا مانع من إلقاء نظرة على بعض صفحات هذه المفكرة”

يقوم بفتحها بشكل عشوائي، فتقع عيناه على نص قد كُتِب بخطٍ ينم على أنَّ كاتبه كان منفعلًا بشدة:

«أمخطئ أنا؟ أمخطئ لمجرد سعيي الدؤوب لتحقيق العدالة؟ لا تقل لي بأنّ لكل ظالم نهاية، ولا تجادلني في أننا نعيش داخل المدينة الفاضلة، مدينة تعطي لكل ذي حقٍ حقه، أو تثأر له ثأرًا يشفي غليله، لا.. فهذا ليس بواقعٍ، فالمجرمون أحرار طلقاء إلا من رحم ربي.

أما عن حبيسي الزنزانات، فحدث ولا حرج، فما هم إلا كبش فداء لأشرس الوحوش الضارية، ومن يُسجن وهو ظالم لنفسه، يجد له طرف خيط يُبرئه أمام القضاء..

لا أُنكر أنَّ طفولتي كانت مأساوية، فقد كان والدي حارسًا لمدرسة  في وسط المدينة، وأنا مجرد صبي.. لم أكد أبلغ عامي العاشر، حتى أقدمت على أول جريمة قتل في حياتي!!

نائب رئيس المدينة.. نعم قتلته بدمٍ بارد، فقد افترى على والدي الكذِب، واتهمه بسرقة مخزن طعام الطلاب في المدرسة زورًا وبهتانًا.

هذا النائب الظالم!! قد تسبب في قطع عيشنا، وشرّد أسرة بأكملها، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسك بالبندقية الخاصة بأبي، وأقوم بإطلاق وابلٍ من الرصاص على كافة أجزاء جسد النائب، ثم وليت هاربًا.. والغريب أنني لم أشعر بذرة ندم ولو للحظة”

يبتسم الضابط ابتسامة المنتصر، فقد علم لتوه من هو القاتل الأرعن لنائب رئيس المدينة، يشعل لفافة تبغ أخرى، يحتسي فنجان قهوته لآخره، ثم يقلب بحماس في صفحات المفكرة حتى توقف عند صفحة أخرى ليكمل بدوره القراءة:

«ألا تتمنى أن تقتلع رأسه؟ نعم.. هو الذي يجول  في بالك الآن، رئيسك المباشر  في العمل.. هذا الذي ينسب جهدك لنفسه، ويشتكي كذبًا وافتراءً من تقصيرك في العمل، ويقلل من شأنك أمام زملائك.. ألا يستحق الموت؟

هنا.. يأتي دوري، أنا الذي أَرسي الميزان.. ميزان العدالة، لهؤلاء الطلقاء في دنيانا، الذين يستحقون الفناء عن جدارة، صدقني.. ستتمنى أن تقابلني لأثأر لك، فأنا بلا شك لن تصبر عيناي على الحال المائل، ولن ترحم يداي كل مغتصب، ولن يسلم من شري سارق، والويل مني كل الويل.. لكل قاتل”

تلمع عينا الضابط، وهو ما زال يقرأ المفكرة بحماس المنتصر، يفوت بضع صفحات ثم يتوقف عند إحداها ليقرأ نصًا مكتوبًا بطريقة منمقة على عكس ما قبله:

“قتلته اليوم.. حارس المدرسة الجديد.. السارق الحقيقي لمخزن الطعام، فقد تحريت الأمر بنفسي وكشفت أمره، فلينال جزاء عمله، وليتحمل عاقبة سكوته عن ظلم والدي المفترى عليه.

أفضل السفر، ليس فرارًا أو خوفًا، بل لأستجمع شتات نفسي.

إلى أن رأيتها.. حبيبتي وعشقي الأول، قد محوتُ الكثير من عاداتي السيئة لأجلها، صفحة بيضاء غير ملطخة بسواد الماضي، كنت سأصبح أبًا لجنين تكَّون  في أحشائها، ولكن فرحتي أعمتني عن حقيقة قائمة لن تتغير، أننا نعيش  في دنيا عاهرة دنيَّة.. خاوية من الرحمة، تكره أن ترى جمالًا.

فقد كان يتربص بها.. هذا الخسيس.. المسمى بصديق، اعتدى عليها..

قتلها وقتل معها حلم الأبوة، لكنه تلقى جزاءه عما اقترفته يداه، فقد جعلته يرى كل قطعة من جسده وهي تفارقه لتلتهمها الكلاب الجائعة، جعلته يتحسر على نفسه حتى مات ألما وقهرا، أليس هذا هو عين العدل؟”

يصيح الضابط بحماس من هول المفاجأة:

“يا مريض يا ابن ال…”

يُنزل ساقيه من فوق المكتب، ويعتدل في جلسته، فقد كشف أخيرًا هوية قاتل هؤلاء الضحايا، الذين كانوا يشكلون بموتهم الكثير من علامات الاستفهام بعقله، يشعل لفافة تبغ عاشرة ويُكمِل القراءة:

«أقسمت على الانتقام، فرؤية أمي غارقة في دماء الغدر لن تمر مرور الكرام، أقدر شعورك المضطرب نحوي، لكن لا تخاطبني في ذلك المدعو أبي، كيف انخدعت فيه كل تلك السنين، فأنا لا أخشى في الحق لومة لائم، لا يفرق ميزان عدالتي بين عدو وحبيب، لقد استحق هذا الرجل عقابي أولًا وأخيرًا، بعدما قتل أمي.

فقد بيَّتُ نية طعنه بالسكين أثناء زيارتي الأولى له في السجن، كان أمر طعنه عشرين طعنة سلسًا يسيرًا، مع كل طعنة تتعطش روحي للمزيد، وكأنني ارتشف كأسًا من خمر، واحدة تلو الأخرى حتى أنتشي.

وكم تلذذت بتشريح جسده البغيض، وقد انتزعت قلبه القاسي بيدي، حتى أنني لم أهنأ بوجبة في حياتي بقدر تلك المرة، التي التهمت فيها قلبه”

يبتلع الضابط ريقه بصعوبة، لا يعلم كيف شعر بكل هذا الظمأ مرة واحدة، ترك المفكرة على مكتبه، أخذ يرتشف الماء ويرتشف، فقد كان يظن أن قتل هذا المجرم لوالده في السجن هي الجريمة الأولى له، ولم يكن يعلم مدى خطورته كقاتل ارتكب سلسلة من الجرائم، التي لم تتوصل الشرطة إلى مرتكبيها الذين يستحقون أقصى عقوبة.

يجذب الضابط المفكرة من فوق مكتبه، ثم أخذ يقلب في صفحاتها مجددًا، حتى وصل لآخر صفحة فأخذ يقرأ:

“وضعت لنفسي لقبًا «صاحب العدل»، وهذا ليس من فراغ، فقد قمت بقتل سبعين مجرمًا، خلَّصت العالم من شرهم، حققت العدالة كما يجب أن تكون..

فكر معي.. ألا تستحق الحرق؟ تلك المرأة الساقطة التي تنشر الأوبئة التي تمكنت من جسدها، وذلك بإغواء الرجال ضعاف النفوس، أفلا تستحق أن تنال عقوبتها بما يحمله جسدها الموبوء من علل؟؟ ما أعمقه من شعور، حيث تتملكني راحة عجيبة.. عندما أزهق بيدي تلك الأرواح الخسيسة، فلو انتظرت حُكم عدالة السماء، ربما سأنتظر طويلًا.. سأنتظر إلى حين قدوم يوم الحشر، ولكن لا بد من القصاص في الدنيا أولًا.

ولو انتظرتُ حكم العدالة الدنيوية المتمثلة في القضاء، ففي أغلب الأحوال لن يُنصَف أحد، ولكنني أثق في ميزان عدالتي الخاص، الذي يحكمه ضميري أنا، ولكنه بالطبع.. كلفني الكثير. فبسبب أنني خلصت البشرية من طفيلٍ من أمثال أبي، وبسبب وجه العدالة الدنيوي الدنيء، لم ينصفني أحد ولا حتى القضاء!

فقد حُكم عليّ بالسجن المشدد حتى آخر عمري، لأن السلطات في مدينتي لا تحكم بالإعدام بأي شكل من أشكاله..

لكنهم لا يعلمون أنهم بسجنهم لي، أعطوني الفرصة على طبق من ذهب، لأتخلص وأنا بداخل السجن على مزيد من هؤلاء عديمي الشرف!! وأولهم ذلك الضابط المُتعجرف، المُدخن الشره، معدوم الضمير، الذي يقبع داخل مكتبه طوال الوقت متحكمًا في مصير البشر، لأريح الجميع من ظلمه وفجاجته، فقد أعددت له إعدادًا لن يتوقعه، لأخلص البشرية من أمثاله وهو في مقر عمله داخل مكتبه، فليحيا ميزان عدالتي بكل مكان، ولتحيا عدالتي للأبد”

 ملحوظة:

(القصة مبنية على أحداث واقعية لقاتل متسلسل)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *