قصة جديدة للكاتب المغربي د. مهدي عامري

محاولة ناجحة لتعريف الحب

يقول الراوي:
“لم أكن أعتقد يومًا أن الحب، ذلك الشعور النبيل الذي تغنّى به الشعراء، وكتبوا عنه المعلقات، وسكبوا في وصفه المداد والدمع والجنون، سيتحول عندي، أنا بالذات، إلى شيء بهذه الواقعية الفجّة… هذه الحكاية لا علاقة لها بالقلوب الراقصة، ولا بالمواعيد تحت المطر، ولا بالقبل الملتهبة، ولا بالرسائل الطويلة التي تُكتب على ضوء الشموع، بل هي أقرب إلى كيس خضر يتقوّس ظهرك من حمله، أو حفّاضة ممتلئة في الثالثة صباحًا تقف أمامها مذهولًا، ولا تدري أمامها هل تشرع بالبكاء أم تبحث عن طريقة للفرار… وأنا الذي كنت أظن أنني سأبني حكاية حب تشبه الأفلام الفرنسية القديمة، بحوارات هادئة، وحركات بطيئة، وكلمات تحمل أكثر مما تقول، وجدتني أكتشف معنى آخر، وهو أن تأتيك الحياة بلا موسيقى تصويرية، بلا كاميرا خفية، بلا مونتاج، فقط بضجيج الأطفال، وحرارة الطنجرة وأنت تراقب الأكل داخلها كي لا يحترق، وسقف يتقشر ببطء، وامرأة تقول لك: “أنت نسيت أن تشتري البطاطس”. ربما كانت تلك لحظة التنوير الأولى، والإدراك الصادم أن الحب ليس ما كنت أتخيله، وليس إطلاقًا ما قرأته في الكتب، ولا ما رسمه لي قلبي البريء في سن السابعة عشرة، حين كنت أرى أحلام تمر بثوبها الوردي أمام بيتنا، بشعرها الكستنائي المنسدل، وخطاها التي تشبه موسيقى لا يسمعها سواي… كنت أقف خلف الستارة كجندي خائف، أتأملها وأخطط لمستقبل مليء بالورد والموسيقى والكلمات الجميلة، لكنني لم أتحرك، تركتها تمر كأنها حلم، وكنت مكتفيًا بالمراجعة من كتاب جغرافيا مفتوح على لا شيء، حتى جاء اليوم الذي قال لي فيه جاري، بنبرة حيادية كأنه يعلن عن نشرة الطقس: “أحلام تزوجت”… وقلت في نفسي: هكذا إذن، انتهت الحكاية قبل أن تبدأ، انتهى ما كنت أظنه قدرًا مكتوبًا… وعدت مصدومًا إلى غرفتي… لم أبكِ، لم أصرخ، فقط جلست على طرف السرير، أحدق في اللاشيء وأتساءل: هل الحب هو أن تخسر من لم تملك أصلًا؟ هل من حق القلب أن ينكسر من أجل الوهم؟ ثم سافرت إلى الإسكندرية، لا لشيء إلا لأهرب من ظلي وأحلامي القديمة…
جلست أمام البحر كمن ينتظر معجزة إلهية أن تتحقق… وكانت الريح تعبث بشعري، وكنت قد بدأت أكتب بغزارة منقطعة النظير بعد جائحة كوفيد. لماذا يا سادة؟ لأني حين رأيت العالم ينكمش كقشور الفاكهة الفاسدة، وصوت الموت يعبر الأخبار كما الشاحنات المزدحمة، قلت لنفسي بحزم: إن كنت سأُهزم اللايقين، فليكن… وسلاحي هو الكلمات… إذن سأقاوم الخراب بالقلم، وسأعيد تشكيل المعنى من رماد الواقع… وهكذا بدأت أكتب، كثيرًا، لدرجة أني نسيت كيف أعيش… بحيث لم تصبح الكتابة بالنسبة لي فعل حب، بل طقسًا من طقوس النجاة والعبور إلى برّ الأمان، وكأن كل نص كان يجود به الوحي قاربًا صغيرًا يُبعدني عن الغرق الداخلي… وهكذا أصبح باطني خزانة ممتلئة بمشاريع نصوص لم تكتمل، وجمل دبجت في جوف الليل، ووساوس تقول لي إن التوقف خيانة… كنت أكتب لأني كنت خائفًا أن أصمت، فأسمع صوتي الحقيقي، ورافضًا لفكرة أن أستريح، فأشعر أني لا أستحق الراحة، بل لديّ دومًا ما يجب إنجازه… وكنت كلما كتبت أكثر إلا وأشعر أني أبتعد عن بني البشر، وعن الحب، وعن كل شيء… حتى جاء اليوم الموعود…
كان الحر لا يُطاق… وكنت جالسًا على شاطئ الإسكندرية أقرأ كتابًا لا أذكر عنوانه، وفجأة، سمعت صوتًا يشقّ الزمن: “أحمد…”، رفعت رأسي، فوجدتها… أحلام، نعم، هي، بلحمها ودمها… لم تكن حلمًا هذه المرة، كانت حقيقية تمامًا، بوجه أكثر نضجًا، وعينين فيهما قصص لم تُحكَ، قالت لي: “مرت سنوات منذ آخر لقاء. تزوجت وأنجبت، وغادر زوجي الحياة قبل سبعة شهور… أنا الآن حرّة”، ثم سكتت، وكأنها سلّمت لي مفتاح الحكاية، جلسنا، لم نحتج إلى كثير من الكلمات، كان بيننا صمت دافئ، وحديث قديم مؤجَّل، وحكايات عن الخذلان، وعن الوحدة التي تأتيك من داخل العلاقة لا من غيابها، عن رجل كان حاضرًا بجسده، وغائبًا بروحه، وعن بكاء خافت في الحمام كي لا يسمع أحد… ومن جانبي قصصت عليها عشقي الجنوني الأعمى للكتابة التي صارت عقوبة كل يوم، وعن النوم الذي لم أعد أذوقه إلا على مشارف التعب، وعن الإلهام الذي لم يعد ملاكًا حارسًا، بل سجانًا أبديًا، وعن الخوف من التوقف لأني كنت أعتقد أن قيمتي في عدد ما أكتبه من قصص، لا في الحياة التي أعيشها حقًّا… قلت لها: “كنت أحبك”، فقالت ببساطة: “وأنا كنت أحبك أيضًا… لكني خفت أن يضيع كل شيء إن اقتربت”، ثم مدت يدها نحوي، وسألتني سؤالًا بسيطًا جعلني أنسى كل الكتب: “هل يمكن أن نبدأ من جديد؟”، أمسكت يدها باستحياء ولم أَنْبِس ببنت شفة…
ومرّت ثلاث سنوات منذ تلك اللحظة الفارقة الخارقة، واليوم أكتب من بيت صغير فيه شرفة تطل على البحر، وفيه سكون يشبه الصلاة، وفي الزاوية الأخرى تكتب هي، وفي حجرها طفلتنا “رقيّة”، التي تشبهها في تطابق عجيب… صرت أكتب لا لأهرب، بل لأني أعيش، وأكتب لأني أحب، ولأني ودعتك أيها الخوف… وأصبحت لا أكره انقطاع تيار الإلهام، بل أستقبله كراحة مستحقة، لأني عرفت متأخرًا أن الحب ليس أن تتألم وتُبدع، بل أن ترتاح وتطمئن، وأن تكون موجودًا في حياة شخص واحد يعشقك، أفضل من أن تكون مشهورًا عند الغرباء، والآن، وأنا أَخطّ بيميني هذه السطور، بعد أن غيّرت حفّاضة ابنتي رقيّة، ووضعت “صينية البطاطس” في الفرن، وسمعت صراخًا مصدره مسلسل تركي في تلفاز الغرفة المجاورة، أقول لنفسي بكل ما تبقّى من وضوح: الحب أن تعود إلى البيت مقتولًا من التعب، ولكن باحثًا عن واحة الأمان؛ هو أن تجلس في صمت قرب حبيب القلب؛ هو أن تضحك ملء شدقيك رغم الفواتير المرتفعة؛ أن تشتري لابنتك ملابس جميلة وغالية وتنسى أنك ترتدي حذاءً مهترئًا؛ أن تقطع اشتراك “نتفليكس” لتدفع جزءًا من مصاريف الحضانة؛ أن تتسامح مع نفسك حين تفشل، وتضحك على سذاجتك القديمة حين كنت تظن أن الحب هو العيون الحالمة والنجوم والرسائل المعطّرة…
الحب، أيها الجنتلمان، أن تعرف أنك غير مثالي، وأنك معرّض باستمرار للمرض، وأنك قشّة في مهبّ الريح… لكنك رغم ذلك… ما زلت هنا، مع من تحب، وتحاول أن تعطي المزيد والمزيد، ودون مقابل، لأن هذا وحده يكفي..”