المسرح المغربي بين الأمس واليوم

أبو الفنون المغربي: من البدايات حتى الثبات…
نواصل نشر الورقات التي أعدها الأستاذ عنقا الادريسي حول المسرح المغربي.
فبعد أن تناولت ورقته الثانية الحديث عن المسرح المغربي من البدايات الى التأسيس، متوقفا عند المراحل المجملة في : [ مرحلة المقاومة – البحث عن التوازن – بداية الوعي – جيل المسرح ]، ها هو يتوقف في هذه الورقة عند الثالوث المميز للمسرح المغربي بتقاطعاته وتعدد رؤاه. -ألوان-
العلامات الفارقة للوعي المسرحي الاحترافي المغربي 2/1

استهلال مدخلي :
تتقاطع الرؤى وتتعدد التجارب في مسار المسرح المغربي، غير أن هناك أسماء بعينها استطاعت أن تنقش حضورها في الذاكرة الجماعية، لا بوصفهم كفاعلين في الحقل المسرحي الاحترافي فحسب، بل باعتبارهم روادا ومؤسسين لمسرح مغربي الهوية، أصيل المرجعيات، حداثي التطلعات. ومن خلال هذه القامات تتألف تجارب الثالوث الذهبي المغربي المكون من ” أحمد الطيب لعلج ” و “عبد القادر البدوي ” و ” الطيب الصديقي ” – وكلهم غادرونا الى دار الرحمة والبقاء – باعتبارهم أقطاب ثلاثية شكلت أضلاع مشروع مسرحي وطني، اختلفت مساراته وتقاطعت أهدافه، وخلق كل منهم بطريقته المميزة جسدا مسرحيا مغربيا متفردا، ظل لعقود يؤسس ويجدد من أجل التميز، مشكلين العلامة الفارقية لهذا التوجه أو ذاك، ورغم اختلاف مساراتهم الفنية، فإن مايجمع بينهم هو أكبر مما يفرقهم، إنه شغف الفعل المسرحي والانغماس في الثقافة المغربية والسعي إلى تطوير أشكال التعبيرالمسرحي الذي يحاور التراث وينهل منه لاستشراف المستقبل.
ويبقى استحضارنا لهذه التجارب ، ليس مجرد وفاء للأسماء بقدر ما هو تمثل لروح مسرح مغربي، ضاربة جذوره بعمق في الهوية الوطنية، طامحة إلى بناء شخصية مسرحية متميزة ومميزة .
أحمد الطيب العلج 1928 – 2022: ” الكاتب الإنسان وصوت البسطاء ”

الفرنسي – وتكييفها مع البيئة المحلية ، بلغته البسيطة القريبة جدا من المتلقي ، موظفا خفة الظل والسخرية النقدية اللاذعة في نسج خيوط نصوصه وأحداثها ، حتى أُطْلِق عليه ” كاتب الناس ” الميال الى التقاط نبض الشارع واعادة تشكيله بحنكة درامية خاصة به ، ستبقى حية في ذاكرة الركح والكتب والحوارات التي نثرها في نصوصه الابداعية . وعن تجربة هذه القامة الابداعية الشامخة يتحدث “نجيب طلال “في مقالة منشورة بجريدة ” بيان اليوم ” بتاريخ 23 يونيو 2019 ، منها نأخد قوله بأن البعض كان يرى في الممارسة المسرحية للطيب العلج [ تكريسا للنموذج ” الشعبوي” الذي سعى الاستعمار الفرنسي ، غرسه في التربة المغربية ] .غير أنه وللانصاف نقول وبحكم طغيان النقد الاديولوجي وسيادة الرؤى السياسية في تقييم الأعمال الفنية ، فإن أعماله الدرامية [ لم تنل نصيبها من النقد ( … ) وتمت خندقته في بوتقة التابع للمؤسسة الرسمية ] هذا في الوقت الذي يذهب البعض بعيدا ويرون أنه ينتمي إلى حزب الشورى والاستقلال . وحسب علمي الشخصي ، فإنه لا توجد أي وثائق أو مصادر رسمية تؤكد انتماءه لهذا الحزب أو ذاك . ليبقى أقرب إلى الفنان المستقل ، الذي يوظف الفن لخدمة الهوية الثقافية المغربية من منظوره الشخصي ، بعيدا عن أي اصطفاف حزبي مباشر ، عكس بعض الفنانين الآخرين الذين كانت لهم مواقف سياسية واضحة . ومع ذلك يمكن القول أنه اشتغل بشكل ضمني على قضايا اجتماعية وسياسية ، مستعملا لهجته العامية النابعة من الاوساط الشعبية الحرية ، ويعتبر هذا في حد ذاته موقفا ثقافيا وسياسيا لأنه كان بمثابة دفاع عن الهوية الوطنية ضد أي استلاب ثقافي فرنسي أو نخبوي .ولتفادي الرقابة المباشرة سيختار الأسلوب النقدي الساخر في تمرير رسائل سياسية مغلفة بروح الفكاهة .
ويضيف ” نجيب طلال “داعيا إلى ضرورة [إعادة النظر في عطاءاته الفنية وانتاجاته المسرحية ، التي تقوم على تعرية الواقع المجتمعي وكشف عيوبه وسلبياته وأمراضه، إذ لا يمكن لأي أحد أن ينكر مساهماته المتعددة وحضوره الوازن وأعماله التي تميزت بجدلية التمسرح ، وذلك بواسطة قراءات متأنية وتأملية ترتبط أساسا بمنظور نقدي – فاعل ومتفاعل – والحياة الإجتماعية المتحكمة في شخوصه ، كسلطة ضاعطة للكتابة عنها وحولها ، مغلفة جوانية التقاليد والحكايا الشعبية والأسطورية ، كرؤية لما يفرزه الواقع المجتمعي من مظاهر وظواهر سلبية كالنفاق والغش والكذب والمخادعة والتسلط ، الذي تمارسه الطبقات الترية ]
ونختم قولنا بأن ” الطيب العلج ” يبقى :
هو صوت البساطة الراقية .
هو الفنان الذي تميزت نصوصه بالعمق الإنساني المكسو بلغة ساخرة ناقذة بمحبة جلية .
هو المنشغل بالناس وحياتهم اليومية ، الميال إلى الإستماع أكثر من التكلم .
هو الحريص على خروج المتتبعين من المسرح وهم يضحون ويفكرون .
ومع ذلك فإن تجربته لم تنل حظها من الدراسة المنصفة والبحث الأكاديمي .

أحد رواد المسرح المغربي ، انطلقت مسيرته في خمسينيات القرن الماضي ، بتأسيس فرقة ” مسرح البدوي ” بمشاركة زوجته وأخيه ، فغدت أشبه ماتكون ببيت فني، يُنتج ويُعْرِض ويجول بدءا من 1965 وحتى 1995. وبعد خلاف داخلي سيهجر المخرج عبد الرزاق البدوي وآخرون هذه الفرقة. ومع ذلك ظلت محافظة على إعطاء نوع من الاستمرارية للمسرح المغربي إلى أن وافته المنية، ليترك وراءه ارثا مسرحيا هائلا، يُعد بحق مرآة صادقة لتحولات المغرب الإجتماعية والسياسية.
وعن تجربته الإبداعية نقول بأنه راهن- منذ البداية – على اعتبار المسرح أداة للوعي الجماهيري، فاتجه نحو تأسيس مسرح شعبي واقعي يعكس قضايا المواطن البسيط، مقدما عروضه بلغة عامية لا تخلو من حمولة درامية وحس واقعي في التناول، مع الوفاء الكبير لمكونات الفرجة الشعبية، وممثلا برؤيته الفنية النضالية صوت الشارع، ساردا حكايات الناس، مُعَرِيا الاختلالات وزارعا الأمل فوق الخشبة، مخلدا الفعل المسرحي باعتباره أداة لمقاومة اجتماعية حقيقية. وتبقى تجربة البدوي علامة متفردة ومثيرة في تاريخ المسرح المغربي بمسيرته السياسية الصاخبة وخطاباته المسرحية المميزة ولغته الاحتجاجية ونضالاته من أجل الحقوق المشروعة.
وفي هذا الإطار يتساءل “محمد أديب السلاوي” – جريدة هسبريس 16. 7 . 2019 – عن [ القضية التي أخذت باهتمام هذا المسرح في هذه الفترة من التاريخ ؟
هل هي قضية العامل المطرود، المظلوم المقهور، في صراعه مع “الراسمالية” الجاثمة ؟
أم هي قضية حقوق هذا العامل في الحياة والمواطنة ؟
أم هي علاقة هذا المواطن بالديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون التي يحلم بها منذ بداية صراعه مع واقع الإستقلال ؟] .
وعليه فلا عجب إن جاءت أعماله مشبعة بروح الواقعية النقدية، المتكئة على اللهجة العامية القوية، المبلورة في عروض تُستَلْهم من الفرجة المغربية الأصيلة، دون اغفال للبعد التوعوي والجمالي، سيما وأنه ابن المدرسة الشعبية، حامل الهم المسرحي الملتزم بمختلف القضايا الإجتماعية. فكان قد افتتح ربرتواره بمسرحية “العاطلون”، في وقت طُبِعَ بتراكم البطالة، وقوة نفوذ الاحتكارات الأجنبية والإقطاعية، فجاءت هذه المسرحية / الصيحة، موفقة في فضح الاتجاه الرجعي، داعية إلى الإعتراف بالحقوق الشرعية لطبقة البروليتاريا البائسة . ويضيف “محمد أديب السلاوي “
قائلا [ … وتأتي مسرحية شجرة العائلة التي تعتبر قفزة نوعية في الكتابة الدرامية عنده ، لتعززها مسرحية رأس الدرب التي تصور الجيل الثاني ، الذي ورث عن الأباء ، الفاقة والعوز والبطالة والفقر ، وورث عن المؤسسة الإجتماعية التهميش والتغييب والظلم . وعن المؤسسة التعليمية ورثوا قرارات الطرد (…) فجعلت الجمهور على وعي أصيل بما يجري في الدروب الخلفية الفقيرة ] . ومن خلال توقف سريع عند بعض عناوين أعماله المسرحية ، يتضح أن هناك خيطا ناظما مميزا لكل مواقفه وحواراته وشخصياته ، ويبقى هو المتحكم في البناء المسرحي عنده ، مصنفا له – كما يقول ” محمد أديب السلاوي” – [ ضمن خانة “مسرح الاحتجاج” الذي يضعنا أمام نماذج قلقة من هذه الطبقة التي تحمل وعيها التاريخي على صدرها كإرث قديم ، وتصيح بأعلى صوتها معبرة عن ذلك القلق الدفين المتزامن مع وعيها ، وتعبر بكل الأدوات الممكنة عن يأسها وعن مطامحها ومطالبها ، مرة بالإشارة الكاريكاتورية الفجة ، وأحيانا بلغة البيانات والشعارات النقابية والحزبية المتفجرة على القلق واليأس ] . وهو مايفسر لنا التزام تجربة البدوي المسرحية بالجدية والالتزام بالقضايا الوطنية والاجتماعية، وسعيه إلى توظيف المسرح للتوعية والنقد البناء، والمزج بين الأسلوب الواقعي والبعد الرمزي واستلهام مضامينه من تاريخ المغرب وثقافته الشعبية . مُولِيا أهمية كبرى للبعد السياسي في أعماله المسرحية ، متناولا قضايا التحرر، الهوية ، العدالة الإجتماعية … ببساطة في الشكل، وعمق في المضمون الشيء الذي يجعل مسرحه قريبا من الجماهير ومؤثرا في المشهد الثقافي بصفة عامة . وفي إحدى حوارات ” مسعود بوحسين ” مع الجزيرة نيت، يقول [ إن البدوي اشتغل على المسرح الاجتماعي، وكان يتعرض في مسرحياته على وجه الخصوص لقضايا الطبقة المتوسطة والمشاكل العائلية (…) وهو صوت متميز ومختلف من أبناء جيله من الرواد ، فإذا اهتم مسرح الطيب لعلج بالجوانب الشعبية في الثقافة المغربية، وتناول الطيب الصديقي – كما سنرى في نهاية الورقة – التراث والمسرح التجريبي فإن خصوصيات
مسرح البدوي ، تتحدد في الإهتمام بالبعد الإجتماعي ، والجمع في مسرحياته بين الجدية في الطرح والصراع الدرامي ] . وخلال مسيرته الفنية حافظ على شق طريقه بالصبر والعناد، فاستحق صفة “عِنادُالمسرح “، رافضا التنازل عن مبادئه مرددا ما معناه : إذا لم يسمعك السوق، فتأكد أن العرض ناقص.
المختار عنقا الإدريسي
يتبع