المسرح المغربي: الصديقي/ لعلج/ البدوي

المسرح المغربي: الصديقي/ لعلج/ البدوي
ذ. المختار عنقا الإدريسي

الثالوث الذي خدم المسرح المغربي 

نواصل نشر ورقات متتاليات عن المسرح المغربي بقلم الاستاذ عنقا الادريسي،  
نترككم لمتابعة الورقة المكملة لسابقتها…  – ألوان
3    الطيب الصديقي 1939 – 2016
صانع الفرجة وباني الجسر بين الأصالة الفنية والمعاصرة الابداعية
الطيب الصديقي هو أحد أشهر الفنانين العرب ، وأبرز الكتاب المسرحيين في القرن العشرين ، بدأ اهتمامه بهذا الفن في سن مبكرة ، وبعدها انتقل الى فرنسا حيث درس في المعهد العالي للفن المسرحي بباريس ، وتأثر بالعديد من الأساتذة والفنانين الذين ساعدوه على صقل موهبته وبناء تجربته المميزة ،  وخلالها كان قد اطلع على رؤية وتجربة ” جون فيلار ” القائمة على تبسيط الديكور والتركيز على أداء الممثل ونص المسرحية ، وتأثر بها بعد أن وجد فيها ماينسجم مع طموحه في تطوير المسرح المغربي الشعبي الهوية ، الحداثي الشكل والتقنيات ، فسعى الى جعل الفن جماهيريا موجها لكل الناس ، وليس حكرا على النخبة فقط . الأمر الذي أضفى على  أعماله جاذبية خاصة ، وتتبث حضورها العالمي وقدرتها على التنافس المستند الى مشروع مسرحي تأصيلي ، يوظف التراث توظيفا أفقيا ، بعد أن يحوله إلى مادة حاملة لخطاب جديد . ومع ذلك فإن تجربته الإبداعية عرفت الكثير من الملاحظات ، نسوق منها ماكان قد أشار اليه “حسن المنيعي” في قوله :
[ اذا كانت عروض الصديقي ترمي اقناعنا من وجهة نظره الخاصة، أي من خلال مسرح رؤيوي يبحث عن اللمسات الجميلة التي تثير الانبهار في أعماق المتفرج ، فإن النصوص التراثية التي قام باعدادها ومسرحتها ، [ المجذوب( 1967 ) ، المقامات ( 1971)، أبو حيان التوحيدي  (1984)  ، الامتاع والمؤانسة ( 1984). ] قد أثارت  العديد من الانتقادات ، لأنها لم تتعامل مع التراث إلا من منظور فوقي لا يتقصى حقيقته الجوهرية ، ولا يسبر غور المجهول لفك ألغازه واستنطاق مكنوناته ، وإنما يلتزم بمبادىء التناول الميكانيكي ، كما هو الشكل في مسرحية ” سيدي عبد الرحمان المجذوب ” ، التي غرقت في جمالية الشكل، دون أن تحمل في طياتها شحنة معاصرة، تدفع بالحدث التاريخي إلى توظيف لغة استعمارية للابانة عن دلالات عصرية، أو رؤية متكاملة عن وظيفة المثقف العربي].
لنخلص بعد ذلك الى أن تجربة الطيب الصديقي المسرحي ، تميزت بالمزج مابين الفرجة  الشعبية القائمة على “الحلقة” و “البساط “واستثمار فن الحكي  والموسيقى والشعر الشعبي، بهدف استنبات بنية مسرحية قائمة على مسرحة التراث في قوالب فنية احتفالية، تشد المتابع بنكهاتها المغربية المتأصلة، وتجمع مابين بلاغة الكلمة وشدو الأغنية، وحركات الأجساد الأخادة مما يجعل ابداعاته مغربية الهوية، ذات طابع فكري وجمالي، يجمع ما بين الأصالة والتجديد. وانسجاما مع هذا المنحى، ومن ” مقامات بديع الزمان الهمداني ” ( القرن الرابع الهجري )،  كتب الصديقي نصا مسرحيا رائعا أخرجه ولعب فيه دور ” أبي الفتح الاسكندراني”. وكما تقول مروة صلاح متولي في جريدة القدس العربي بتاريخ  5 .9 . 2022 فإن إيقاع  هذه المسرحية [ يقوم على التقسيم والتتابع والاحتفالات من واقع إلى واقع آخر، ومن الدخول إلى كتاب المقامات إلى الخروج منه، ومن خيال حكاية ما، إلى خيال آخر في مكانة أخرى (…) حتى عند مشاهدة المسرحية الآن، قد يشعر البعض بأنها ليست بعيدة عن الواقع الحالي]. جاعلا المكان الذي تدور به أحداث عمله المسرحي مفتوحا ، لدرجة أن أحد ممثليه – كما تقول ” مروة صلاح ” – يرى بأن مكان العرض [يمكن أن يكون ساحة الحلفاويين في تونس الخضراء ، ويمكن أن يكون ساحة هارون الرشيد العراقية ، أو العتبة النيلية، أو ساحة الهنود الشامية، أو ساحة جامع الفنا المراكشية]، وهي بذلك تكون ساحة ممتدة من الماء إلى الماء بين كل  الأقطار العربية. متخدة منها موقعا ومكانا لمختلف الأحداث، في زمان ضارب في القدم، حيث يجري اللقاء المتخيل بين  “عيسى ابن هشام ” و  ” أبي الفتح الاسكندراني”، عندما أنكر معرفته به بعد أن وجده قًرًّادا في الساحات، فرد على ابن هشام بقوله : ( اعمل أهبل، تربح وتنجح ) مصورا شخصيته باعتباره مثقفا بائسا، أحبطه المكان العربي بواقعه الأليم . وعن قصة مسرحه وتجربته الابداعية، يقول الصديقي أنه يبحث عن مسرح – حسب  ما أورده “حسن حبيبي” في كتابه ” الطيب الصديقي، “قصة مسرح” الصادر عن دار النشر المغربية في 2011 ، ص171 ” – 
فيقول عنه أنه [ يمتح ويتفاعل مع معطيات المسرح الغربي، ولكن باستطاعته أيضا أن يؤسس صيغته المستقلة، لذلك فكر في اللجوء إلى التراث بكل أشكاله، سواء كان تاريخا أو شكلا مسرحيا، وفي غمرة هذا التوجه تولدت لديه نزعة شكلية في الجسد المسرحي المغربي على حساب المضمون، الذي فتح المجال أمام توظيفات فنية للأشكال ما قبل المسرحية كالحلقة، البساط والفنون الشعبية، الملحون والتهاليل ].
وفي الختام أجدني مضطرا إلى استحضار ما كتب عن تجربته ، من طرف ” سعيد كريمي ” في مجلة دراسات الفرجة بتاريخ 5 . 8 .2024 ، تحت عنوان ” الطيب الصديقي : استلهام التراث ولمسات   مرجعية لمسرح القسوة ” ، [ لقد سقط الصديقي في بعض أعماله ، في شرك تقديس ماهو ماضوي وتمجيده ، دون محاولة تحليله وخلخلته . ولعل السبب في ذلك يعود بالأساس إلى اختياراته الفكرية والمعرفية (…) وموقفه الاديولوجي المهادن والمشاكش في بعض الأحيان !  ]
بل هناك من يذهب إلى القول بأن اهتمامه المتزايد بالجوانب الشكلية ، يبقى  له الأثر الاني في المتفرج ، فينتهي بمجرد انتهاء العرض ، ولا يولد لديه أي طرح فكري ناجح للتراث ، لأنه بعيد عن كل قراءة نقدية تعالج قضايا العصر من خلال الماضي . وهذا جميعه لا يمنعنا من القول بأن الصديقي هو فيلسوف المسرح ، وسيد المزاوجات ، الذي يرى بأن المسرح لا يكتب بالقلم ، بل يكتب بالجسد ، بالصوت  وبالروح . لتبقى تجربته علامة بارزة في الربرتوار المسرحي العربي عامة والمغربي خاصة .
 4   عن التقاطع بين الفني والسياسي عند هذا الثالوث المسرحي
لقد شكل هذا الثالوث مدارس متكاملة وغير متناقضة ، يمكن أن  نجمل تقاطعاتها في خلاصة مركزة عند كل مهم ، فيما يلي :
1.4  إذا كان الطيب لعلج قد خاض في الهم الشعبي، واختار أبطاله من الحرفيين، التجار، البسطاء، الذين  يرتادون  الأسواق والمقاهي، فجاء مسرحه نابضا بايقاع المدينة، سريعا، فوضويا، موشوما بالسخرية، راصدا لمختلف التحولات الإجتماعية والإقتصادية، متأملا فيها، مما أهله  لينجح في تحويل الحياة اليومية إلى دراما حولت خشبتة مرآة للناس، ولغته جسرا بينهم وبين الفن، وانشغالاته شلالات متدفقة بالحياة في تقلباتها ومفارقاتها، تستعمل لهجة عامية، دفاعا عن الهوية المغربية ضد الإستلاب الثقافي الفرنسي أو النخبوي. وتفاديا لكل رقابة مباشرة، مما أهله لاعتماد النقد الساخر والقائم على تمرير رسائل سياسية مطبوعة بالروح الفكاهية والطعم الهزلي. وتأسيسا على ماتقدم يبقى لعلج فنانا مستقلا، ينهج في  أعماله النقد الإجتماعي اللطيف، وليس السياسي المباشر. 
4 . 2  أما عبد القادر البدوي فقد سخر الركح كمنصة للمقاومة الفكرية والثقافية، بعد أن جاء من الهامش الشعبي جاعلا من المسرح سلاحا في يد الجماهير، يحدوه الإيمان بأن الممثل ليس لذاته فقط، وإنما هو صوت الجماعة دون أن يفصل بين السياسة والفن، فتحول المسرح عنده إلى ساحة للمرافعات وشكلا من أشكال النضال المدني، وجعل عروضه المسرحية واجهة للمقاومة الفنية والتنوير الفكري والنقد الإجتماعي المباشر، فبقي قريبا من الخط الوطني الديمقراطي المهووس بالدفاع عن قضايا الفئات المهمشة. 
4 . 3  منذ البداية انطلق الطيب الصديقي من مرجعية فكرية وفنية خاصة، متأثرا فيها بالحركة المسرحية الفرنسية، ومستندا إلى الجذور الفكرية – محليا وعربيا – ، بهدف تأسيس مسرح مغربي الهوية يمزج بين الحكاية والفرجة البصرية، مهووس بالعرض الفني المتكامل، القائم على الابهار من حيث الحركة، الملابس، الديكور، الموسيقى، الإضاءة، والاستخدام الموفق والذكي للفضاء الركحي، المتحرك فيه والمتفاعل من خلاله مع الجمهور، بايقاعات سريعة ولغة قوية موزونة جعلت مسرحه ملتزما، مسرح فرجة تحرك العقل والوجدان. الأمر الذي يفضي الى القول بأن توجهه كان ثقافيا تجديديا، يجعله أقرب إلى الفكر التقدمي، رغم أنه لم ينتم لأي حزب سياسي معين، حيث ظل منشغلا بالبحث عن الهوية الثقافية الوطنية، عو ض أي اصطفاف  سياسي.
وبذلك يكون كل واحد من هذا الثالوث قد خدم المسرح المغربي من زاويته. فالصديقي بنى ” مسرح الهوية “، بالاعتماد على التجريب الفني بينما أسس البدوي مسرح المقاومة ” عبر الإلتزام السياسي في حين نجد أن لعلج  صنع ” مسرح الحياة ” من خلال محافظته على الروح الشعبية.
وباجتماع تجاربهم تكتمل صورة المسرح المغربي المحترف الحديث، كمشهد يتنفس من أعماق الواقع، ويصعد بالفرجة نحو أفق السمو الجمالي والإتزان الفكري.
وختاما نقول انهم ثلاث أصوات يشكلون لحنا فنيا مبهرا، ولا يمكن إلا ان نكون فخورين بما حققوه – وغيرهم – من  تجارب مسرحية مؤثرة على الثقافة العربية عامة والمغربية خاصة .  

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *