الاحتفالي… المعلم الذي مازال يتعلم

الاحتفالي… المعلم الذي مازال يتعلم
           عبد الكريم برشيد

المسرح ليس فرجة… بل مساءلة.

فاتحة الكلام:
انا الاحتفالي أحسن فعل الكتابة، وأحسن فعل القراءة ايضا، وأحسن فعل الكلام الذي له مبنى وله معنى، وأحسن الصمت المتكلم باللغة الفردوسية، كما احسن الانصات الى المتكلمين العارفين، ويقول ذ. عصام بابو، في تعليقه على المقالة السابقة من هذه الكتابة الاحتفالية ما يلي: (عندما يصبح المسرح لغة شاملة، متعددة الأبعاد، تنم عن عمق فلسفي و ظواهراتي، فهذا مسرح احتفالي هو، عن وعي أو غير وعي بهذا التصور..
(تحياتي لك الدكتور المبدع الطيب عبد الكريم برشيد..)
نعم، المسرح لغة شاملة ومتكاملة، وهو في ظاهره شكل فني لتقنيات فنية متعددة، ولكنه في عمق اعماقه خطاب فلسفي يعبر عن رؤية مركبة للوجود والحياة و للتاريخ، وفي كلمة ذ، عصام، حول معنى المسرح، نجد أنفسنا امام اجمل تعريف واسرع تعريف وأصدق تعريف و ابلغ تعريف، والمسرح فعلا هو لغة شاملة، او هو لغات في لغة واحدة، هو لغة اساسها التعدد والتنوع و التجدد والتمدد في العقل الفلسفي، وفعلا، فإن كل من يمارس فعل هذا المسرح، بشكل حيوي وبوعي فكري وجمالي، هو بالضرورة احتفالي ( عن وعي او عن غير وعي) وبهذا فقد امكن لنا ان نقول ما يلي، ان وجود مسرح بلا احتفالية ليس مسرحا، ووجود مسرح خارج كل شروط التعييد الاحتفالي لا علاقة له بالمسرح، ووجود مسرح يحكي حكيا رماديا، بلا حياة وبلا حيوية وبلا امتاع جمالي وبلا اقناع فكري هو مجرد خطابة جافة و ميتة و محنطة. أما ابن المسرح البار، كما يسمي نفسه في تعقيبه، ذ. سعيد ودغيري حسني، فقد قال ما يلي: (سيدي الشيخ الكبير عبد الكريم برشيد
أخاطبك اليوم لا من موقع التلميذ الذي لا يزال ينهل من معين مدرستك، بل من موقع الرفيق في الحلم. الحلم الذي جعل من المسرح حياة أخرى، ومن المرآة حجة وجود)..
وانا رجل التعليم الذي كان وما يزال، والذي مارس المسرح عشقا و هواية، قد كان دائما تلميذا بين تلامذته، يتكلم وينصت، ويعرف متى ينطق ومتى يسمع، ولقد اعتبرت (تلامذتي) بمثابة اخوتي واصدقائي و رفاقي في عشق المعرفة وفي محبة الحكمة ، ولقد امنت دائما بان رفقة الحلم ليس كمثلها شيء، وبأنه لا شيء اجمل من ان نسير في طريق المعرفة، محبة في المعرفة، وان نجد في الناس من يقتسم معنا نفس الطريق، ومن يقتسم معنا نفس الفكرة الصادقة، ومن يقتسم معنا الفرح، ومن يقتسم معنا الرؤية والرؤيا،
ويقول ذ. سعيد ودغيري ايضا: ( قرأت كلماتك الأخيرة كما أتابع دومًا ما تكتبه وفي كل مرة أزداد يقينًا أن الاحتفالية ليست مجرد نظرية عابرة أو مغامرة أدبية. لقد كانت وما تزال مقامًا فكريًا وروحيًا يعيد ترتيب علاقتنا بالإنسان وبالزمن وبالمسرح)
نعم، هكذا ارادتنا هذه الاحتفالية ان نراها، اي ان تكون وعيا معرفيا، وان تكون درجة عالية في الحياة، وان تكون (مقاما فكريا روحيا) وان يكون من مهامها ان تعيد ( ترتيب علاقتنا بالإنسان و بالزمن والمسرح) وقبل كل هذا، ان تعيد ترتيب علاقتنا بذواتنا اولا وقبل كل شيء
ولقد قال الكاتب ايضا: (حين قلت “تعب مني التعب” أدركنا أنك أنت ذلك التعب الجميل، التعب الذي لا يرتاح لأنه يعرف أن الراحة خيانة للجمر وللسؤال.
صدقت يا سيدي، فالمسرح ليس فرجة، بل مساءلة. ليس استهلاكًا، بل طقس يطهّر الروح ويعيد بناء الإنسان من الداخل. وحين تسأل “ما المسرح؟” فإنك لا تطلب تعريفًا بل توقظ فينا القلق الجميل الذي يفتح أبواب المعرفة)
نعم، هو المسرح طقس احتفالي، وهو تعبيد فكري وروحي ووجداني، قبل ان يكون طبلا و زمرا و رقصا وغناء، ونحن نحياه بصدق دأئما، لا نتفرج فيه على ما نقول وعلى ما نفعل، لأن الأساس هو ان نقول وان نفعل وان تتفاعل وان ننفعل وان نحلم، وان ننسى بأننا مجرد فرجة، فيها الفاعل الذي يصنع الفرجة، وفيها المتفرج الذي يستهلك هذه الفرجة، والأساس هو ان نتقن صناعة الفرحة، وليس فقط ان نتقن صناعة الفرجة، وبغير هذا فإنه لا معنى لان نتحدث عن رسالة المسرحي ولا عن شرف المسرحي
وفي نفس هذا التعقيب يقول نفس القائل الكاتب : (أكتب إليك لا لأمدحك، فمثلك فوق المديح، بل لأقول لك بصوت القلب إننا مازلنا على العهد. نراك في مرايا الركح و ظلال الضوء وصرخات الممثلين الباحثين عن المعنى.
دمت لنا شيخًا و معلّمًا وصاحب رؤيا
ودمت للاحتفالية شمسها التي لا تغيب.
ابن المسرح البار..
سعيد ودغيري حسني)

حدود الاحتفالي في كون لا محدود

لقد سالوا جلال الدين الرومي السؤال التالي:
نراك تقرا كثيرا، فماذا عرفت يا مولانا، فقال لهم، عرفت حدودي، وليس سهلا ابدا ان يكون لك وجود، وان يكون لك في هذا الوجود حدود، وان تعرف إلى اي حد تصل هذه الحدود.
وانا الاحتفالي، في هذا الكون الاحتفالي، وانا الكتاب القارئ الذي رايت ما رايت، والذي عرفت ما عرفت، تواجهني في حياتي وفي حياة مسرحي أسئلة كثير من كثير من السائلين، وتقول لي:
– وماذا رأيت ايها الاحتفالي؟
– وهل فعلا رأيت ما رأيت، ام إنه فقط خيل لك وانت لا تدري، او انك لا تريد ان تدري ؟
واشهد بأنني فعلا رأيت، و بانني فعلا عرفت وادركت، و بانني مثل ذلك الذي قال فيه ابو نواس:
قل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك اشياء.
واعترف بأن ما صعب علي ان أراه، وأن ما استحال علي ان ادركه، هو الأكبر وهو الأخطر وهو الأصدق بكل تأكيد.
وانا في مجال هذه المعرفة اعرف حدودي جيدا، مثل مولانا جلال الدين الرومي، واعرف اين اقف، واعرف وجهتي. واعرف طريقي، واعرف من يقتسم معي الطريق، وأعرف من يقتسم معي جمال الفكرة، ويقتسم معي حب الحياة والأحياء وعشق المعرفة.
ولمن يهمه ان يعرف جغرافيتي المعرفية، فانني أقول له ما يلي:
في الشمال يحدني الجهل وفي الجنوب تحدني الأمية
وفي الشرق يحدني الغموض، وفي الغرب تحدني الحيرة والشك
ومن فوقي يحاصرني الجهل ايضا، ومن تحتي لا وجود إلا للجهل
ويبقى ان اقول لكم، بان كل فتوحاتي هي مجرد صراع مع الظلام ومع صناع الظلام، ومع الغموض ومع كل تجار الغموض، ولم يكن هدفي هو ان انتصر انا، بل كان غرضي هو أن تنتصر الحقيقة، وان تنصر إنسانية الإنسان، وان تنتصر حيوية الحياة، وان تنتصر مدنية المدينة، وان تنتصر جماليات الجمال
وأنا ذلك الكاتب الذي كتب كتابا و أعطاه اسم ( انا الذي رأيت) ولقد كان ضروريا ان اجد في الناس من يسالني السؤال التالي
(انت الذي رأيت، ماذا رأيت؟)
وفي مقدمة هذا الكتاب اقول ما يلي: (هو الذي راى كل شيء)
هكذا تحدث الراوي عن غلغامش في ملحمته السومرية القديمة، نعم، هو الذي راى كل شيء، لأنه بطل ملحمي عاش في الزمن الملحمي، اما انا، ولأنني من الناس البسطاء وليس من زمن الأبطال ولا من انصاف الآلهة، فما رأيت ـ في كل مسيرتي العمرية والابداعيةـ إلا بعض الاشياء القليلة جدا، ولهذا فقد اخترت ان اعطي هذا الكتاب عنوان ( أنا الذي رأيت)
وبالنسبة لهذا الاحتفالي، والذي راى شيئا وغابت عنه أشياء كثيرة، فإن كل شيء يبدا ( من عين سحرية، عين رأت ما رأت، ومن اذن مرهفة سمعت ما سمعت، ومن قلب كبير وعى ما وعى، ومن يد ساحر كتبت ما كتبت، ومن ذاكرة حية سجلت ما سجلت، وايضا، من نفس إنسانية رقيقة وشفافة؛ نفس استغربت امام كل غريب، و اندهشت امام كل مدهش، ولقد تساءلت امام كل الناس وامام كل الأشياء ، وكل شيء يبدأ ايضا من روح تفاعلت مع الأرواح الأخرى، و انفعلت امام الأيام والليالي التي مضت، ولكن بعد ان حفرت في النفس مجرى عميقا، وبعد ان اصبحت وشما على جسد الحقيقة والتاربخ)

عين واحدة في عوالم متعددة لا تكفي

في البدء كانت الرؤية إذن، وكان الرائي، وكانت الكتابة، ومعهما كان الكاتب، ومع هذا الكاتب كان القارئ الشريك، وكان الصديق والرفيق في الطريق، وهل يمكن أن يكون للكتابة معنى بدون هذا الذي نسميه القارئ؟
والأصل في هذا الكاتب أنه عين ترى، وأنه قلب يحس، وأنه عقل يعي، وأنه أذن تسمع، وأنه مخيلة تتصور الصور، وتركب المشاهد والحالات، وأنه حدس يدرك الوقائع عن بعد بعيد جدا، أما إذا وقعت هذه الوقائع في الواقع، فإن الأمر يصبح من اختصاص الصحفي والإعلامي و الإخباري والمؤرخ وليس من مهام الكاتب المبدع، وأومن بأن هذا الواقع الاستثنائي اليوم، بكل تعقيداته وتشعباته الغامضة والملتبسة، هو أكبر وأخطر من أن تدركه عين واحدة، أو أن تحسه حاسة واحدة، أو أن يفسره علم واحد، أو أن يستوعبه فن واحد، أو أن يترجمه فكر واحد، ولهذا فقد قلت في كتابي ( أنا الذي رأيت) ( لقد رأيت، واقتنعت أيضا، بأن كل عيوني لا تكفي.. عيوني البرانية والجوانية معا، وعيوني الظاهرة والخفية أيضا.. هي كلها قاصرة أن تحيط علما بكل شيء، وأن ترى الصورة وما خلفها، وأن تعرف معنى أي شيء، وأن تدرك سر كل شيء، ولهذا فقد استعنت بعيون الآخرين من شيوخي ومن أساتذتي، ولقد استعرت منهم بعض ما رأيت، واقتبست شيئا مما علمت، وقرأت كثيرا مما كتبت ومما أبدعت، ولقد وجدت كل هذا في كتب الآخرين، وفي شعر الشعراء، وفي أسفار المسافرين، ولهذا أجد نفسي اليوم ملزما بأن أقول الحقيقة البسيطة والعميقة التالية، وهي أن كثيرا مما رأيت، لم يكن إلا تذكر او استظهار او تخيل او توقع او تنبؤ ..
وبهذا فقد كان علي ان اكون معلما وتلميذا في نفس الوقت، وان اكون العارف الذي لا يعرف إلا حقيقية واحدة، وهي انه لا يعرف، وانه ما اوتي من العلم الا قليلا، ولولا هذه الحقيقة ما كان ممكنا ان اواصل طلب العلم والمعرفة كل هذه السنوات الطويلة، ولو امنت بانني اعرف، ما بقيت كل هذه السنوات اواصل صوغ السؤال بعد السؤال وأواصل السفر في عقول العاقلين ولا أطلب الحكمة في حكمة الحكماء، وفي نفس هذا المعنى تقريبا يقول كارل بوبر (يبدا العلم بمعرفة الأساطير ونقدها)
وهل من لا يعرف الظلام يمكن ان يبحث عن النور؟
وهل من لا يعرف الأسطورة وحدودها يمكن ان يؤسس فكرا او يؤسس علما او بوسي فنا؟
ومن لا يسكنه الجهل وتسكنه الأمية، هل يمكن ان يسعى الى المعرفة؟
اما الحكيم الساخر برنارد شو فقد قال:
(احذر من العلم الزائف فهو اخطر من الجهل) ولهذا فانا الاحتفالي اقول دائما، بان وجود ورقة بيضاء، يمكن ان تكتب عليها حقائق صغيرة وبسيطة احسن آلاف المرات من اوراق كثيرة مكتوبة ومحشوة بالأفكار الخاطئة والزائفة والمضللة)

الاحتفالي المبتدئ في مدرسة الحياة الابتدائية

يقول الحكواتي الاحتفالي، بلغة الحكي السرية والسحرية ما يلي:
ما اجمل ان تكون انسانا بين الناس، وان تكون مواطنا كونيا كامل الإنسانية
وما اصدق ان تعيش مع الناس على الأرض، وان تطير مع الطيور في السماء، وان تدخل كل العوالم البعيدة بغير جواز وبغير تاشيرة، وألا يكون لك ومعك إلا ظلك وخيالك
وان تحلم من غير ان تغمض عينيك، وان تسافر من غير ان تمطي جوادا ومن غير ان تركب عربة
وان تكون شفافا كالزجاج، وان لا يحجبك عن الحق والحقيقة وعن الجمال حاجب
وان تكون رقيقا و دقيقا مثل شعرة
وان تكون واضحا كالشمس في الضحى
وان تكون سريعا مثل ومضة البرق
وان تكون بيتا تسكنه ويسكنك، وان يكون هذا البيت بلا سقف وبلا جدران، وان يكون كله نوافذ وكله شرفات معلقة في الفضاء
وان تكون كلها مفتوحة على الأرض وعلى السماء، وعلى كل الناس والأشياء…
وهذه الكتابات الاحتفالية ليس لها حجم واحد مجرد و محدد، وهي تكبر في القراءات الكبيرة، و تصغر في القراءات الصغرى، وهي رائعة في النفوس والأرواح الرائعة، ولكنها ضيقة في النفوس وفي الأرواح الضيقة، وهي في القراءة الواحدة لا يمكن ان تعطيك إلا معنى واحدا، وكلما تعددت و تمددت وتنوعت فيها القراءات إلا وتعددت وتنوعت وتجددت فيها المعاني، وبهذا فقد كنت في هذه الاحتفالية تلميذا، وكنت المعلم الذي مازال يتعلم ..

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *