الحكواتي الجديد بين الحكمة والبسمة


يحظر الحكواتي…وتحضر معه فلسفة الخلق الفني..
فاتحة الكلام:
الشاعر والباحث والمخرج الاحتفالي عبد المجيد فنيش، وتعقيبا على.المقالة السابقة من ديوان هذه الكتابة الاحتفالية، قال ما يلي:
(ما شاء الله . ما ابهى تناغم المعنى والمبنى؛ في مزيج سحري لا فض فوك؛ و لا جفت ريشتك)
نعم، هو الجمال تناغم و تكامل، وهو توازن و تقابل بين مكونات متعددة ومتنوعة، وكذلك هو الإبداع الاحتفالي دائما، سواء في الكتابة الحيوية، أو في الإبداع الأدبي والفكري والجمالي والعلمي الحي، مثله في ذلك مثل الزليج المغربي، جوهره التناغم و أساسه التفاهم، و أساسه التكامل، من اجل صناعة كل شيء ساحر وجميل ومبهر ، وذلك في كون تتكامل فيه مظاهر و ظواهر مختلفة؛ في شكلها وفي موقعها وفي لونها وفي حجمها وفي كثافتها وفي جرسها وموسيقاها وفي لغاتها الناطقة والمرسومة ، وهي لا يمكن ان تكشف عن جمالياتها إلا وهي سمفونية صوتية مركبة؛ تتقاطع فيها الإيقاعات والنغمات و تتحاور، او وهي فسيفساء لونية وضوئية ساحرة و مبهرة، وهذا هو حال الكتابة الاحتفالية، والتي هي كتابة حيوية، فيها شيء من عبقرية العقل وفيها شيء من سخاء الوجدان والروح، وهي تقول المعنى في جمالية، وتؤكد على أن الجمال هو اصدق وابلغ كل اللغات، وعلى ان ما هو ممتع جماليا، هو مقنع عقليا زفكريا بالضرورة، وهذا هو السر في ان تظل هذه الكتابة الحيوة قريبة من النفوس ومن العقول ومن الأرواح الحية.

و للحقيقة والتاريخ اقول اليوم وغدا وفي كل يوم ما يلي: هذه الكتابة الاحتفالية لست انا من كتبها، وقد تكون هي التي كتبت نفسها بنفسها، من حيث ادري او لا ادري، ولست انا من اوجدها، ولا انا من اوجد لغتها الفردوسية، ولا انا من اوجد بلاغتها وسحر بيانها، و بالتاكيد فهي كتابة انكتب في لحظة صحو عقلي، وفي لحظة صفاء وجداني وروحي، وهي تنتمي إلى شجرة الكتابة الاحتفالية، والتي لها وجود رمزي في عوالم الاحتفالية الرمزية، ولقد أوجدتها بالتاكيد تربتها، والتي هي تربة خصبة وغنية، و اوجدها مناخها ايضا، واوجدها الكاتبون الاحتفاليون و المتكلمون و المتاملون و المفكرون بها و فيها.
هذه الكتابة الاحتفالية، هي اساسا كتابة بالصور، قبل ان تكون كتابة بالحروف و بالكلمات و بالعبارات، مثلها في ذلك مثل الأسطورة، والتي هي فلسفة مصورة في صور، و مجسدنة في اجساد، ومشخصنة في اشخاص وفي شخصيات مسرحبة، وهي بهذا بعيدة جدا عن التجريد، وهي واضحة، وبسيطة، وذلك في بساطتها الغنبة،
وهي كتابة تحيا حياتها من خلال حيوبتها، وتقول نفسها من خلال فكرها وخيالها، وهي في صدقها و مصداقبتها، لا تستعرض قوتها او مفاتنها او علمها..
يموت الحكواتي ولا يموت الحكي
اما الفنان الرائد والمؤسس زكريا لحلو، وتعقيبا على النفسين الأخيرين من هذه الكتابة الاحتفالية العاقلة و المتأملة و المفكرة فقد قال.ما يلي:
(للشهادة الجامعية قيمتها الأكاديمية و المعرفية، وللشهادة الاحترافية و الحرفية بصمتها العملية و المهنية، ولشهادة الاستحقاق و التميز قيمتها الأدبية و المعنوية.
اما هذه الشهادة فهي للتاريخ، للفخر، للاعتزاز، لنشوة العقل و الروح. هذه شهادة لا تقاس بسنوات العمل و الجد و الاجتهاد فقط بل تقاس بتوهج الروح و نبل المشاعر و ارتقاء الذوق.
كل الشكر و الامتنان أيها الحكواتي الأزلي، المربي، الملهم، المعلم، المرشد و المتجدد دائما و أبدا)
وانا الاحتفالي، الباحث عن الجميل المكتمل، يسعدني ان اجد في الشباب من يذكرني بشبابي، ومن يثبت لي بأن ما اتى اليوم، وبان ما سوف ياتي غدا، هو الأصدق، وهو الأجمل وهو الأنبل، وبان الفن اساسا نبوءة متنبئبن، وان اصدق كل الفنانين الصادقين هو الفنان العارف والعراف، والذي قد يشبه العراف ترزياس الاعمى في المسرح اليوناني القديم، والفنان الصادق ايضا، هو من يحمل للناس رسائل تفرحهم وتسعدهم وترشدهم وتمتعهم وتؤنسهم. ولهذا الجيل الجديد من الحكواتيين الشباب، ولكل الأجيال الأخرى التي مضت، والتي سوف تاتي، اهديت مسرحية (الحكواتي الأخير) سواء في طبعتها الأولى، ضمن منشورات ايديسوفت بمدينة الدار البيضاء، او في الجزء الأول من الأعمال الكاملة، والتي لم تكن كاملة، والتي ظهرت في جزئين في عهد الوزيرة الفنانة ثريا جبران، ولقد كان الجزء الثالث جاهزا للطبع، بعد ان قمت بفعل التصحيح، ولكنه بعد مجيء وزير جديد، تم سحب الكتاب الثالث من المطبعة في آخر ساعة.
ولهذا الشباب المجد و المجتهد و المجرب، قلت في ذلك الإهداء ما يلي:
(إلى كل الحكواتيين المجانين بعشق الحقيقة
إلى إخوتي احفاد شهرازاد
ضحايا سيف السياف و سوط الجلاد
إلى المتكلمين في زمن منع الكلام
وإلى المفكرين في زمن منع التفكير
وإلى المختلفين و المخالفين في هذا الزمن الصعب زمن منع الاختلاف الحكيم)
واذا كانت شهرزاد لم تمت، فلأنها عاشت الف ليلة وليلة من الحكي، وان سلطة كلماتها كانت اقوى من سلطة و سطوة السياف مسرور، مما يعني ان الحكي سلاح في نوع الآخر من المقاومة، ويمكن لهذا الحكي ان يكون صرخة ضد الموت وضد الظلم وضد القهر وضد جاهلية الجاهلين.
الحكواتي الاحتفالي: القوة الناعمة في الأزمان الظالمة:
ونحن الأحياء، في هذا الوجود الحي، قوتنا وجمالنا في ضعفنا او في رقتنا، ولقد سبق وقلنا وكتبنا بأننا قوة عاقلة، وبان أصدق كل القوى، هي القوة الناعمة، والتي قد تغيرنا، وتغير ما حولنا، برفق، من غير ان نشعر بها، ونحن في هذه الاحتفالية القوية والناعمة نؤمن بالحوار الهادئ والرصين، وفي فعل هذا الحوار نؤمن بوجود الحقيقة، والتي لا توجد في جهة واحدة من الجهات، دون غيرها، والتي لا يمكن ان ترى إلا في مرايا ذاتها، اما ما هو عندنا، او هو عند غيرنا، فهو مجرد نظر، ولقد ناضلنا دائما من اجل ان تكون وجهة نظرنا هي الأقرب إلى الحقيقة، من غير ان نقول هي الحقيقة كل الحقيقة
ونحن في هذا الحوار، لا نتهم احدا بالخطا او بالغلط او بقلة الفهم، وقد نتهم البعض بسوء النية او بسوء الظن او بسوء التقدير، ونحن لا نرفع اصواتنا فوق اصوات الآخرين، لأننا نعرف ان الصراخ ليس حجة، ونحرص في علاقاتنا على أن نكون كائنات إنسانية بسيطة وواضحة وصادقة وشفافة
ونحن بهذا مثل الزجاج الرقيق والدقبق، صعب صنعه، وسهل كسره، ولكن من الممكن إعادة صنعه مرة اخرى، وان نكون في كل مرة اقوى مما كنا من قبل، وهذا هو السر في ان كل الضربات التي تلقيناها على امتداد نصف قرن لم تقتلنا، ولم تزدنا إلا إصرارا على الصمود و التحدي، وقد تكون اوجعتنا فقط، ولفترة زمنية عابرة، ولكنها في المقابل قد جعلتنا اقوى، وذلك في مواجهة عوامل التعرية الثقافية وفي مقارعة عوامل المحو والاسئصئثال الوجودي.
ونحن في هذه الاحتفالية كانت صناعتنا، وماتزال، وسوف تبقى، هي صنع الزجاج الشفاف، والذي يظهر كل شيء ولا يخفي اي شيء، والأخرون كانت (صناعتهم) أو لعبتهم العبثية، وما تزال، وسوف تلقى، هي فقط كسر الزجاج، وهل فعل كسر الزجاج يمكن ان يكون صناعة؟ وهل كسر المرايا يمكن ان يغير شيئا من صدق المرايا الصاقة؟
ونحن في هذه الاحتفالية كنا، ومازال وسوف نبقى، مثل مولانا جلال الدين الرومي، لقد التمس من البستاني ان يعطيه وردة، فاعطاه البستاني البستان كله..
ونحن أيضا، مثل ذلك الذي طلب من الصياد ان يعطيه سمكة، فرفض الصياد ان يعطيه سمكة، واقترح عليه ان يعلمه كيف يمكن ان يصطاد كل أسماك بحار العالم، ولهذا فقد كنا اغنياء، ليس بما عندنا، ولكن بما يمكن ان يكون عندنا، وان نكون في حياتنا وفي حياة علمنا و فكرنا وفنوننا اغنياء، بخبرتنا اولا، وبما في بحار الفن والعلم من غنى، وبما في عقولنا من افكار، وبما في مخيلتنا من من مشاهد ومن صور
وفعل الإبداع الفني والفكري والعلمي شبيه جدا بصناعة الزجاج وفي المقابل، فإن من كانت صناعته النقد، فإنه لا يمكن ان يفعل شيئاً سوى ان يكسر الزحاج، وعليه فقد قال الاحتفالي ما يلي:
ان اسهل كل المهن والصناعات، هي مهنة وصناعة النقد، وان من يمتهن هذه ( المهنة) عليه ان يتذكر الحقيقة التالية، وهي ان صناعة الزجاج هي فعلا صناعة، وهي صناعة صعبة و شاقة، وفي المقابل، فإن فعل كسر هذا الزجاج هو فعل سهل جدا، وإذا كانت صناعة هذا الزجاج تتطلب خبرة، و تتطلب جهدا، وتتطلب وقتا، فان كسره لا يتطلب اي شيء، وقد يتطلب فقط شيئا من الغضب او من العبث او من الكراهية او من الحسد او من العدمية او من الظلامية.
الحكواتي:
الكتابة الاحتفالية ليست مجرد افكار وآراء و تخيلات و هلوسات وشطحات نظرية، وليست رسما تجريديا في الفراغ المطلق، وهي كتابة على الأوراق البيضاء، والتي لا تكتمل إلا في الإبداعات المسرحية الناطقة والمتكلمة على مسرح الحياة، وفي مسرحية ( شكوى المهرج الحكيم) والتي صدرت عن منشورات ايديسوفت بمدينة الدار البيضاء، يحظر الحكواتي، وتحضر معه فلسفة الخلق الفني ايضا، وتحضر حدودها، تماما كما تحظر معه الشخصيات التي استعارها من عالمها ومن كونها ومن خالقها، وفي احد حوارات هذه المسرحية، بين الحكواتي والشخصية المستعارة، والتي اعطاها اسم (نسيم) يمكن ان نكتشف العلاقة بين الواقع وما فوق الواقع، وفي الحوار التالي تلتقي الشخصية بمن يحكيها، ويكون المشهد الطريف التالي:
(يا الله .. أهذا هو أنت؟ مرة أخرى هو أنت، ودائما وأبدا هو أنت.. وحيثما ذهبت لا أجد أحدا غيرك أنت، وكأنه لا وجود في هذه الدنيا إلا أنت..
ــ أتعرفني يا ولدي؟
ــ ولا أعرف أحدا كما أعرفك أنت..
ــ آه.. مازال الخير في الدنيا إذن.. وأنا التي ظننت أن كل أحبابي قد نسوني..
ــ أنت الحكواتي الذي..
ــ نعم، أنا الحكواتي الذي..
ــ أنت الذي أخرجتني من عالمي، وأدخلتني إلى عالم الناس..
ــ كلنا أخرجتنا الصدفة الحكيمة يا ولدي، ومن غير أن ندري، وجدنا أنفسنا تحت هذه الأضواء الكاشفة..
ــ وأنت الذي سميتني باسمي، ولو تركتني أختار اسمي لكان أحسن يا سيدي ..
— حتى أنا لم أختر اسمي.. ولا أحد من الناس في عالم الناس يمكن أن يختار اسمه ورسمه..
ــ لقد قلت لي كن نسيم فكنت، ولو أردت أن يكون اسمي الريح أو العاصفة لكنت..
ــ لست أنا من شئت، ولكن الله شاء، وها أنت الآن ـ ما شاء الله ـ نسمة رقيقة بين كل رفاقك وجيرانك وأخواتك النسمات ..
ــ قدري أن أكون نسمة، اسما ومسمى، وماذا تصنع نسمة صغيرة وعليلة في عالم العواصف والزوابع يا سيدي الحكواتي؟
ــ تصنع الشيء الكثير، صدقني، فكل العواصف والزوابع عابرة وراحلة يا ولدي، وغدا سيتغير كل شيء، ولن يبقى على هذه الأرض إلا أنت.. أنت وحدك ولا أحد سواك..
ــ أنا؟ ما أنا إلا حلم من أحلامك يا سيدي، أنت صنعته.. وأنت اقترحته على الناس..
ــ أنا ما صنعتك يا ولدي، ولكنني فقط رسمتك..
ــ لقد أخرجتني من الظلمة إلى النور، هكذا قلت لي، أتذكر هذا أم نسيته؟
ــ نعم أذكره يا ولدي، ومن كان حكواتيا مثلي لا يمكن أن ينسى .. فعلا أنا وضعتك داخل الضوء، حتى يراك الناس، وحتى ترى الناس، وتعيش في دنيا الناس..
ــ ولقد بحثت عن هذا النور يا سيدي، بحثت عنه في كل مكان و زمان، وما وجدته إلا في قلبي وروحي..
ــ وما أسعد من تشرق الشمس في قلبه وروحه أولا، قبل أن تشرق على البلاد والعباد، وغدا سوف تدرك هذا وتقول لنفسك: والله صدق شيخي الحكواتي
ــ ليتك تكون صادقا فعلا يا سيدي..)
آخر الكلام:
وهذا الحكواتي الجديد، والذي جاء اليوم بعد ذلك الحكواتي الأخير، ينبغي ان ياخذ المتغيرات الجديدة بعين الاعتبار، وان يعرف انه البوم موجود في عصر اخر جديد، وهو العصر الذي قالت عنه (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) ما يلي:
(ونجد أن التاريخ اليوم قد أصبح يتغير بشكل أعنف و أسرع، وأن نحس في سرعته شيئا كثيرا من القسوة والعنف ومن الغرابة و الإدهاش، ومن الجديد الصادم والمستفز، و يجد الإنسان نفسه اليوم مطالبا بأن يتغير، وأن يتجدد، وأن يسير بسرعة أكبر، وأن يعرف أكثر، وأن يكون سيره بإيقاع أعنف، وأن يعي المتغيرات بوعي أعمق، وأن يبصر العالم بأكثر من عين واحدة، وأن يراه برؤية أصدق، وأن يغير فنونه وآدابه و صناعاته القديمة، وذلك حتى يكون في سيره الاجتماعي والفكري والسياسي متجها باتجاه المستقبل، وأن يكون هذا الإنسان ( الجديد) في مستوى هذا العصر الجديد، وأن يجيب على أسئلة هذا العصر، والتي هي أسئلة دقيقة و مركبة، وأن يكون في مستوى تحدياته، وأن يكون بنفس قامة إكراهاته العلمية والفكرية والجمالية المتعددة و المتنوعة، وأن يكون فنانا عالما في عصر الفكر والعلم، وأن يكون في اشتغاله المسرحي تجريبيا ميدانيا في عصر التجريب )
فهل يمكن للاحتفالي الجديد ان يكون اليوم وغدا في مستوى التحديات الجديدة؟