في المهجر ..

.. صراع الهوية والحنين في “غصن للحرب”

رواية “غصن للحرب” للكاتب اليمني حميد عقبي، المقيم في باريس / فرنسا، هي العمل الرابع عشر له. تقدم هذه الرواية نافذة أدبية تنقل القارئ إلى أعماق مشاعر الفقد والحنين التي تعصف بالناس في أوقات الحرب والأزمات المتتالية. في خضم هذا الواقع المرير، يتشبث الأفراد بذكرياتهم كوسيلة للنجاة من براثن اليأس.
تبدأ الرواية بعبارة مؤثرة من والدته: “نريد موتاً جميلاً، نموت جميلين، يعزنا الله ونحن غير مصدومين.” تعكس هذه الكلمات عمق الألم والمعاناة التي يعيشها أبناء اليمن، حيث تجسد صورة الموت بأبهى تجلياته، وكأنها دعوة للكرامة في مواجهة الفوضى.
تتألف الرواية من 60 صفحة، صدرت عن دار أطياف للنشر والترجمة في المغرب العربي هذا العام 2025. تتوزع الرواية على خمسين فصلًا، يتكون كل فصل من 100 كلمة. هذه الرواية هي الثانية لحميد عقبي بهذه التقنية (50 في 100).
هذا الأسلوب والتقنية جعلت الكاتب يكثف ويقتصد في الكلمات ليرسم الأحداث ويصورها، بحيث تقرأ كل فصل كأنه قصة قصيرة جدًا. مجمل الفصول الخمسون تشكل رواية متكاملة ذات طابع تشويقي وسينمائي.
تُعد هذه الطريقة ليست سهلة وغير مألوفة في السرد العربي، وفيها تحديات كثيرة، لكنها تدعو القارئ إلى المشاركة وتترك له مساحات تخيلية واسعة. يصعب تلخيص كل شيء عن هذا العمل في مقال واحد، كونه يحتاج إلى أكثر من قراءة وتأمل.
الصراع الداخلي للشخصيات:
تتجلى أجواء الرواية في الطبيعة، التي تعكس مشاعر الشخصيات بشكل رائع. الأشجار والأغصان المتساقطة ترتعش مع البطل، مما يعطي إحساسًا بالوحدة والعزلة. أما الشمس، فهي كائن حي يقفز فوق سحب رمادية، تمثل الأمل رغم كل الظلام من حولها. تتداخل الأصوات والمشاعر؛ فتغني النوارس أغنية مليئة بالحب والحنين، بينما تعبر الفراشة عن رغبتها في الراحة، لكن الجسد المرهق لا يستطيع الحركة، مما يرمز إلى الإهمال والانكسار.
ومع اقتراب ضجيج قاسي، يدخل خمبابا، المارد القوي، ليكون رمزًا للخوف الذي يحيط بالوجود. يتحرك السرد بين الخوف والرجاء، بينما تترقب الشخصيات مصيرها. ويظهر هونغ سانغسو، مخرج السينما، ليضيف بُعدًا جديدًا إلى الرواية، كرمز للفن والواقع المتداخلين.
يتكشف الصراع الداخلي للشخصيات، خاصة مع ظهور أليتي، الغول الجليدي، الذي يرمز إلى التحديات الكبيرة. يتصاعد التوتر، ويبرز الخوف من المجهول، بينما تتدفق الرموز مثل الثلج والزهور، لتجسد التحولات النفسية. هنا، يتجلى الصراع بين الأمل واليأس، مما يعكس المعاناة التي يعيشها الراوي بسبب البعد عن وطنه. تظهر الوحوش، مثل مينوتور جيريون وكيربيروس، كرموز للقوى السلبية والمآسي التي تحاصر الشخصيات، وتجسد الحرب والدمار.
الوعل، الذي يقف للدفاع عن الشخصيات، يمثل الأمل والشجاعة. رغم إصابته بجروح خطيرة، يظل صامدًا، مما يعكس قدرة الإنسان على مواجهة التحديات. كما يمثل الوعل العودة إلى الجذور والوطن، رغم كل ما يحيط به من مخاطر. في أحد الفصول، يُعبر الراوي: “سرعان ما بدأت معركتنا مع الأبقار الزرقاء الغاضبة.” (ص33) تعكس هذه المعركة الفوضى التي تكتنف الحياة، حيث تتحول التحديات إلى لعبة مرحة، لكن المزاج سرعان ما يتبدل عندما يظهر الخطر الحقيقي.
تتغير الأجواء مع انقشاع الضباب، مما يرمز إلى الأمل في المستقبل. إن دخول الشخصيات إلى منطقة مليئة بالضباب الكثيف ثم انقشاعه يشير إلى الانتقال من حالة اليأس إلى حالة من الأمل والوضوح. عندما يصرخ الراوي “مونيكا حبيبتي، أتذكر الآن من أكون”، (ص53) يستعيد هويته المفقودة، وهو ما يعكس الصراع الداخلي الذي عاشه في المهجر. هذه الاستعادة تُعد بمثابة عودة للذات، حيث يتذكر الراوي جذوره وذكرياته. العبارة الأخيرة “وصلنا مدينتي بيت الفقيه” تمثل الخاتمة الدافئة التي تعكس الشوق والحنين إلى الوطن. يعود الراوي إلى منزله، حيث تبدأ روايته وتنتهي، مما يربط بين بداية القصة ونهايتها، ويعكس الدائرة الكاملة للمعاناة والأمل.
الغلاف ورمزياته:
أبدع حميد عقبي في رسم غلاف رواية “غصن للحرب”، حيث يجسد الألم والمعاناة التي يعيشها الناس في أوقات الحرب والأزمات المتواصلة. يظهر على الغلاف شكل امرأة بلون بني، تعكس ملامحها الحذر والخوف، مما يجسد الفقد والحنين الذي يعتصر الأرواح في زمن القسوة. بجانبها، يتواجد شكل غريب بلون رصاصي، يفتقر إلى الملامح الواضحة، مما يضيف لمسة من الغموض الذي يحيط بالرواية.
في الجانب الآخر، يبرز وحش بلون ذهبي خفيف وعيون سوداء مخيفة، مما يعكس الصراع الداخلي الذي يعاني منه الأفراد في مواجهة مشاعر الخوف والقلق. تحت هذا الكائن المرعب، تتلألأ الورود بلون وردي، تمثل الذكريات الجميلة التي يتشبث بها الناس كوسيلة للنجاة من براثن اليأس. تتخلل الصورة ألوان خفيفة من الأخضر والأزرق والأسود، مما يخلق تباينًا يعكس الصراع بين الأمل واليأس، وبين الجمال والوحشة.
السياقات الثقافية والأسطورية:
تحتوي رواية “غصن الحروب” على سياقات ثقافية متعددة تتجه نحو الأساطير والخرافات، مثل شخصيات خمبابا وأليتي والساحرة، إضافة إلى الفنون والنحت والموسيقى والسينما. يظهر ذلك بوضوح في توظيف عدد من اللوحات الفنية والمنحوتات بطريقة تتجاوز الوصف التقليدي. فقد استلهم حميد عقبي من هذه الأعمال ليخلق فضاءً دراميًا لشخصياته، مثل منحوتة الكلب التي أنجزها ألبرتو جياكوميتي، والتي أصبحت شخصية درامية متحركة تشكل حدثًا محوريًا في السرد.
يتلاعب عقبي بالزمن بشكل قد يربك القارئ، حيث تتداخل شخصيات مثل سقراط وهوميروس وخمبابا والعاهرة التي روضت إنكيدو مع مولان المحاربة الصينية، والوعل اليماني، وكلاب الجحيم. يتجلى أيضًا تأثير لوحة “طواحين الهواء” للفنان يوجين لويس بودين، وعالم سلفادور دالي، بالإضافة إلى لوحات فيكتور بريجيدا، وفيلم “فاوست”، وموسيقى موزارت. تظهر كل هذه العناصر كمضات سريعة، لكن عقبي يحركها ويجعلها تتفاعل مع الواقع، لتروي قصصها وتعكس واقعنا المثخن بالحروب. تشكل هذه الدلالات الزمنية والمكانية تداخلًا وتشابكًا يمهد لخلق فضاء تخيلي وطبقات متعددة لكل مشهد، مما يضفي عمقًا وثراءً على الرواية ويعزز من تجربتها الأدبية.
تتحول كل العناصر بسرعة: الزمن، الطقس، التضاريس، والمخلوقات. على سبيل المثال، الجرذ الذي يتحول بحجم فيل ليلاً ثم يعود لحجمه الطبيعي نهارًا، يكون صديقًا قبل أن يتحول إلى مصدر تهديد. كما يتحول خمبابا ويضحي بنفسه من أجل المجموعة، وهناك شخصيات مثل القرد رافيكي من “حكاية الأسد الملك”، والفراشة التي تمنح العطر وتقود الفريق عندما لا يجدون من يدلهم على الطريق، لكنها تُقتل عن طريق الخطأ بسيف مولان المحاربة.
تبدو الرواية وكأنها مانغا يابانية، حيث تجنح إلى الأكشن والنقاشات الفلسفية، والأجواء الأسطورية والخرافية. تظهر شخصيات متعددة ثم تموت، في رحلة غرائبية، حيث يتحول البطل من غصن إلى جسد، ويلتقط عين سقراط الأولى والثانية، بينما يتحول سقراط من تمثال إلى شخصية متحركة تشارك في الرحلة. تتعدد الأصوات، ولكل شخصية صوتها الذي يثير نقاشات حول الحرب، والغربة، وفقدان الذات، وغيرها من المواضيع المعقدة.
تتراوح الحوارات بين الفكاهة والبوح الذاتي، حيث تتطور الشخصيات وتتغير ملامحها وأفكارها وقناعاتها. ومع ذلك، تضحي أغلب الشخصيات من أجل القليل من الحياة والحب. “غصن للحروب” هي رواية صراعات لا محدودة، ولعبة سردية تكسر توقعات المتلقي، تهدم وتبني، تبرز لقاء وفراق، موت وحياة، في رحلة صاخبة مليئة بالفقد والبحث عن السلام والوطن والهوية.
* كاتب وباحث من اليمن