قَبَسات ٌمِنْ النقدِ العربيّ

قَبَسات ٌمِنْ النقدِ العربيّ

كانَ النقدُ الانطباعيُّ هو النقدُ السائدُ…

الكاتب: محمد ياسين خليل القطعاني: الكويت / مصر

تاريخُ النقدِ العربي مَرّ بمراحل َمتنوعة كمّاً وكيفاً، وبينَ كُلِّ مرحلةٍ وأخرى فترةٌ زمنيةٌ قد تطول، وقد تقصر بسببِ عواملِ داخليةِ وعواملِ خارجيةِ ألمّتْ ببلادِ العرب، ونشأ النقدُ معَ نشأةِ الشعر، و فكان َالشاعرُ قبلَ أنْ ترى قصيدتُه النورَ يتعهدها بالحذفِ أو بالزيادة، وقد يُهملها تماماً إلى حين، وقد لا تصلُ إلى آذان الناسِ البتة؛ لأنه غيرُ راضٍ عن نظمِها وسبكِها.

   ارتبطَ النقدُ في بداياته بأشخاصٍ بعينهم أنزلهم أهلُ الباديةِ والحضرِ منزلةَ الحكمِ الذي تُرضى ـ حكومتُه ـ حتّى وإنْ جارَ وظَلَمَ لعصبية أو لميلٍ يعلمه أصحابُ النّهى، لكنهم على أيّ حالٍ تراضوا على ما كانَ، وإنْ تنابزوا بعدَ ذلك بالألقابِ، وتراشقوا بالمَسبّات، فصارتْ أحكامُهم وما تبعها من أحداثٍ مِنْ مَرْويات العربِ وقصصهم التي تداولوها في مجالسهم، وأضافوا إليها بعضَ الإثارة التي جعلتْ منها  قصةً وطرفةً وحكمة ًوعبرةً.

  بدأت إرهاصات ( النقد ) قبل ظهور ِالإسلام، ويُحكى في ذلك ما كانَ بينَ شاعرِ المعلقات زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير، لمّا سمعَ زهيرٌ ما يرتجزه ابنُه كعبٌ، ولم يعجبْه ما سَمِعه، فعاقبَه ومنعَه من القولِ حتّى يستحكمَ شعرُه، وكانَ بعدَ ذلكَ يصحبُه إلى الصحراءِ، ويُلقي عليه بيتاً مِن الشّعر أو شطراً، ويطلبُ إليه أنْ يُجِيزه تَمْريناً له ودُرْبَةٍ، ولمّا اقتنعَ زهيرُ بنُ أبي سلمى بنظم ِابنِه كعب بعدَ طُولِ دُرْبة ٍوعنايةٍ، قال له : “ قدْ أذنتُ لكَ في الشّعر يا بُني

هذا ما كانَ بينَ زهيرِ بن أبي سلمى وابنِه كعب ، ومثيل ذلك دارَ في سوق عكاظ  قبلَ الإسلامِ بينَ النابغةِ الذبياني وحسانِ بن ثابت والخنساء ، وهي إرهاصةٌ أخرى مِن إرهاصاتِ النقد في الجزيرة العربية، ونذكرُ تلك الحادثةَ باختصارٍ للتدليلِ على كيفيةِ الحكمِ على سموِّ شاعرية ِشاعرٍ على غيره من الشّعراء .

  كانت تُضرب قبُةٌ حَمراءُ منْ أدم (جلد مدبوغ) للنابغة الذبياني  في سوق عكاظ ، ويقبل عليه الشعراءُ من شتى أطرافِ الجزيرة ينشدونه شعرهم، والناسُ مُجتمعون يُشاهدون ويَسمعون، فأنشدَه الأعشى، ثم حسانُ بن ثابت ، ثم الخنساءُ، فقالَ لها النابغةُ: ” واللهِ لولا أنّ أبا بصير (ويقصد الأعشىأنشدني آنفاً لقلتُ إنك أشعرُ الجنِ والإنس ، فقال له حسانُ : “ واللهِ لأنا أشعرُ منكَ ومن أبيكَ و من جدكَ” ، فقبضَ النابغةُ على يدِ حسان ، ثم قالَ له : يا بنَ أخي، إنك لا تُحسنُ أنْ تقولَ قولي :

       فإنك كالليلِ الذي هو مُدركي     وإنْ خِلتُ أنّ المنتأى عنكَ واسعُ

ثم قالَ للخنساءِ : أنشديه ، فأنشدته، فقالَ لها :

واللهِ ما رأيتُ ذاتَ مَثانةٍ أشعرَ منكِ ، فقالتْ له الخنساءُ : واللهِ ولا ذا (خُصيتين) ،  وكانَ حسانُ قبلها قدْ أنشدَه :

 لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضّحى    وأسيافُنا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دما

وَلَدْنا بني العنقاءِ وابني مُحَرِّقٍ     فأكرمْ بنا خالاً، وأكرمْ بنا ابنما

فقال له النابغة : أنتَ شاعرٌ، لكنّكَ أقللتَ جَفناتِكَ وسيوفَكَ ، وفَخرْتَ بَمنْ وَلدتَ ، ولم تَفخرْ بِمَنْ ولَدَكَ.

ولمّا كانَ الإسلامُ ، وبدأتْ تظهرُ بعضُ القواعدِ والأسسِ التي تحْكمُ  المعارف وفي صدارتها الشعر الذي هو( ديوان العرب)، سَمعنا الملاحظات التي تُولي عنايةً بالجوانبِ النّحويةِ واللغويةِ والصّوتيةِ والدّلاليةِ ، وذلك ما ذكره ابنُ سلام الجُمحي في كتابِه ( طبقات فحول الشعراء )  نقلاً عمّا كانَ يدوُر في دكاكين الوراقين في البصرة والكوفة .

فيذكر ابنُ سلام الجمحي في كتابه السالفِ ذكره أنّ عبدَ الله بنَ أبي إسحق النّحوي اللغوي ( ابن أبي إسحق كان منْ الموالي) عابَ على الفرزدق بعضَ ما يقعُ فيه من أخطاء نَحْوية ٍ، فَغَضِبَ الفرزدق ، وهجاهُ بقولِه :

        لو كانَ عبدُ اللهِ مَولى هَجَوْتُهُ      لكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَوِليا

فقال له عبد الله : أخطأتَ، كان يجبُ أنْ تقولَ : ( مَوْلى  مَوَالٍ )

    وكما كانتْ هناك َمؤاخذاتٌ نحويةٌ على بعضِ الشّعراء، كانتْ هناك أيضاً تقعيداتٌ لفظيةٌ، وهنا نستذكرٌ عبارات الجاحظ التي صارتْ عَلماً عليه، وهو عَلمٌ عليها :

 ” إنما الشّعرُ صِياغة ، وضَربٌ منِ النّسج ، وجنسٌ منِ التّصوير

     ونستعيدُ هنا حكايةَ الجاحظِ وصديقِه أبي عمرو الشّيباني اللغوي الشّهير عندما سَمعا شاعراً يقول :

       لا تَحْسبنّ الموتَ مَوتَ البِلى       وإنّما الموتُ سُؤالُ الرّجالِ

          كِلاهما مَوتٌ لكنّ  ذا               أشدُّ منْ ذاكَ لِذلِّ السؤال

 فاستحسنَ أبو عمرو الشيباني البيتين ، لكنّ الجاحظ َلم يُعجبه استحسانَ الشيباني ، فقالَ مقالته التي صارتْ نبراساً :

إنّ المعانيَ مُلقاة على قوارعِ الطريقِ، وإنّما يتميزُ الناسُ بالألفاظ، والمعاني يعرفها العَجمي والعَربي والبدوي والقروي، وإنّما الشأنُ في إقامةِ الوزن، وتخيرِ اللفظِ”.

 ولذلكَ رأى بعضُ مَنْ سمِع مقولة الجاحظ، ومَنْ جاء بعده وصولاً إلى عصرنا الحالي أنّ الجاحظَ منْ روادِ مدرسةِ اللفظِ، بلْ هو إمامُها، بعكس (الجرجاني) الذي هو إمامُ مدرسةِ المعنى.

والحقُ يُقال أنّ الجاحظ َ بَيّنَ هذا الامرَ وفصّلهُ بعدَ ذلك في مِتونِ بعضِ كتبه، فقال حاسماً : “ إنّ الكلامَ البليغَ هو الذي يُسابقُ معناهُ  لفظَه ، ولفظُه معناه ، فلا يكونُ لفظُه إلى سمعكَ أسبقَ إلى معناه إلى قلبك“.

 ونُقلَ عن الجاحظ في هذا الشأنِ قولُه :” أحسنُ الكلامِ ما كانَ قليلُه يُغنيكَ عن كثيرِه، ومعناه في ظاهرِ لفظِه، فإذا كانَ المعنى شريفاً، واللفظ بليغاً، وكانَ صحيحُ الطبع بعيداً عن الاستكراه ، ومُنزهاً عن الاختلال، ومَصوناً عن التّكلف صنعَ في القلوبِ صنعَ الغيثِ في التُّربةِ الكريمة“.

 برزتْ بعد ذلك  بعضُ ( الأقوال) النقدية على السّطح  بشكل منهجي، مثل كتاب ( طبقات فحول الشعراء) لمحمد بن سلام الجمحي ( 140/231 هجرية)، وكتاب ( نقد الشعر)  لقدامة بن جعفر المتوفى في ( 337) من الهجرة ، وساعدَ على ظهورِ الآراءِ النقدية وشيوعِها الاقبالُ على الترجمةِ، بعدما انفتحَ العربُ على حضاراتِ اليونان والرومان والفرسِ وغيرِهم من الشعوبِ، فترجموا كتبهم في الأدبِ والعلومِ.

صحيفة روناهي

وكانتْ مرحلة إنشاءِ ( بيت الحكمة ) في بغداد (149) من الهجرة منْ أخصِب مراحلِ الحياةِ الأدبية والفكرية، وكانت البداية برعاية أبي جعفر المنصور، ثم هارون الرشيد، ثم المأمون، وبعضِ منْ جاءَ بعدهم من الخلفاء.

لعل الاستقرارَ السياسيّ والمعيشي وأسبابَ أخرى كثيرة هي التي هيأتْ الظروفَ لتلك النّهضةِ النقدية، ولا شكَّ أنّ البداوةَ وحياةَ الصّحراء لم تتوافر لها حياةُ الاستقرار التي تجعلُ تأطيرَ النقد ذا أهمية ، حتى لو كانَ الإبداعُ الشعري والإبداع ُالخطابي موجودين، ويحظيان بالتقدير على مستوى قاطني شبه الجزيرة العربية، لكنْ لم تُرافق ذلك نظرةٌ نقدية مَنهجية، ففكرةُ النقدِ المنهجي عندَ العربِ قبلَ الإسلام  لم تكن موجودة بشكلها الذي بدأ يبزغ  فيما بعد، فكانَ النقدُ الانطباعيُّ هو النقدُ السائدُ الذي ارتضاه المتلقون والشعراءُ قديماً، وكان ذلك يتمُّ في الأسواقِ القديمة ِالقريبة من مكةَ محطَّ أنظارهم وموئلَ مقدساتهم التي يقصدونها للحج و لتبادلِ التجارةِ والمنافعِ الدنيوية، ولا مانعَ من الإنصاتِ لمناظراتِ الشعراءِ والخطباءِ، والعودة لقبائلهم بما استمعوا إليه من أخبارٍ وشعرٍ، وما شاهدوه من مناظراتٍ ومجادلاتٍ .

كانتْ هذه الأسواقُ تجمعُ بينَ سباقاتِ الهِجن والتجارةِ والشعرِ والخطابةِ، مثل: سوق عكاظ  بالطائف، وسوق مَجَنّة شمال مكة، وسوق ذي المجاز شرق مدينة مكة، وإنْ فقدتْ هذه الأسواق الثقافية التجارية أهميتها بعد الإسلام لمّا اعتمدَ حجاجُ بيتِ الله الحرام على الأسواق الدائمة في مكةَ والمشاعرَ المقدسة الأخرى.

إلى أن جاءَ ابنُ سلامٍ الجمحي وكتابُه الأشهر ( طبقات فحول الشعراء)، ووضعَ مَنهجاً جديداً ابتدعَه، منهجٌ قائمٌ على تصنيفِ الشّعراءِ على هيئةِ طبقاتٍ، فجعلَ عشرةَ طبقاتٍ لشعراءِ الجاهليةِ، وعشرةَ طبقاتٍ لشعراءِ الإسلامِ، وفي كلِّ طبقةٍ أربعة شعراء، ثم صنّفَ الشعراءَ على اعتبارِ البيئةِ، فذكرَ الشعراءَ على حسبِ قراهم، فيقول: شعراءُ مكة، وشعراءُ المدينة، وشعراءُ الطائف، وشعراءُ البحرين، وهو أولُ منْ ألمحَ إلى أثرِ البيئة ِعلى الشاعرِ وشعره، كما صنّفَ الشّعراء حسب دياناتهم، فيقول: شعراء ُاليهود، وشعراءُ النصارى، بل إنّه ذهبَ أكثرَ منْ ذلك لمّا صنفَ الشعراءَ حسب الأغراضِ الشعرية، فيقول: شعراءُ المراثي مثلاً، ويذكرُ بعضَهم . قالَ عنه الدكتورُ محمد مندور في كتابهِ (النقد المنهجي عند العرب) : ” يُعدُّ ابنُ سلام الجمحي أولَ ناقدٍ منهجي عند العرب” .

وممّا يُذكر في شأنِ أسبقيةِ ابن ِسلام الجمحي في معرفةِ تأثيرِ البيئة على القريحةِ أنّ الكاتبَ الكبير عباس محمود العقاد أصدرَ كتاباً بعنوان : (شعراء مصر وبيئاتهم) بيّنَ فيه تأثيرَ البيئةِ على قريحةِ الشاعر، وذلك يؤكد ما ذهب َإليه ابنُ سلام الجمحي.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية :مديرة موقع صحيفة ألوان: منبر إعلامي شامل يهتم بالأدب والثقافة ومغاربة العالم. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر. رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل :jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *