دراسة نقدية للمقامات القطعانية

محمد ياسين القطعاني:
أحد رواد تحديث فن المقامات في الأدب العربي المعاصر بامتياز.

تعتبر المقامة شكلاً قصصياً أو نوعاً من القصة القصيرة عند بعض النقاد، وهي تعتمد على السجع والبديع والبلاغة من ناحية الشكل، وتعالج قضايا اجتماعية وحياتية من ناحية المضمون، نشأ هذا الفن في العصر العباسي، واعتبره نقاد الأدب إفرازاً نوعيّاً في تلك الفترة، فازدهر واهتم به الناس، واستمعوا إليه بشغفٍ، وأصبح رائعةً من روائع فنون الأدب العربي والحكي أو السرد القصصي على الخصوص.
تعتمد المقامات على راوٍ واحدٍ، ويكون البطل الرئيس بطلاً واحدا أيضاً، ونورد هنا مثلاً على ذلك، وهو عيسى بن هشام في مقامات (بديع الزمان الهمذاني)، ومن مشمول أهداف المقامات كما قال بعض النقاد: ” تعليم الناس أساليب اللغة العربية، وإظهار بيان وبراعة كتّاب المقامات في تصوير المظاهر والأفكار الرائجة في ذلك العصر، وكذلك تصوير حالة الفقر والأوبئة الصحية والنفسية السائدة ّآنئذٍ”، وكانت المقامات غالباً ما تنتهي بموعظة أو عبرة أو نكتة تصف تصرفات تلك المجتمعات الأخلاقية والسلوكية حينذاك.
وَجَدَ فن المقامات نجاحا كبيراَ، فأقبل عليه العديد من المؤلفين والأدباء بعد بديع الزمان الهمذاني، فكتب فيه (الحريري) خمسين مقامةً، عارضَ من خلالها مقامات بديع الزمان الهمذاني، ونظراً لانتشار هذا الفن واهتمام الكثيرين به أصبح عالمياً، فوجدنا مقامة القاضي (حميد الدين) الذي تناول المقامة باللغة الفارسية، وفي أوروبا سُمي هذا الفن باسم (بيكارون).
المقامات الأدبية في التراث العربي تقوم على عدة شخصيات، وإذا أخذنا مقامات الحريري مثلاً نجد أنّ هناك:
ــ الشخصية الأولى: تتعلق بالكاتب وهو في هذا الموضع الحريري نفسه.
ـــ الشخصية الثانية: شخصية الراوي وهو الحارث بن همام وهو من يروي، أو يحكي لنا كشاهد على(مقالب) وتصرفات أبي زيد السروجي.
ـــ الشخصية الثالثة: تخص بطل المقامة وهو عند الحريري أبو زيد السروجي نفسه، الذي يتقمص عدة أدوار من خلال عدة شخصيات، فهو قد يكون شخصية ساخرة من النخب، أو من العامة أيضاً، وقد يتهكم على مهن بعض الناس في ذلك الوقت، أو على المؤسسات والتسلسل الهرمي في المجتمع، وفي حالات أخرى يقلد الواعظ المرشد الناصح، ويتقمص دور امرأة أو رجل عجوز أو قاض، ويلون دوره بألوان البلاغة المبهرة، ويسحر الناس بفصاحته وسعة أفقه.
وليت الباحثين والمؤلفين يتناولون بالدراسة والتحليل الشخصية الثانية في المقامات التي لم تنل حقها وهي شخصية الراوي (الحارث بن همام البصري)، وهو الراوي السارد المندهش من المرونة الأخلاقية، وسلوكيات بطل المقامات (ابي زيد السروجي) غير المتوقعة والمبنية على مفاجأة القارئ، إنه ذلك البطل المحتال المخادع الذي يضرب بالقواعد الاجتماعية عرض الحائط، لكنه مع ذلك يتفلتُ من مواجهة العدالة؛ لأنه يتنصل مما يحدث، ويسحب نفسه مما يقوم به من تضليل ونصب بحيله المبهرة، فلا يُوآخذُ بجرائمه التي تبقى في الظل.
كانت الخمسون مقامة للحريري مسرحاً لأبي زيد السروجي يجول فيها مغامراً تارة، ويطوف حول العالم تارةً حتّى يتمكن من الاحتيال وخداع الناس، والمتتبع لعناوين مقاماته يصل إلى عدة نتائج منها : أنه كان يبرز ما ينتشر و يروج في العالم الإسلامي من مشاكل متشابهة ، لا تكاد تختلف عن بعضها البعض، ونورد بعض عناوين مقاماته مدللين على سياحته في العالم الإسلامي مثل: ( المقامة الصنعانية ، والحلوانية ، الدمياطية ، الكوفية ، البغدادية ، المراغية ، المكية ، الإسكندرية ، المغربية ، الرازية ، الفراتية ، الزبيدية ، السنجارية ، البصرية ….الخ )
وفي هذا المقام لا ننسى ذكر (المقامة البقشيشية) وهي إحدى المقامات الأدبية الفريدة التي كتبها الأديب اللبناني أحمد فارس الشدياق (1804ــ1887) التي تناول فيها بالنقد ظاهرة اجتماعية سادتْ في ذلك الزمان، وهي منح الإكرامية أو الرشوة لمن يؤدي لك عملاً، وقد بين الجوانب السلبية والسلوكيات المنفرة السيئة لهذه الظاهرة، وقد قام الدكتور: محمد محمود الدروبي أستاذ الأدب والتراث بجامعة آل البيت الأردنية بتحقيق تلك المقامة ونشرها في كتابه: (المقامة البخشيشية) .
بعد هذه اللمحة الجغرافية التاريخية لانتشار المقامات في العالم الإسلامي، الذي بعد الإجابة عنه سيؤدي بي إلى طرح السؤال الأول حتى لا يفوتني سؤالٍ ثانٍ عن فن المقامة ودورها ومكانتها في عصرنا الحديث، ومركزها في الأدب العربي المعاصر من خلال المهتمين والكتاب ، والمثال الحاضر الآن على الساحات الأدبية هو الروائي، القاص، والناقد محمد ياسين القطعاني من خلال (مقاماته القطعانية) أو كما أطلقها تحت عنوان (حكايات محمد بن ياسين عبر الأيام والسنين).
ـ هل فن المقامات فنٌ عربيٌ أصيل، أم أنه مُتأثر بالأدب الفارسي؟
أحد الآراء يقول: إنّ بديع الزمان الهمذاني هو من ابتكر وأبدع فن المقامات، وإنْ كان نهلَ من الأساطير البهلوانية، ومن التوراة عند اليهود، ومن قصة لقمان و(الهستوباداسا) في اللغة السنسكريتية القديمة، مما أدى بالقلقشندي أنْ يذكر ذلك في كتابه (صبح الأعشى) فقال في هذا الصدد:
(إنّ أول من فتح باب عمل المقامات علامةُ الدهر وإمامُ الأدب بديع الزمان الهمذاني، فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه، وهي في غاية البلاغة وعلو الرتبة في الصنعة، ثم تلاه الحريري، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت في غاية الحسن، وأقبل عليها الخاصة والعامة) (مجلة الهلال المصرية 1962م صفحة 180 ومجلة الجندي 1986 صفحة 481 والهمذاني 1987 صفحة 22).
واعتقد آخرون أنّ بديع الزمان الهمذاني أخذ فكرة كتابة المقامات عن الأقدمين كما ذكر ذلك القيرواني في كتابه: (زهر الآداب) وأنه ألف مقاماته كي يعارض بها ابن دريد، يقول الحصري:
(لما رأى أبا دريد الأزدي أغربَ (من الغرابة البديعة) بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها (أظهرها) للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر في معارض حوشية وألفاظ معجمية،، فجاء أكثرها ينبئ عن الطباع، لا ترفع له حجب الأسماع، عارضه بأربعمائة مقامة في (الكدية) تذوب ظرفاُ، وتقطر حسناً، و لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى وعطف مساجلتها، ووقف مناقلها بين رجلين سمى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الأسكندري، والصلة واضحة بين مقامات بديع الزمان الهمذاني، والأمالي في وصف الأسد (المناح 1999 صفحة 154 الموسوعة صفحة ´564 وأبو ملحم صفحة 7 . ويعتقد (جرجي زيدان) أن الأمر يتعلق بتقليد بديع الزمان للإمام اللغوي الحسين بن أحمد بن فارس، بينما (ابن عبد ربه) صاحب كتاب العقد الفريد وابن قتيبة كذلك كانا يظنان أن نشأة المقامات وزمنها يرجع إلى عهد أبعد من عهد وزمن بديع الزمان ( الفاخوري 1377 صفحة 734 ) .
أما في عصرنا الحديث فإن المستشرق (مرغليوث) وهو من مؤرخي الأدب يقول: ” إنّ مبتكر ومنشئ فن المقامات ليس الهمذاني كما اعتقد الناس منذ زمن بعيد، بل كان الهمذاني متأثرا بابن دريد والأحاديث التي ألفها. وقد كثرت المناقشات والادعاءات حول نشأة المقامات، ومن له قصب السبق إلى ذلك، وممن اهتموا كثيرا بهذا الموضوع الكاتب الكبير (زكي مبارك) الذي رأى أنها تعود إلى الفرس؛ لحرصهم على ترديد القصص والأحاديث، فتأثر بذلك العرب.
ورَأي زكي مبارك كان مثيراً للجدل مما دفع (مصطفى صادق الرافعي) للرد عليه بمقال في مجلة (المقتطف) آنئذٍ، وصوّب ما وقع فيه زكي مبارك من خطأٍ فيما يتعلق بنشأة المقامة.
من هنا نصل إلى كتاب (الغائب) للأديب (عبد الفتاح كيليطو) الذي رأى كما أوضح في كتابه المذكور أن المقامة: (نسيج محكم يتعين علينا أن نفتق خيوطه، ونفكها خيطا خيطا، ثم يتعين أن نعيد تركيبه من جديد) صفحة 28
وقد قام في كتابه ذاك بتقطيع إحدى المقامات وهي مقامة: (المقامة الكوفية) للحريري إلى ثلاث عشرة وحدة سردية صغرى، مبينا أن المقامة ليست مجرد سرد، وإنما هي نسيج لغوي متنوع ومتعدد الدلالات يقول: ” تعدد الدلالات لا ينبع من الكلمة في حد ذاتها . وإنما ارتباط الكلمة بكلمات أخرى قريبة أو بعيدة، كلمات تكون في النص المدروس، أو في نصوص أخرى “( صفحة 57 ).
وهذا التحليل يبرز أن القراءات السابقة للمقامات كانت أحياناً تعتمد على اختزال سياسي، وأحياناً هدفها إظهار براعة الكاتب اللغوية خاصة أن كل النقد الذي أحاط بها كان يرتكز على قراءات خارجية مبسطة استشراقية أو عربية؛ لذلك لم تستطع هذه القراءات أنْ تمسك بسر سحر هذا الشكل النثري السردي الهام، ولربما تدخّلَ عنصر المقارنة بين المقامة والقصة القصيرة في هذا الشأن، الشيء الذي بخسَ المقامات القديمة حقها.
ولعل المراد من هذا التقديم المختصر، أو هذه التوطئة عن نشأة المقامة، والتعريف بها وبشخصياتها وأنواعها منذ القديم إلى الآن ـ في هذه العجالة ـ التي لا تفي بالطبع المقامة حقها من التعريف والدراسة والتحليل ـ هو الوصول ّإلى السؤال الثاني المشار إليه سابقاً، والذي أسعى للإجابة عنه من خلال محاولتي التطرق إلى (المقامات القطعانية لمحمد ياسين القطعاني) في مقاربتها مع ما سلف ذكره من تسليط الضوء على مختلف مناحي وقواعد فن المقامات
السؤال الثاني هو: ما دور محمد ياسين القطعاني في فن المقامات؟
المقامات الأدبية في العصر الحديث عند محمد ياسين القطعاني تتفق وتختلف مع ما وردنا من مقامات الهمذاني والحريري، فالشكل متقارب، لكن المضمون مختلف، فالمقامات القطعانية تناولت بعض المشكلات الاجتماعية التي تنتشر في شتى البلاد العربية والإسلامية، وأحيانا نجدها في بعض البلاد الآسيوية، وكذلك في بعض دول أمريكا اللاتينية.
مما سبق نرى أن المقامات الأدبية رغم أفولها التاريخي، وغياب نجمها، فإنها شكلت ظاهرة في تاريخ الأدب العربي، وأبرزتْ صورة مميزة للبلاغة والبديع والتمسك بالصنعة في الكتابة، أما اللاحقون من المؤلفين والكتاب في عصرنا الحديث فإنهم حاولوا نفض غبار السنين عن المقامات الأدبية وتجويد صورتها كونها جنساً أدبياً من الواجب صقله والارتقاء به إلى المرتبة التي تحتلها باقي الأجناس والفنون الأدبية الأخرى ، وبعضهم وجد أن الأديب محمد ياسين القطعاني أعاد المقامة من (السّبات التاريخي ) ، ونفخ فيها الروح من جديد شكلاً ومضموناً، و كما سلف من خلال حديثي عن الأديب (عبد الفتاح كيليطو) ، وجدت أن الأديب ( محمد ياسين القطعاني) جنح إلى الاهتمام بالناحية الداخلية للمقامات، وأولى الشكل الخارجي أهمية كذلك، فرغم أن مقاماته تعتمد على استخدام البديع ومحسناته من سجع وتشابيه بلاغية وغير ذلك من محسنات تقليداً لما كانت المقامات ترتكز عليه شكلاً، فإنه يعمد إلى الالتزام بقواعد المقامة التقليدية بإيراده شخوصاً متنوعين، والشخوص عنده تتمثل في الراوي ابن حمدين وفي البطل الذي يتغير من مقامة لأخرى، فهو في مقامة شمسة على سبيل المثال غيره في مقامة (ابو صفوان المجنون) .
ومن خلال قراءاتي التحليلية لمقامات محمد ياسين القطعاني وجدتُ أنْه يستخدم أسلوب الهدم والبناء حسب نوع المقامة، فهو ينحو منحى (الإغراب) في بعض الأحيان بقصد توضيح الفكرة أو الموضوع الذي أسس من أجله مقامته؛ ولينتقد الزمان وسطوة المكان بعد ذلك، كي يبلغ أخيراً قصده من خلال التغلغل إلى المعنى الذي يريده من سلاسة حكيه وسرده.
ونخلص إلى أنّ اعتماد محمد ياسين القطعاني على الأسلوب المنمق والسلس دون تكلف أو تعقيد في الحكي أو القص هو كل شيء بالنسبة له؛ ليصل بالقارئ أو المتلقي إلى النتيجة التي أرادها وهي مفاجأته وإدهاشه بخاتمة مقامته، فهذا ابن حمدين في حوار له في مقامة شمسة التي كان له دور القاضي فيها يقول:
(اعلم يا عبد الله أنني لعودة زوجتك ضامن وعلى صلاح أمرها قائم …. الخ). ويدهشنا عندما يرتقي في تصاعد مثير وتكاثرية بأسلوبه؛ ليحصل على عكس ما جاء في (كلامه)، إلى أن يصل بالمتلقي إلى النهاية المدهشة والمفاجئة غير المتوقعة.
كل ذلك على غرار ما يحصل حالياً في اعتماد كتاب القصة القصيرة على توخي إثارة دهشة وقلق القارئ واستفزازه، الشيء الذي أصبح من أهم عناصر القصة القصيرة في أدبنا الحديث، وهو الشيء نفسه في مقامة أبي صفوان المجنون.
وهكذا أعود لأؤكد أنّ (المقامات القطعانية) تقوم على أساليب جديدة من تواتر للأحداث والسفر بالقارئ عبر متاهات من الغرابة، وبعض الأحيان الغموض للوصول إلى النتيجة المرجوة، وهي إثارة دهشة المتلقي، مع التأكيد أيضاً أن المؤلف ما فتئ ملتزماً إلى حدٍّ ما عناصر كتابة المقامات التقليدية من ناحية شكلها الخارجي مع تجنب الحشو والكلمات الحوشية والتكلف المبالغ فيه.
كل ذلك يجعل الأديب (محمد ياسين القطعاني) من رواد تحديث وتجديد فن المقامات في الأدب العربي المعاصر بامتياز .
القاصة المغربية: فاطمة البسريني