“على عتبة المغرب الحديث”: فريدريك وايس غربر 2/2


الممارسة الكتابية عن المغرب …
ولم يخرج الكاتب عن سابقيه في طرح فكرة تقسيم المغرب إلى بلاد السيبة وبلاد المخزن، الذي أقره الجنرال ليوطي والذي بدوره استمده من الدراسات السوسيولوجيا السابقة عن فترة الحماية واعتبر امتداد مجال قبائل المخزن، على ربع مساحة المغرب التي يسكنها نصف سكانه، على رأس كل قبيلة قائد مخزني شغله الشاغل هو ابتزاز السكان، بتحصيل الضرائب وجمع الهدايا والمصادرة، لبعثها إلى السلطان. وفي حديثه عن قبائل السيبة، حدد عدة عناصر تميزها عن قبائل المخزن، منها: الاعتراف فقط بالسلطة الدينية للسلطان – تعتمد في التنظيم الداخلي على قانون عرفي – وتعيش حالة صراع بين فروعها القبلية، وأحيانا أخرى الصراع مع الزوايا، وقد – اعتبر قبائل السيبة وقبائل الأمازيغ متساويان في اسلامهم السطحي -، ففي المناسبات الدينية تتسابق قبائل السيبة في تقديم الهدايا للسلطان تبركا منه، وفي حروبه ضد القبائل تقدم له الدعم. كما يقر الكاتب أن المغرب لم يعرف دولة مركزية بالمعنى الأوروبي.
الوضعية الثانية: وتتعلق بالجانب العسكري المخزني، وأعطاه الكاتب أهمية قصوى في مؤلفه، لغاية تهيئ المشروع الاستعماري، موضحا نقط الضعف والقوة في التركيبة العسكرية المخزنية، ونظرا لأهميته، أفرد له فصلا في مؤلفه تحت عنوان “الجيش الشريف”، ميز فيه بين جيش الكيش والجيش المخزني على مستوى الوظيفة والامتياز والانتماء القبلي معتبرا أن وظيفة الجيش أداة لإخماد الثورات وحماية النظام وجمع الضرائب. ويشير الكاتب الى أن القوة العسكرية، تتحول أثناء السلم والاستقرار إلى أداة نهب وسرقة، يسلبون القوافل ويتاجرون في النساء والأطفال في أسواق النخاسة. كما سمحت له معاينة وضعية الجيش، بتسجيل نقط ضعفه التي قدمها لوزارة الحربية الفرنسية ومما اورده في هذا الباب: [عدم الانسجام وسيادة التعصب بين عناصره – تضارب المصالح – التنافس حول القيادة – عدد المتطوعين يفوق عدد النظاميين – سيادة طابع الأمية والتخلف – عدم وجود قيادة واحد موحدة]. من خلال هذه الوضعية، يكون المؤلف قد أسدى خدمة للمخابرات العسكرية الفرنسية قبل الإقدام المباشر على احتلال المغرب، وفي مستوى آخر نجده، ينقص من دور الحرف، مانحا أهمية للتجارة الأوربية بالمدن المغربية، وفي نفس المحور، قدم معطيات متحدثا فيها عن ضعف ميزانية المخزن التي تفسر اللجوء الى القروض بكثرة من أوربا.
الوضعية الاقتصادية والاجتماعية: لقد اختزل الكاتب، الأزمة المالية في أزمة الضرائب التي تنوعت بين الدينية وغير الدينية، وسماها ب “اللاشعبية ” معتبرا أنها تتميز بالقسوة والمغالاة في واجبها، بالرغم من الإصلاحات التي تعرضت لها ، فإنها بقيت في خدمة المخزن ، وتجاوزا للمشاكل ،جمعت الضرائب في ضريبة واحدة عرفت بضريبة ” الترتيب ” ، غير أن الكاتب لم يعر اهتماما قويا لهذا الموضوع معتبراأن سياسة القروض لها علاقة بفرض الضرائب المخزنية على الشعب . كما تجاهل الكاتب قضية تهريب العملات الذهبية إلى فرنسا، وفرض تعويضات على المخزن عند اعتداء القبائل على الأجانب.
لقد ساهمت سياسة القروض والضرائب في توتر العلاقات بين المخزن والقبائل، ومن جهة أخرى قوت روابط العلاقات سياسيا وتنظيميا بين المغرب وفرنسا خاصة. لذلك أغرقت أوربا المغرب بالقروض خاصة من فرنسا وانجلترا. ففي سنة 1903 أقرضت فرنسا المغرب 8,7 مليون فرنكا فرنسيا، وفي نفس السنة اقرضته اسبانا 8,7 مليون دورو. أما في سنة 1910، فقد توصل المغرب في عهد السلطان عبد الحفيظ بقرض من فرنسا بقيمة 163 مليون فرنكا فرنسيا. وهكذا توالت القروض على المغرب بهدف تقييده لإخضاعه للسياسة الإمبريالية. وقد كانت الدول الأوربية المانحة للقروض، خاصة فرنسا وانجلترا واسبانيا، تسعى من وراء ذلك، إلى ارتفاع قوة استغلال المغرب لخيراته، وفي نفس الوقت كانت القروض الأوربية تُمنح بفوائد وتؤخذ أخرى لتسديد الفوائد السابقة. فمثلا منحت فرنسا للمخزن ما بين 1905/1906 قرضا لشراء الأسلحة من الشركة الفرنسية Cruz. أما على المستوى الاجتماعي، فقد ربطه الكاتب بالوضع السياسي المهلهل. ولم يخرج عن قاعدة ما قدمته الكتابات الاستعمارية السابقة عن العلاقة المتوترة بين السكان والسلطة المخزنية، ناعتا السكان الأمازيغ بالجبليين الريفيين، معتمدا في تقسيمهم على المجال الجبلي، واصفا إياهم بثقافة المحافظة، معتبرا أنهم يرفضون الاندماج مع العرب، كما كانوا يرفضون سلطة وإدارة المخزن، معترفين فقط بسلطة السلطان الروحية، كما هو الشأن بالنسبة لقبائل السيبة. أما العرب فقدمهم على أساس أحفاد العرب الوافدين إلى المغرب، منذ عهد الغزوات الإسلامية فانتشروا بالسهول معتبرا الفتح غزوا، وتلك هي الرؤية التي دافعت عنها الكتابات الاستعمارية.
وقسم اليهود الوافدين على المغرب إلى قسمين: يهود مشارقة ويهود اندلسيون، حافظوا على هويتهم. زاعما أنهم يعيشون في عزلة وتضامن بينهم في أحياء تدعى (ملاحات) وسط الأزبال والروائح الكريهة، ومنها تنطلق الأمراض والأوبئة، كالطاعون، والكوليرا، والتيفوس، والجذري. ويشتغلون بالأنشطة النظيفة المقبولة اجتماعيا، ويتعرضون لمضايقات من طرف السكان خاصة الأطفال، وكان لبعضهم مكانة اجتماعية لمقربهم من السلطة.
وتحدث عن الزنوج ساكنة المدن، كعمال في البيوت عند الأكابر من العائلات، كما تحدث عن أسواق النخاسة، غير أنه لم يستفض في الكلام عنها كثيرا، ثم انتقل للحديث عن التركيبة الاجتماعية بالمدن التي قسمها إلى ثلاث طبقات:
- الطبقة الأرستوقراطية المحلية، تعيش حياة استعلاء في التعامل مع الأوربيين، لكنها بدت للكاتب، أنها مهيأة للتعامل معهم، خاصة المستقرين بالمدن. أما الطبقة الثانية، وهي البورجوازية الصاعدة، وقد ارتبطت مصالحها بمصالح الأوربيين أكثرمن الطبقة الأولى، باعتبارها أكثر انفتاحا من الأرستوقراطية.
- أما الطبقة الثالثة، فسماها بالبروليتارية، وتتكون من المهاجرين، سكان الجبال والسهول تحت ضغط وتعسفات القواد وعامل الفقر، وهي طبقة تسعى في أمل التغيير من وضعيتها الاجتماعية. كما أهتم الكاتب بوصف سلوكيات السكان فيما بينهم ومع الآخر، بسيادة الرشاوي ومضايقة المغاربة للأجانب بالشتم والبزق، القائمة على الإهانة، بعدة مدن كأزمور وسلا وآسفي. وأعطى الكاتب إشارات في كيفية استقبال الأوربيين وبطرق مختلفة بين بلاد المخزن وبلاد السيبة،
- وفي هذه الأخيرة، كان الأوربيون يتعرضون لعمليات السرقة والإهانة والقتل.
وعموما يغلب على المٌؤلَف طابع السرد والوصف، ويبدو من خلال التمعن في مضامينه، أنه موجها بخلفية أيديولوجية، تحتوي على (الرسالة الحضارية للإمبريالية نحو العالم المتخلف) و (حاملا لرسالة الرجل الأبيض). وبغض النظر عن كون كتاب “على عتبة المغرب الحديث ” يندرج ضمن الكتابات الاستعمارية، فإنه غني بالأحداث والوقائع والمعطيات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال نكرانها، كما أننا لا نعتبره مصنفا تاريخيا بقدر ما هو عمل إخباري وتقارير صحفية. بالرغم من أن الكاتب وظف بعض عناصر المنهج التاريخي، خاصة على مستوى التوثيق في تنوع مصادره، ويبقى لهذا العمل أهمية كبرى للباحث التاريخي والقارئ المهتم نظرا لأسلوبه البسيط في تناول الاخبار بطابعها السردي والوصفي. وفي مستوى آخر، كان الكاتب مؤطرا بخلفية أيديولوجية أثرت سلبا على عمله، مما جعله يسقط في الكثير من التناقضات، نظرا لطابع الذاتية وغياب الرؤية العلمية. كما غاب عن الكتاب الفكر النقدي للمعطيات، ومن الطبيعي أن يكون كذلك، لأن الكاتب يصنف ضمن (البعثات العلمية الفرنسية بالمغرب) الذين سخرتهم الحكومة الفرنسية آنذاك لتسهيل عملية الغزو الاستعماري بطرق سلسة. ويظهر في إحدى فقرات الكتاب، أنه مدافع عن الشعب المغربي، متمنيا له ولبلده عدالة ومستوى عيش رفيع، وحرية في ظل الوجود الفرنسي بالمغرب وكيفما كان الحال، يمكن أن نعتبر الكتاب وثيقة ترصد جزءا من تاريخ المغرب، مثله مثل الدراسات التي أنجزتها البعثات العلمية الفرنسية، من قادة للجيش وسياسيين ورجال دين باستثناء المتخصصين. لذلك – وحسب ما اعتقد – لا يمكن إدراج هذا المؤلف ضمن الدراسات الاستعمارية المتخصصة، فإذا كان الكتاب قد غطى مرحلة ما بين 1895 / 1912، أي المرحلة العزيزية والحفيظية، وهي مرحلة الصراعات حول السلطة، فينبغي التعامل معه بحذر، لكونه يتضمن جوانب أيديولوجية بمنهج يقوم على أحكام قيمة، ومحاولة بناء نظرية تعميمية، معتمدة على مواقف مسبقة. كما أن قارئ الكتاب لا يجب أن ينساق نحو أيديولوجية وطنية صماء، تؤمن بأن المجتمع المغربي، كان منسجما، لكيلا نسقط في الأيديولوجية المضادة.
ولذلك يلزم التعامل مع الكتابات الكولونيالية في القرن 19 بموضوعية، فلا يمكن رفضها كلية ولا قبولها كاملة، باعتبار كتابات هذه المرحلة، لا تخلو من قيمة علمية، خاصة أن المرحلة تميزت بضعف الكتابات المصدرية المغربية. فعند إحصائنا للكتابات الاجتماعية لهذه المرحلة، نجد أن عدد الكتابات الأجنبية حول مغرب القرن 19م تفوق بكثير ما كتبه الإخباريون المغاربة.
فالعديد من الدراسات، اعتبرت كتاب “على عتبة المغرب الحديث” من أكثر الكتابات الاستعمارية الأقرب إلى المشروع الاستعماري الفرنسي، نظرا لما قدمه من خدمات للحاميات العسكرية الفرنسية، معتبرا لا مخرج للفوضى المزدوجة بين المجتمع والمخزن وما بين مكونات المجتمع، إلا بالاستعمار .
كتاب “على عتبة المغرب الحديث” للطبيب الفرنسي (فريديريك وايس غربر ) Frederic Weisgerber