في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (4)

حسن حامي

في القنطرة جلجلة

لم تمض إلا أسابيع على مغادرة فريق العمل السينمائي المغرب حتى أصبحت القنطرة قبلة للزوار. تم الاتفاق على تفاصيل ترك الديكور كما هو عليه، بموجب رسالة نوايا موقعة بين شركة الإنتاج العالمية الأم، ‘ݣلوبال شيرن وان’، والسلطات المحلية تلتزم فيها هذه الأخيرة بعدم تغيير أي شيء بدون الرجوع إلى الشركة التي التزمت، بدورها، بأداء مصاريف الصيانة والترميم لمدة معينة، مع الالتزام بضخ استثمارات مهمة، إذا سوي موضوع الملكية لاحقا. كما تعهدت السلطات المحلية بحماية متروي من أي مضايقة، بصفته المحافظ الفعلي على كل ما هو منقول في ملكية شركة الإنتاج. ووثقت كل هذا بتسليم توكيل إلى متروي. كما أعطيت له شهادة سكنى رمزية وشهادة مطابقة الإسم لتمكين الموثق من تحرير التوكيل حسب الشروط باسمه الحقيقي؛ ولكن الجميع أغمض عينه عن جزئيات أخرى

ونتيجة لهذه التطورات، ارتفعت أثمنة العقار في المنطقة. حاول متروي أن يحافظ على مستوى العلاقات مع الجميع. استمر في الذهاب إلى الحمام العمومي مرة في الأسبوع، والجلوس في المنتزة، كلما سنحت له الفرصة، والحديث مع الشباب، الذين غيروا من طباعهم بعض الشيء، ولو أنهم استمروا في عمليات تنظيف القنطرة. ولكن متروي لم يكن سعيدا بالمعاملة التي أصبح يحظى بها. لماذا؟ لأن كثيرين أصبحوا يوجهون له الدعوة لحضور أنشطة هو في غنى عنها، كتعبير عن مستوى الاحترام الذي يكنونه له. ولكن الشيء الذي كان يشغل باله أكثر، هو غياب أصدقائه الحقيقيين: الكلاب والقطط والجرذان. كان يحن إلى ساعة القراءة أمام السباعي الأمين الذي اختفى وكأن الأرض ابتلعته. ربما لم يرق لهم أن متروي أصبح يسكن في شبه غرفة مفروشة أهدتها له ‘ݣلوبال شيرن وان’ بجانب العربة والمكتبة الصغيرة التي حول جزءا من محتوياتها إلى ركن أمين من الغرفة. ولم يتجرأ أحد ليسأله لم فعل ذلك؟  لكن الشيء الوحيد الذي سهر على تنفيذه، هو إعادة ترتيب الكتب بطريقة عشوائية غير مفهومة، وهو الذي كان يحرص على تنظيم الكتب بعيانة كبيرة. حتى الإلهام، الذي كان مبعث فخر له، وهو يدون خواطره في المفكرة السوداء، أخلف الميعاد. حتى الكوابيس، التي أمطرت فكره وملأت بعض صفحات المفكرة البنية، سافرت بعيدة عنه. ورغم ذلك، لم يستسلم. كان يعلم علم اليقين أن كل هذه المستجدات سوف تدخل في عرف التداول وأن الناس سوف ينسون كل شيء بعد حين. ذاكرة الناس كالممحاة تمسح نفسها بالاحتكاك بين المقبول والمنبوذ في حركية يتحكم فيها لهيب الانتظارات. هكذا هم البشر، رجل هنا ورجل هناك إلى أن ينتهي الجسد في حفرة

نعم، لم يكن متروي سعيدا. زادت من همومه الصفة التي أصبح يتمتع بها كمحافظ افتراضي لمواد منقولة، بينما يظل غير المنقول في ملكية المجهول. كان يعلم أن التوكيل الذي حصل عليه لا يعني شيئا وأن المتربصين به لن يتركوه في حال سبيله. آه! مشكلة الملكية التي طفحت من جديد. كم سمع من روايات جديدة!  كم سمع عن مشاريع رائعة! غير أن الذي جعل كبده يقفز من بين أحشائه، هي الدعوة التي وجهت إليه لحضور اجتماع في الوكالة الحضرية يتطرق لمشاريع مهمة، من بينها محيط القنطرة. تردد كثيرا، ولكن مصطفى نصحه بالحضور وإلا سيعرض نفسه لمشاكل كثيرة. بأي صفة سيحضر؟ فهو يعيش في جنبات قنطرة، تحت عنوان رمزي لا قيمة له؛ كما أن التوكيل الذي بحوزته لا يعدو أن يكون سوى ورقة قد يصيبها التقادم بدون سابق إنذار. كما أن ‘ݣلوبال شيرن وان’ قد تنسى حتى وجوده. فقد أخبره رائد أن الشركة لها أطماع في المنطقة كلها نتيجة تطور البنية التحتية وإطلاق مشاريع ستغير من شكل العاصمة الاقتصادية كلها. هذا يعني أنها تركته في المكان ‘كمسمار جحا’. حضر إلى الاجتماع. ولم يطلب منه أحد رأيه فيما يدور، ولكنه كان محط الأنظار بشكل أو بآخر، وبالأخص من قبل ميمون، الذي أسرّ إلى الجميع بأنه سينال منه عاجلا أم آجلا

لم يكن تبادل الخطابات والمداخلات غريبا عليه، فقد جرب ذلك في تافراوت، أيام كانت حياته سليمة وعادية ومملة في أكثر الأحيان. انتهى الاجتماع من دون التطرق لموضوع ملكية القنطرة ونواحيها، نظرا لعدم حضور ممثل إدارة الأملاك البحرية ورفض ممثل إدارة السكك الحديدية الحديث في غياب جميع المعنيين، منهم أبناء وحفدة من يدعي ملكية جزء أو أجزاء من الأرض. وكانت وجهة نظر متروي أن ذلك كان مقصودا. ماهي حجته؟ اللغط والمقالات الصحفية التي شغلت الرأي العام حول الترامي على الملك العام في شواطئ متعددة في البلاد وعدم رغبة الإدارة المعنية ــ وربما جهات أخرى ــ في فتح هذا الملف نظرا لخطورته من جهة، ولتورط بعض الوجوه، من جهة أخرى. كان الجميع يلعب ورقة الوقت والحظ معا. لكن الوضع كان مختلفا بعض الشيء هذه المرة. فالمشاريع المسطرة كبيرة ومهمة ولا بد من إنجازها، مهما كلف ذلك من ثمن ــ ولو غضب البعض وأزبد وأرغى البعض الآخر. مشاريع التهيئة لا بد منها لجعل الدار البيضاء حاضرة عصرية بكل المقاييس. لم لا وهي التي تجعل الناس يحلقون في الأعالي وينسجون حكايا لمجرد ذكر أحد أيقونات السينما العالمية فيلم “كازابلانكا”؟ هذه الذكرى التي ما لبثت، مع تطور الأحداث، أن أوحت بأفكار جنونية لمتدخلين من عيارات مختلفة

عندما عاد من الاجتماع، كتب في المفكرة السوداء

” كم أنت حاضرة غائبة أيتها الحكمة، وأنا أعلم أن الركب قد فاتني، وأنني أصبحت مطية رغم أني أجيد الركوب، أنا الفارس ابن الفارس أبا عن جد! كم أنت غائبة حاضرة، أيتها الدمعة المتمردة التي سكنت بؤبؤ عيني، أنا الذي رويت من دموعي عروق المصالحة مع نفسي! كم أنت حاضرة غائبة، أنت التي تركت أريجك يتجول في خياشيمي منذ أن هجرت أݣادير للترحال في ركب السذاجة التي لم تطرق بابك من قبل! كم أنا حاضر غائب، وأنا أنشد حبلا مفتولا قد يسعفني لأتسلق جبال الحرية أو ليدفعني إلى أن أشنق نفسي… وإلى الأبد

لم ينم تلك الليلة، ولم يسمع حركة، ولم تشفع له قراءة أحد الأوراد التي كان جده، مستقيم، يرددها ليل نهار توخيا للسكينة. لم ينم، لأنه كان يعلم أن القادم سيكون أقسى وأعظم. لم يخطئ حدسه. بدأ الأمر حين اتصلت به صحفية شابة، بتوصية من رائد، وطلبت أن تجري معه مقابلة لفائدة جريدة إلكترونية تعنى بأخبار الثقافة والفن، وتعتمد مقاربة ذكية في إطار الإعلام الاستقصائي. كان موضوع المقابلة، هو تجربته في فيلم عالمي والحديث عما يمكن أن يكون قد سجله من مستملحات، تضاف إلى وصلته مع جينفر. علم أن الصحفية تريد منافسة صحفي وناقد سينمائي ومسرحي اشتهر بنقده اللاذع للفنانين. كان أحيانا موفقا، وأحيانا أخرى، بدا متحاملا أكثر من اللازم في نظر من يستجوبهم. كما اشتهر بقراءة مجهرية للسينما كانت تستفز المستمعين والقراء في بعض الأحيان. ولكن كان يشفع له تكوينه الجيد وطريقته المحترفة في إدارة الاستجوابات. قرر متروي أن يقبل دعوة الصحفية. أنجز الاستجواب في ظروف جيدة، وفي محيط العربة، بناء على إلحاح كبير من جانبها. كانت الأسئلة مهنية في مجملها.  وقبل أن تنهي المقابلة، سألته سؤالا مفاجئا

سمعت أن شابة تزورك بين الفينة والأخرى. وسبب سؤالي، الذي لن أضمه إلى الحوار بيننا، هو السيل الوافر من تعليقات الناس. أنت أصبحت شخصا مشهورا، وقد أنشأت مجموعة من الشباب مجموعة فايسبوكية تحمل اسمك واسم جينفر. هي صفحة للتسلية، ليس إلا.  طبعا، أنت حر إذا لم ترد أن تجيبني، سأتفهم الأمر

ـــ حتى أنت، يا ابنتي، شغلوك بموضوع لا يستحق كل هذا العناء

ـــ فقط، من أجل الفضول

ـــ لن أجيبك، لأن الموضوع معقد. ومن السابق لأوانه الحديث عن أية تفاصيل

ـــ هل هي قصة حب من نوع جديد؟

ـــ لا تذهبي بعيدا يا ابنتي، هل لكهل في سني أن يغامر في المستحيل؟ لا، أبدا، فقط أظن أن الموضوع، على تعقيداته، لا يستحق أن تهتمي به

ـــ كما تشاء؛ وقد سررت حقا بمعرفتك. وهذه الكتب، إنها رائعة. قيل لي إنك تقرأ كثيرا

ـــ إنها الوسيلة الوحيدة التي تساعدني على القيام بنميمة راقية

ـــ نميمة راقية؟ كيف؟

ـــ عندما نقرأ كتابا ــ لنأخذ مثلا كتابا يهتم بالتاريخ ــ فإننا نتلقى أخبارا عن أمم وشعوب وأشخاص وأحداث هامة؛ ونقوم بنقل ما عرفناه إلى آخرين كتابيا أوشفهيا؛ وهؤلاء بدورهم ينقلون أخبارا أخرى ويصححون معلوماتنا، ونصحح معلوماتهم، وهكذا… أليس هذا نوع راق من النميمة؟

ـــ لم أفكر في هذا من قبل

ـــ كل ما نتناقله من أخبار، وكيفما كانت الوسيلة، هو نميمة. ولكن نميمة الكتب تكون سلسة ولا نتقاسمها بنفس السرعة التي نتقاسم بها أنواعا أخرى من النميمة

ـــ أنت شخص غير عادي! وثق بي هذا إطراء وإعجاب، وليست سخرية

ـــ سعدت بمعرفتك

ـــ قد أعود لزيارتك مرة أخرى. أحببت هذا المكان، وهذه الطاقة الإيجابية التي تتدفق في كل ركن منه

ـــ مرحبا في أي وقت، رغم أني لن أمكث هنا إلى الأبد

ـــ نعم، أتفهم، أنت تستحق مكانا أرفع للعيش

ـــ أرفع مكان للعيش نحمله في ذهننا، ويتشكل من هذا الجسد الذي نتفنن في نكران فضله علينا

(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com