أقصوصة لعبد العالي أناني

أقصوصة لعبد العالي أناني
عبد العالي أناني

رسالة مشفرة: لحظات صفاء في زمن كورونا  

منذ زمن غير بعيد أصبتُ بخيبة أمل، بطعنة غادرة جعلتني أكره نفسي. لم أعد أطيق الثّبات طويلا بنفس المكان وخاصة بالبيت الذي يذكرني بالخائن، الذي طعنني مبتسما وغادر دون أن يلتفت. رائحته تسكن جميع الأركان، والحيطان تتنفس صورته. صارت نفسي تهفو إلى البحر، أجلس قربه لساعات، أشكو إليه خيبتي وضعفي وقلة حيلتي. حين أتعب أجوب الشوارع والأزقة ليزداد تعبي، فاستطيع النوم بمجرد أن أستلقي على السرير. اختصرت حياتي بين البكاء والتجوال إلى أن حل الوباء وانتشر. أعلن شروطه، وأرغم الجميع على المكوث بالبيوت.مرغمة وخائفة من الفيروس الجديد جلست ببيتي، الذي لم أكن أطيق البقاء به طويلا، أنظر إلى جدرانه التي تحيط بي وتذكرني بما أصبحت عليه، سجينة. سجينة وسجانا في نفس الوقت. تحول البيت الذي طالما اجتهدت وأبدعت في تحويله إلى جنة حيث ترتاح نفسي، وأرمم ما أفسده الروتين اليومي، والحروب التي تشتعل خارجه. لم يخطر ببالي ولو لبرهة من الزمن أنني سأشتاق إلى ذلك الروتين الممل، وإلى تلك الحروب المجنونة التي ترسم الحياة خارج حيطان البيت
كدت أجن؛ ذكراه التي تسكن البيت تقتلني، والجدران التي تتنفس صورته تخنقني وتضيق علي، أكاد أشعر بها تضغط عليَ وتكسر ضلوعي. الخارج أصبح ممنوعا والداخل كابوسا، فما العمل؟ لابد لي من متنفس جديد، خاصة مع الإعلان عن حالة الطوارئ، والحجر الصحي. حين أوشكت على الموت ضجرا، تذكرت ما قاله العلامة “شمس الدين التبريزي”: “الوحدة والخلوة شيئان مختلفان، فعندما تكون وحيدا، من السهل أن تخدع نفسك ويخيل إليك أنك تسير على الطريق القويم. أما الخلوة فهي أفضل لنا، لأنها تعني أن تكون وحدك من دون أن تشعر بأنك وحيد. لكن في نهاية الأمر، من الأفضل لك أن تبحث عن شخص، شخص يكون بمثابة مرآة لك، تذكر أنك لا تستطيع أن ترى نفسك حقا، إلا في قلب شخص آخر، وبوجود الله في داخلك”
فقلت لنفسي قدمتْ العزلة للعالم روائع أدبية خالد، وعظماء خلد التاريخ أسماءهم، فلماذا لا أستغل عزلتي لأجد لنفسي مخرجا وبوابة تعيدني للحياة من جديد؟
اعتبرت الحجر الصحي خلوة، وبحثت عن لحظة صفاء، تمكنني من رفع الستار الذي يحد من مدى الرؤية، ويحجب الحقيقة. مع مرور الوقت أصبحت أعتاد على الوضع الجديد، وأدركت بعد جهد جهيد، أن ذلك الصفاء الذي أبحث عنه لن ينبع إلا من عمق ذاتي، حيث تتكدس آلامي ومشاكلي وأحزاني
بعد صراع نفسي طويل وجدت الطريق لاستعادة ذاتي، واستخراج المطلوب لجبر الضرر، ولو بألم ومعاناة ودموع
حياتي لم تكن يوما ملكي. قلبي ذلك الطفل العنيد لا ينساق لرغباتي وغالبا ما يصدمني ويجز بي في دوامات تتحول إلى مآس. بوجوده قاس عنيد اعتدت على الكبوات، على الخيبات، على الضربات التي تبشر بعكس توقعاتي، ومع ذلك كنت أقف وأستمر في العيش، لأني كنت غارقة في الحب. حب أتى متأخرا، لفني بشبكة أرفع من تلك التي يلف بها العنكبوت ضحاياه، وتحولتُ إلى كيس ملاكمة مصنوع من الجلد السميك، ليتحمل اللكمات التي ترتطم به بلا انقطاع. مع ذلك أحببت رجلا. وبالحب عشت وتحملت ذل العشق. ذلك العشق لم يكن عاديا، بل لم يكن حبا، كان مرادفا للخنوع، وللاستغلال. برحيل من يسكن أعماقي تحول ذلك الحب الذي كنت أحيا من أجله إلى وخزات
غادر الرجل الذي حجب الدنيا لسنوات. لم أكن أرى غيره، فجأة اختفى من الصورة التي كانت تختزل الكون. لم أظن أن الفرحة توجد خارجها. كنت قد اكتفيت ورضيت وكرست كل ما أملك لتبقى تلك الصورة بهية لامعة. لكنه ضجر وغادر مع أول نسمة داعبت أنفه، أغمض عينيه وانغمس في أحضانها وهاجر في الاتجاه الذي قادته إليه، ونسي كل شيء. نسي الصورة، نسي كلامه الذي كنت أعيش على نغماته، نسي وجودي. انتشى بالنسمة الجديدة واختفى في هبوبها
انطلقت الواخزات التي تدمي الروح. وخزات حادة تُغرس مباشرة في قلبي العنيد، الذي لم ينتبه للهوة التي كانت في ذيل الغادر، التي حولته إلى مصدر آلام مستمرة حين استقر في قعرها. وخزات كانت هي ميراثي، تركه لي من رحل، من تركني خلفه وانصرف، كأني شيئا متهرئ تم رميه لانتهاء صلاحيته. انصرف ليعيش، وتركني أحيا ولا أعيش. أحيا ميتة. الحب الذي كان يحييني فيما مضى انساب من بين أصابعي وأنا أنظر إليه عاجزة
لكن الحمد لله؛ العزلة جعلتني أكتشف نفسي من جديد، أعيد حساباتي، وأمد يدي للمرأة التي كانت تعيش بداخلي، شعرت بضعفها، بكبريائها، وبجبروتها حين وثقت بنفسها وبقدراتها على إعادة خلق الحياة. فقلت لنفسي
ليكن؛
ليذهب إلى الجحيم. لا بد لحياتي أن تستمر. لماذا أنتظره وأنا أعرف أنه لن يعود؟ الحب في حضرته عذاب. والعذاب؛ غباء حين يكون من أجل شخص لا يقدر الحب. سوف أحب من جديد. وأعيش لنفسي كي تقدرني الحياة، فالحياة لا تقدر من يستهين بنفسه. فشكرا لجانب كورونا المشرق الذي أعاد إليّ الحياة، وعلمني أن أنصت إلى أعماقي، ولا أنخدع بزيف الصورة، فالحياة مستمرة لا تنتظر المنتظرين ولا المنخدعين أمثالي
عبد العالي أناني                                                                                                                                                                                    

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com