وهذه الاحتفالية، قبل ان تكون نظاما في الحياة، وتكون منظومة افكار في الوجود، فهي اساسا حالات ومقامات، وهي رحلات ومحطات وهي اختيارات ومبادرات، وهي تأسيس وإعادة تأسيس، وهي تبحث دائما عن وجودها في المستقبل، ولا تقول بأنها كاملة الوجود
يقول الاحتفالي ان الاشياء الخاطئة يمكن تصويبها والأشياء الناقصة يمكن ان تكتمل بالإضافات الجديدة، والأشياء القديمة يمكن ان تتجدد بالأفكار الجديدة وبالاجتهادات الجديدة، ودور الفن هو إعادة بناء الوجود، وهو إعادة تركيبه، وإعادة ترتيب الأولويات فيه
وبهذه الرؤية الجديدة والمجددة، يصبح العادي مثيرا ومدهشا، ويكون ممتعا ومقنعا ايضا، ويكون مستفزا ومحرضا على التفكير، وعلى إعادة التفكير، وبغير وجود الفنون ما كان للجمال ان يكون في هذا الكون
والاحتفالية تعتبر بأن القديم لم يولد قديما، وبأن الجديد لا يمكن ان يظل جديدا إلى ما لا نهاية، مما يدل على أنه ( لا جديد للقديم بشكل مطلق، ولا وجود للجديد بشكل كلي، وأن النسبية هي مقياس كل الأشياء، في عالم الأشياء، إن الأساس هو فعل التجديد، والذي لا يتوقف ابدا، والذي كان دائما ومازال اساس التقدم والمدن، وأساس التحضر والتطور في تاريخ الإنسان والإنسانية، وأن هذا الإنسان المبدع والخلاق ، وعبر كل مسيرته ومساره، لم يفعل شيئا سوى انه جدد الأشياء القديمة، وانه جدد علاقته بذاته القديمة أولا، وجدد علاقته ببيئته وبمحيطه وبهذا العالم القديم جدا ثانيا، لقد انزل الأشياء والكلمات والأسماء والمفاهيم والآراء والمعتقدات من السماء إلى الأرض، واعطاها بعد ذلك منازلها الجديدة، وحدد لها وظائفها وادوارها الجديدة، وجعلها تبدو للعين جديدة، وهي في الأصل قديمة)
الاحتفالية اختيار دقيق ومركب
يخطئ من يظن ان الاحتفالية هي اختيار فني، او هي اختيار ادبي، او هي اختيار جمالي، لأن الأصل فيها هو انها اختيار وجودي قبل كل شيء، وهي اختيار متبادل ومقتسم، بيننا وبينها، وهي تختارنا ونحن نختارها، من حيث ندري او لا ندري، وبهذا فإن الاحتفالي الصادق يولد احتفاليا، برؤية احتفالية، ويعيش احتفاليا، بأخلاق احتفالية، ويموت احتفاليا، وهو على(دين) الاحتفالية
هما اذن، اختياران اثنان أمامنا ليس لهما ثالث، لأن الاختيار الثالث معناه الاستقالة، او معناه الهروب، او معناه دفن الراس في الرمال، اما الاختيار الأول، في حياتنا وفي حياة مسرحنا، فهو أن نكون مع الاحتفال، ومع التعييد الوجودي، ومن خلاله نكون بالضرورة مع الحياة ومع الحيوية، ونكون مع الفرح ومع العلم والفن والفكر ومع فقه الفرح، وأن نكون مع الطبيعة ومع التاريخ ومع الجمال ومع الكمال، اما الاختيار الثاني فهو الاختيار المأتمي، او هو الاختيار العدمي، او هو الاختيار الظلامي، او هو الاختيار العبثي، او هو الاختيار الفوضوي، وخارج هاذين الاختبارين الأساسيين، فإنه لا وجود لشيء حقيقي في الوجود، وبهذا يكون المسرح الاحتفالي اكبر واخطر من ان يكون مجرد تقنية، او يكون مجرد موضة عابرة، او يكون زيا ادبيا او فنيا فقط، وهو في معناه الحقيقي اختيار الوجود الحق، وهو اختيار الذات العارفة والعالمة، وهو اختيار الحس السليم، وهو اختيار الصراط المستقيم، وهو اختيار الامتلاء، بدل الفراغ والخواء، وهو اختيار الحق والحقيقة بدل الزيف الكاذب
وبخطيء من يظن اليوم ان هذه الاحتفالية هي مجرد جماعة من المسرحيين، التقت في أحد الأيام صدفة، واختارت اسما من الأسماء صدفة، وكتبت بيانا على عجل صدفة، وانه قد نشرته واذاعته في الناس، وسمت نفسها جماعة المسرح الاحتفالي. وما لا يعرفه البعض، هو أن الاحتفالية ليست جماعة، ولكنها مجتمع، وأن تلك الجماعة كان لها دور مؤقت، وهو وضع هذه الرؤية على الطريق، وبذلك فقد اختفت كلمة الجماعة من البيانات ابتداء من البيان السابع، كما اختفى اسم المسرح الاحتفالي، وأصبح الأمر يتعلق بالاحتفالية، والتي يمكن ان ينتسب إليها الأفراد، وأن تنتسب لها الجماعات المختلفة، في المغرب وفي كل العالم
وهذا سؤال طرحه الاحتفالي على نفسه في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفيما وراء اليومي) والسؤال هو (الا تكون الاحتفالية (بديلا) – من حيث تدري او لا تدري – لفشل الايديولوجيات التقدمية، وذلك في الستينات السبعينات والثمانينات؟)
ودعوتها إلى الحوار والى التلاقي إلى (التوحد الإنساني والى الحوار والتساكن والتعايش، الا يكون ردا على التشرذم الحزبي والطبقي، وعلى التخندق الايديولوجي، وعلى الانغلاق والانكماش داخل الذات، والاكتفاء بعلمها و (حقائقها) الوهمية؟)
لقد اختارت الاحتفالية الإنسان واختارت الإنسانية، واختارت الحياة، واختارت الحيوية، واختارت المدينة واختارت المدنية، ولقد كانت دائما مع انسنة الإنسان، وكانت ضد تحويل هذا الكائن الإنساني الفاعل والعاقل إلى وحش في غاب، او إلى مجرد لولب في آلة جهنمية كبيرة وخطيرة، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالية تؤكد على أن (الإنسان أكبر من ان يكون مجرد آلتين فقط، ولا شيء سوي ذلك، آلة للإنتاج وآلة للاستهلاك)
الاحتفالية ودرجات التجريب
ليس عبثا على الإطلاق ان هذا الإنسان ركب وجهه في المقدمة، وركبت عيناه في وجهه، وليس في قفاه، وهو بهذا مطالب في حياته بأن ينظر أمامه وليس خلفه، وأن يحيا يومه وعينه على الآتي غدا، وأن يكون جسدا متحرك وان يمشي باتجاه ما هو غائب وما هو ضروري وما هو أجمل وكل أماه نافع وكل ما هو كامل، أو شبه كامل، أو هو في الطريق إلى الجمال والكمال وفي هذا المعنى يقول الحكواتي في احتفالية (المقامة البهلوانية)
(يا هذا، كن مع الغد الآتي، ولا تكن بعقل الأمس الذي كان)
ولأن الإنسان ينظر أمامه. ولأنه يعيش يومه ويسعى من أجل أن يتحرر منه، فقد تطور عبر التاريخ، واستطاع ان يكتشف، وأن يخترع، وأن يبدع، وان يبني، وأن يؤسس، وأن يتطور، وأن يتجدد، وأن يتم كل هذا بفعل حيوبة التجربة والتجريب، وأن يحول وجوده اليومي إلى مختبر مفتوح على الجديد وعلى المثير وعلى المدهش وعلى الغرائبي وعلى العجائبي
في البدء اذن، كان الرهان على الممكن، وكان الاقتناع بأن هذا الكائن ناقص، وانه غير تام وغير نهائي، وانه في في حاجة متجددة إلى التعديل والى التصويب والى التجديد، ولقد رافق الإنسان إحساسه الفطري بأن هناك أشياء غائبة كثيرة ينبغي أن تحضر، وهناك اشياء أخرى ناقصة ينبغي أن تكتمل، وهناك اشياء غيرها غامضة ينبغي أن تتضح، ولقد اعتقد هذا الإنسان منذ القديم بأن تغير الأشياء شيء ممكن، وبذلك كان السحر هو المدخل الأساسي للقفز على الكائن ولاستحضار الممكنات الغائبة والمغيبة والمهربة
هل يصح ان نقول بأن الاحتفالية قد انطلقت من هذه الدرجة؟ اي من درجة الشك في الموجود، ومن درجة الاقتناع بأن هذا العالم الجديد يحتاج لان نحسه صباح كل يوم جديد بإحساس جديد، وأن ننظر اليه بعيون متجددة، وأن نؤمن بالسحر الحلال في الإبداع الادبي والفكري والجمالي المجدد والمتجدد
هذه الاحتفالية، انطلقت في تفكيرها وفي فنها وفي علمها، من درجة الصفر، وكانت طفلا بريئا في عالم مهدد بالشيخوخة، وكان ضروريا ان تعيد التفكير في كل شيء، وعندما اقول الصفر، فإن هذا الصفر في الاحتفالية لا يعادل الفراغ، ولا يفيد الخواء، ولا يعني العدم، لأن كثيرا من الأشياء ومن المعاني موجودة فعلا، ولكنها غائبة، او غامضة، او خفية، او مهربة او مزيفة او مركبة تركيبا خاطئا، ووجود ورقة بيضاء فارغة وصافية احسن الف مرة من اوراق كثيرة جدا، مملوءة كلها بالأخطاء وبالخربشات وبالهرطقات المضللة
ونفس ذلك الحكواتي، وفي نفس تلك المقامة البهلوانية هو الذي قال
(انا لا اطرق نفس الباب مرتين)
وانا الاحتفالي ايضا، اقول نفس قوله، لأنني لا اعيش حياتي مرتين، ولا امشي في نفس الطريق مرتين، ولا اكتب نفس الكتابة مرتين، ولا أحيا نفس الحالات مرتين، وهذا ما جعلني اقول (انا لا أوجد في نفس المسرح الوجودي مرتين، وانا لا أكتب نفس المسرحية، ولا انكتب فيها وبها مرتين)
والعالم الاحتفالي هو عالم متحرك، عالم يمشي إلى الأمام دائما، وقد يمشي إلى الأعلى أيضا، وقد يغوص في الداخل كذلك، وهو عالم يبحث عن مضاعفه، وعما يخالفه ويختلف عنه، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) يقول (لا شيء إذن ثابت في مسرح الوجود، ولا شيء ثابت في مسرح الحياة، ولماذا لا يكون المسرح المسرحي متغيرا أيضا، وما هو إلا الحياة، أو صورة الأيام والليالي، وصورة التاريخ وصورة الحقيقة؟
إنه لا شيء ثابت في المسرح إلا.. الإنسان والمكان والسؤال الوجودي والقضية، وحيثما يحضر هذا الإنسان، في اي مكان وزمان، تحضر معه القضية، وأقدم كل القضايا واخطرها هي قضية الوجود، يكون او لا يكون هذا الإنسان؟ ذلك هو السؤال الوجودي الذي مازال يتردد في كل مسارح العالم، ولكن بأشكال وصيغ متعددة ومتنوعة)
ويقول اخي الاحتفالي عبد السميع في احتفالية (عبد السميع يعود غدا)
(الأبعد هو الأصدق دائما
والأعلى هو البدء وهو الأصل
والآتي هو الأجمل والاكمل
وإلى جانب كل هذا، فهو الأشرف، وهو والأنبل يا صاحبي)
والتجريب هو الحياة، والحياة هي التجدد وهي الحركة وهي الفعل والانفعال، وهي التفاعل والفاعلية، وقبل هذا هي الحرية والتحرر، وبحسب الاحتفالي فإنه ( لا معنى لفعل هذا التجريب ان لم تكن فيه مجدا ومجتهدا ومتحديا وساخرا وعرافا، وأن تكون طارق أبواب مغلقة، وأن تكون مبدعا وخلاقا، وأن تكون مشاغبا ومستفزا، وأن تتوفر بداخلك على روح الفنان المبدع، وأن يكون لك سؤال آني وجديد، وأن تبحث له يوميا عن جواب جديد، وأن تكون لك قضية فكرية وجمالية حقيقية، تعيش بها ولها، وتقتسم ها مع الناس، وان تكون لك أرض تقف عليها، وأن تكون لك فضاءات واسعة تتمدد فيها، وأن يكون أمامك أفق رحب تمشي باتجاهه، وأن تكون بداخلك ذاكرة غنية بالحالات والصور والمشاهدات، وأن يكون لك في عملك الفكري والجمالي هدف، لأنه لا معنى لتجريب بل يعي نفسه، ولا يدرك حدوده، ولا يتمثل شروطه الذاتية والموضوعية، ولا وجود تجريب حقيقي مع التكرار والاجترار، ومع ترديد المسلمات والبديهيات، ومع حضور النقل وغياب العقل، ففي التجريب نحيا بشكل مختلف، ونعرف انه لا معنى لأية حياة جديدة ان لم تكن حياة مختلفة ومخالفة، ولم تكن تحمل رؤية جديدة للوجود والحياة، ولم تكن حاملة لقيم جديدة مغايرة)
وعليه، فيمكن ان أقول ما يلي: إن اقتباس تجريب الآخرين ليس تجريبا، وان إعادة تجريب نفس ما تم تجريبيه من قبل، من طرف الاخرين، في الثقافات الأخرى، هو بالتأكيد فعل زائد وبلا معنى، وهو مجرد اتباع لا علاقة بالإبداع، ومن المؤكد ان ناقل العلم ليس عالما
وان ناقل الإبداع ليس مبدعا
وان ناقل التجريب ليس تجريبيا
Related
Zahra
زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية
المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام
Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian
Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French)
هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة
كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر
رابط الموقع: Alwanne.com