في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (3)
في القنطرة جلجلة
استمر في الكتابة
النجاح والفشل ليسا سوى لحظة ولا يدوما أكثر من غمزة المفاجأة إن كانت فرحا أو حزنا. ويمكن قياسهما من خلال عدد المتوافدين للتهنئة وعدد المنسحبين لحظة التعزية
توقفت يده عن الكتابة. لمَ يجاري هؤلاء القوم ويروي لهم خواطره؟ هذا القلم الأخضر يتصرف مثل جودا ومسيلمة ويبدو حرباء زمانه. عاد إلى الكتابة
مرات أقرأ طالعي في كف يدي، فأطرد تهيؤات الطاقة السلبية كلها. وأراجع نفسي وكأنني اقترفت ذنبا لا يغتفر
انتابه العياء، سقط القلم من يده. وأغمض عينيه ينشد بعض الراحة
ـــ أين وصلت؟ سأله معروف
قص متروي الورقة التي دون فيها ما كتب وناولها إياه. قرأها معروف وقال
ـــ جميل ما كتبت، ومعناه عميق، ولكنه لا يرقى إلى درجة الحوار الذي دار بينك وبين جنيفر. لحسن الحظ، أن إحدى الكاميرات كانت تشتغل عشوائيا عندما كنتما تتحاوران. ورغم ذلك، أظن أن بإمكاننا استعمال الخواطر التي كتبتها. سيكون من الصعب ترجمتها إلى الانجليزية. سنحاول. أما الآن، استعد لتصوير المشهد. هل تذكر التفاصيل أم تحب أن أفسر لك من جديد؟
ـــ لا داعي
كان السيناريو المعدل، على ضوء ما حدث، يتطلب أن يطل متروي من تحت العربة، حيث كان نائما، ثم يتوجه صوب المرحاض ولا يجد ماء. وعوض أن يصرخ، يجلس القرفصاء، يتأمل يديه، ثم لا يلبث أن يقف ويسير تجاه القنطرة، حيث يثير انتباهه ما يشبه صبيب ماء. وما أن يصل إليه حتى يكتشف أن أحد المارة كان يتبول من أعلى القنطرة. لا يتمالك نفسه، فيردد بصوت عال
“العادة تقتل الإبداع ولكنها تلعب دور المسكن الذي يكبح جماح المغامرة”
لكن المخرج ارتأى أن يعطي للمشهد بعدا أقوى، فطلب أن تنظم جينفر إلى المشهد، وذلك على النحو التالي: عوض أن يصور عابر السبيل وهو يتبول، تظهر جينفر وهي تنظف جنبات العربة ويرتجلان حوارا شبيها بالأول. لم يستوعب متروي المغزى؛ تطلب الأمر تدخل معروف لإقناعه بضرورة القيام بذلك. لم تكن جينفر نفسها متحمسة للفكرة، ولكنها كممثلة محترفة، قبلت
بدأ التصوير. متروي جالس القرفصاء يحمل رأسه بين يديه وعلامات الاستسلام بادية عليه
ـــ نعمت صباحا
تخاطبه جينفر، وهي تظهر فجأة من خلف العربة
يقفز متروي، ويقف مذعورا. ينظر إليها وكأنه في عالم آخر، ويسألها
ـــ من أنتِ؟
ـــ أنا، أنتَ
ـــ ماذا تريدين مني؟
ـــ لا شيء
ـــ كيف دخلت إلى العربة؟
ـــ مثلما خرجت منها. ما الذي يزعجك؟
ـــ كنت أريد أن أتوضأ، ولكن الماء مقطوع
ـــ تصرف! لا بد من حل بديل. أنا متأكدة بأنك ستجد الطريق، كما هي عادتك
ـــ العادة تقتل الإبداع، ولكنها تلعب دور المسكن الذي يكبح جماح المغامرة
ـــ هل أنت خائف، ولا تحب المغامرة؟
ـــ المغامرة سلاح ذو حدين
ـــ عيناك تغرقاني في هوس المستحيل الذي يكشف عورة المغامرة
ـــ أعرف ذلك؛ لأنني هارب أزلي لا أستقر في أرض ولا أحب سواي
ـــ لم لا تذهب معي؟ سأعلمك فن المغامرة
ـــ أنا أخاف ركوب البحر
ـــ البحر؟ هل تخاف تياره؟
ـــ عندما تسبح ضد التيار، تتكالب عناصر الطبيعة كلها عليك وتفوض للموج الغاضب أمر تكسير شوكتك وابتلاعك
ـــ إن كان هذا هو اعتقادك، لم تقرأ؟ أحرق مكتبتك
ـــ أقرأ الكتب كي أجد فيها ضالتي، ولكني عندما أصل إلى آخر سطر، لا أقف على شيء يذكر، ورغم ذلك، أشعر ببعض الانتشاء، لأن لحظات القراءة تكون أجمل شيء حدث لي ينسيني كم هي بئيسة كل محاولاتي في البحث عن ضالة بين سندان ومطرقة
ـــ كم هو عميق هذا الحزن الذي يتوزع بين أحشائك
توقفا لحظة، ونظرا إلى بعضهما البعض. انتفضت جينفر، وتحدثت، وكأنها تخاطب نفسها
ـــ من قال إنني سأقف هذا الموقف، لأحاور معتوها قد أكون وقعت في حبه، وهو عابر سبيل، عيناه تلمعان بالذكاء وهو لا يدري كم شوقا تاقت إليه نساء… وكأنه يهدد سلم الأحياء في هذا المكان الذي لم تطأه قدم عاقل. هل من الممكن أن تنتعش أطرافي بصبيب ما زال يتكون في عين خرائطها خردة كتب وقش لم تقبل أن تعيش فيه حتى الجرذان… مرات، أكره نفسي
نظر متروي إليها وعيناه تقدحان غضبا، وأجاب
ـــ مرات أفيق على غناء ديك الجوار عند الفجر، وأحاول أن أغلق أذناي، لأني أعلم أن ديكة أخرى تساق إلى سوق الدجاج لتباع أو تذبح. مرات يزعجني نباح الكلاب، وكأنني أجهل أنها تقوم بدور الحراسة لكي ينعم أصحابها بنوم لذيذ. مرات أتطير من بائع خردة متجول وأتمنى أن تطرده عناصر القوات المساعدة، ولكني أتناسى أن ناسا تبيعه خردة لتتخلص منها، وأن ناسا تشتريها منه، وهي سعيدة باقتناء شيء جديد بالنسبة لها. مرات أرى نساء يخرجن من الحمام العمومي ويمشين بسرعة، وأنا أعلم أنهن يخفن على طهارتهن من نظرات رجال مهوسين يحاولون تدنيسهن من جديد
ـــ أفق يا سيد متروي
انتفض مذعورا، ليجد رائد واقفا أمامه
ـــ ما الذي حدث؟
ـــ لا شيء؛ كنت نائما على الأرض، وتتوسد كتبا
ـــ أين معروف؟
ـــ لا أدري، الجميع ذهب للراحة. أين وصلت في خواطرك؟
ـــ أظن أنني سأصاب بالجنون. وماذا تفعل أنت هنا؟
ـــ أنا أساعد طاقم التصوير. أخبرتك من قبل، هل نسيت؟
ـــ أخشى أنني نسيت الأهم لأركب حلما وهوسا قد يعصفا بخلدي
ـــ لقد أبليت البلاء الحسن لحد الآن. لا بد لك أن تستريح قليلا
ـــ لا، سأواصل كتابة الخواطر. ما رأيك فيما كتبت لحد الآن؟
ناول متروي رائد المفكرة البنية، وهو يتطلع إلى رد فعله. ولم يتردد رائد وأثار انتباهه إلى الصفحات الممزقة، التي لم يسلم منها سوى ركن صغير. لم يصدق متروي أذنيه. انتزع المفكرة من يديه، فتأكد أنه يقول الحقيقة. أين وضع الصفحات الممزقة؟ لا بد أنه سلمها فعلا إلى معروف. قلب الصفحات الأخرى، فلم يعثر سوى على ما يشبه شعرا. ناول المفكرة لرائد وطلب منه قراءته. قرأ رائد
اجتُثَّت الثِّديُّ
انتعشَ الرُضَّعُ بالدماء
لحظةً، ثم
سقطوا جثتا هامدة
يفقد قوس قزح
ألوانه
عندما يسقط في حبال
غيمة ماكرة
صاح رائد
ـــ رائع! أنت الذي كتبت هذا كله؟ رائع. فعلا، رائع
ـــ لا تصرخ مثل المجنون! أنا لا أتذكر أنني كتبت هذا، لأنني لا أكتب الشعر إطلاقا
ـــ لكنه شعر جميل
ـــ لا يهمني. ما يهمني هو أن أجد الحلقة المفقودة بين المفكرتين
ـــ أية مفكرتين؟
ـــ لن تفهم مهما شرحت لك، لأنني أنا، نفسي، لا أفهم
ـــ أنت تحتاج إلى الراحة
ـــ كيف أبليت في المشهد؟
ـــ أي مشهد؟ التصوير لم يبدأ بعد؟
ـــ لا بد أنني جننت؟
ـــ أنت مصاب بالارهاق لا غير. وهل حفظت الحوار؟
ـــ نعم. إنها جملة واحدة
ـــ لكنها عميقة المعنى
ـــ لم يغيروا السيناريو كل دقيقة وثانية؟
ـــ هكذا تجري الأمور في السينما؛ يتفاعل المخرج مع التصوير. ولهذا السبب، ربما ستلعب في مشهد أطول قليلا مما كان مبرمجا
ـــ علمت بذلك
ـــ يجب أن تعلم أيضا أن المهم في كل المشهد هي العربة وهي لا تتحرك
ـــ لا أفهم
ـــ ولا أنا؛ هذا ما سمعت أحد السيناريست يقوله
استرجع متروي مسودته البنية وخلد إلى الصمت. انتهى كل شيء بالنسبة إليه. لم يعد مسيطرا على الأحداث المرتبطة به مباشرة. والخوف كل الخوف أن يسقط كل ما خطط له في مستنقع الخطإ القاتل
(يتبع)