في القنطرة جلجلة:الجزء الثاني (6)
في القنطرة جلجلة
قرر فريق العمل السینمائي المتقدم إخلاء محيط القنطرة والاحتفاظ بعربة متروي ومكتبته و بالمرحاض العمومي، وذلك بناء على إلحاح السلطات المختصة والمصالح الإدارية التي رخصت للتصوير. لم يعط أحد تفسيرا لهذا الإجراء، ولكنه لم يكن سلوكا غريبا على ضوء تجارب سابقة كان فيها لوجود طرف أجنبي نصيب. كل المتدخلين يضاعفون الجهود كي لا يتذمر الأجنبي خلال فترة تواجده؛ ثم بعد رحيله، تعود الأمور إلى سابق فوضاها وارتجالها وهوسها وضلوعها في اللامسؤولية. إلا أن القرار الذي أثار بعض اللغط، هو الاستعانة بالفرقة الموسيقية الشبابية من غير أن يعرف أحد الدور الذي سيوكل لأفرادها: هل الظهور في بعض المشاهد، وهي تعزف، أو الاستعانة بموسيقاها فقط؟
فرض الوضع الجديد ظروفا لم يكن متروي يتوقعها. تمنى لو أتت الشابة الآن. كم يحن إلى كلماتها التي لم تخذله يوما! و کم هو قاس الشعور بالفراغ الذهني والعاطفي! كل شخص يظن نفسه قبلة ومرجعا ونفسا مقدسة، إلى أن يستفيق ذات يوم على نباح كلاب ضالة تنهش بعضها البعض وتتسابق من أجل الحصول على قضمة من جسمه المتهالك. لا بد أن لغيابها سبب وجيه؛ وربما حسنا فعلت في خضم الأحداث التي تمر بها القنطرة
استغرق بناء الديكور أياما. تداول العمال على العمل بلا انقطاع . كان لا بد من الانتهاء في أقرب الآجال . لم يكن سهلا إقناع من لهم رأي حول جدوى بناء ديكور لمسجد وكنيس وكنيسة وحمام بلدي وسوق وسجن. لم يكن الديكور بالحجم الذي يزعج من لم يكن متسامحا حول كل ما يتعلق بالمقدس. ظن الجميع أن الديكور أكسسوارا فقط، إضافة إلى أن إدارة إنتاج الفيلم عهدت إلى مقاولات صغيرة في المدينة بإنجاز جميع لوازم الديكور، وتعهدت بدفع ما عليها بالعملة الصعبة. في خضم الحمى التي أصابت الجميع، لم یكثرت أحد لتطور الموضوع
طوق محيط القنطرة بجملة من الأسيجة وضعت بطريقة لا تزعج السكان وتجمع بين قليل من الشفافية وكثير من الحيطة حتى لا يتسلل أحد الى المنطقة التي خصصت للتصوير. وكان لهذه الحيطة تفسير منطقي، حيث إن بعض المهاجرين غير النظاميين من مختلف الجنسيات ــ إضافة الى بعض المغاربة ــ عقدوا العزم على التسلل إلى شاحنات التصوير والمؤونة وغيرها أملا في الهجرة عندما يعاد تصدير المعدات والشاحنات. كان في ذلك مخاطرة كبيرة، ولكن اليأس بلغ منهم درجة أفقدتهم التركيز والتعقل وتقبل العيش بلا أفق. تزامن کل ذلك مع ظهور سلوك عنصري تجاه أفارقة غير نظاميين انتشروا في شوارع المنطقة وأصبحوا، أحيانا، أكثر عدوانية من الشحاذین النظاميين. لم تتمكن السلطات من إيجاد تفسير لهذا السلوك من جانب المواطنين والأفارقة على حد سواء
لم تكن فكرة بناء ديكور وحمام وسوق بالموافقة. وقد علم فريق الإنتاج بالأمر أسبوعین قبل البداية الفعلية في تصوير المشاهد الأولى. وبعد مفاوضات طويلة، تباينت بين الوعيد والمساومة، تم التخلي عن فكرة تشييد ديكور السجن وتعويض تشييد حمام وسوق بتصوير مشاهد عشوائية من الأسواق الشعبية المجاورة ومشهدين قصيرين داخل حمام شعبي في الجوار. رحب الجميع بالفكرة، لأنه سبق وأن صورت مشاهد أفلام سابقة في نفس الحمام. قبل الناس الفكرة، لأن الحمام اقترن بأحداث أرخت السنوات الأولى من ظهور نمط موسيقي فريد من نوعه، ابتكرته مجموعة “ناس الغيوان” الشهيرة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. و يحكى، وإن لم يؤكد ذلك أي فرد من المجموعة، أن فکرة بعض الأغاني الشهيرة تبلورت داخل هذا الحمام؛ وهو الشيء الذي یكون قد دفع منتجي فيلم ‘الحال’ إلى تصوير مشاهد في محيط الحمام في بداية الثمانينيات من نفس القرن
عندما تناهى إلى مسمع متروي أن مخرج الفيلم قرر استعمال العربة والمكتبة المرحاض العمومي كجزء من الديكور، كتب في المفكرة السوداء
“أنا لست مرتاحا لكل هذا التشويش على هدوء المكان. أنا مستاء من تدخل فريق العمل المتقدم في تحديد مصير العربة. كما أن بناء ديكور أماكن عبادة من الحجم الکبیر ستتولد عنه صراعات. كان الأجدر تصوير مشاهد الفيلم في أماكن عبادة حقيقية. لو أخذوا بكلامي، لكانوا اختاروا فضاءات المجزرة الكبيرة السابقة لتصوير بعض المشاهد؟ قد كان بإمكان عمل من هذا القبيل أن یبعث إشارة إلى المشهد الفني الراكد ویزرع الحماس في نفوس قلة من الفنانين المبدعين، الذين ما يزالون يصارعون من أجل إعادة الحياة لصناعة أصابها الشلل تذكر بالفترة الذهبية لسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. هذا، علاوة على أن المبادرة قد تساعد على تحويل المجزرة الى استوديو سينمائي فريد من نوعه. ولكن ما الفائدة من فتح ملفات قد تعصف بكل شيء؟ أنا لست نذير شؤم ولا جسما تحكمه طاقة سلبية، ولكنني لا أرى خيرا فی كل هذه الزوبعة حول سيناريو أكثر العارفين من بيننا لا یعرف عنه سوى الفتات. فقد سبق فی الماضی أن صورت أفلام أجنبية مشهورة في البلاد، وتبين فيما بعد أنها تحمل عداء صارخا لمقومات العقل القومي والقطري والديني. لم يتدخل أحد بدعوى حرية الرأي، ما دام الهدف الأول والأخير كان العملة الصعبة والترويج للبلاد سياحيا ــ وهذا رأي مشروع ــ ولکن سیناریو هذا الفيلم قد يحمل عشرات المفاجآت، الله يستر
كان تخمين متروي في محله. أخبره رائد أن كتاب السيناريو ــ وكانوا أربعة ــ تدارسوا إمكانية إشراكه في تصوير بعض اللقطات. فكرة مجنونة وسخيفة في آن الوقت؟ أبدا، لاحظ فريق العمل المتقدم الطريقة التي يتعامل بها متروي مع حيوانات القنطرة قبل إجلائها، فخطر لهم أن من شأن ذلك أن يضفي على التصوير نوعا من الشاعرية. كيف؟ أثناء عملية الاستكشاف التي سبقت مجيء متروي للقنطرة (لأن فكرة تصوير الفيلم في هذا المكان ترجع إلى ثلاث سنوات) لوحظ أن القطط والكلاب والجرذان تتعايش فيما بينها من غير مشاكل. كما أن المتشردين وعابري السبيل كانوا أقل عدوانية تجاه بعضهم البعض؛ وفي أحيان كثيرة، كان التعاون بينهم رائعا، وكأنهم عائلة واحدة. كان مقررا أن يبدأ التصوير منذ سنتين، ولكن إجراءات إدارية أخرته، إضافة إلى أحداث ما سمي بالربيع العربي. ولم يكن التأخير سوى ترجمة لتخوف جهات رسمية من ردة فعل الساكنة في الوقت الذي نشبت فيه صراعات سياسية بلغت درجة مرتفعة من العنف اللفظي والبدني، غداة تفاقم الخلافات حول محيط القنطرة دشنتها أطماع منعشين عقاريين، لم يكن يهمهم أي فصل من الفصول. وقد سلط الضوء، حينها، على رغبة بعض السياسيين ــ بتعاون مع السلطات المحلية ــ في هدم القنطرة، وذلك في إطار عملية تعميرية كبرى تهم المجزرة البلدية، ومستودعات السكك الحديدية وملعب عشوائي لكرة القدم أصبح ملجأ لعصابات تؤرق راحة السكان. إلا أن تباين المواقف عطل المشروع برمته
وفي أوج عملية شد الحبل بين كافة المتدخلين (ومن يقف وراءهم) حط متروي الرحال بالقنطرة. ومنذ أن أخذ بزمام الأمور، تطورت الأحداث بشكل أثار فضول أصحاب مشروع الفيلم، الذين كانوا يتواصلون مع سينمائي مغربي إسمه معروف، كان يمدهم بالمعلومات الضرورية. كان هذا السنيمائي شغوفا بالقنطرة إلى حد الهوس، وهو الذي اشتهر بإخراج أفلام قصيرة تجمع بين الواقعية والسريالية في وقت كانت الصناعة السينمائية في المغرب لا تزال تبحث عن نفسها. كان هذا السنيمائي، الذي ترعرع في حضن الزمن الذهبي للأندية السينمائية، خلال سبعينيات القرن الماضي، مغامرا جدا، وقد أنتج بعض الأفلام من ماله الخاص، رغم أنه كان يعلم أنها لن تنجح تجاريا، لأن الجمهور كان يفضل الأفلام الهندية، وأفلام رعاة البقر والأفلام المصرية. التغيير الذي أدخله متروي على فضاء القنطرة وتفاعل السكان والسلطات مع ذلك، شجعا الجميع على العودة من جديد إلى فكرة تصوير فيلم يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجديدة. لكن طفح سؤال ظل ينتظر جوابا معقولا: هل الفيلم المرتقب يتعلق بالقنطرة؟ بقصة تهم المغرب؟ بماذا؟ لا أحد يعلم
والآن، يريدون من متروي أن يلعب دورا ما في الفيلم. قمة العبث! هل فقدوا عقلهم؟ ما هو الشيء الهام الذي يبحث عنه كل من التقى بهم إلى حد الآن؟ شيء واحد أكيد يعرفه متروي جيدا، وهو أنه إذا لعب دورا ما في الفيلم، فسوف يجر عليه لعنة البلاد والعباد. ولن يتركه أحد ينعم بلذة الشهرة المفتعلة ولو لثانية واحدة. وسوف يكون على رأس المتربصين به، لفيف الشخصيات النافذة التي لم تستطع أن تؤمن لإحدى فلذات أكبادها حضورا في الفيلم ولو في دور كومبارس. لا! لا بد له أن يرفض. ولكن هل يوجد لديه خيار؟ لا بد من بعض المناورة. لن يقوم بعمل قد يفتح عليه باب جهنم. ثم إنه يرفض أن تظهر العربة والمكتبة في الفيلم بصورة واضحة. لم يكن غبيا، وهو يفكر في الموضوع بهذا الشكل، فهو يعلم أن اللقطات التي قد يصور فيها لن تتعدى ثوان، وربما ستحذف أصلا أثناء عملية التوضيب، ولكن الحيطة والحذر أفيد من المغامرة. لا بد له أن يحتاط وربما أن يرفض؛ العربة والمكتبة أغلى ما يملكه في هذه الأيام. وهو يخشى عليهما من التلف أثناء التصوير. فهو لم ينس… لم ينس ماض قريب لا زال يعمل فيه معاوله
عادت صورة قديمة لترعبه من جديد، وهو الذي يظن، في كل مرة، أنه تخلص منها إلى الأبد. أحس وكأن مدية حادة تمزق أحشاءه وتمثل بها. هذه الصورة الحرباء التي تظهره متقوقعا على نفسه، باحثا عن مخرج لمعضلة أقل ما يقال عنها إنها كارثة عظمى. كان عليه أن يتحرك بسرعة. لم يكن له متسع من الوقت. السطو على مخزن الوثائق كان متوقعا في أية لحظة. كان المتآمرون يسابقون الزمن. أجهزوا على ما کانوا يظنون أنه الذاكرة الجماعية للقبيلة. استنفروا فقهاء وعدولا وعلماء من قرى مجاورة للوصول الى مبتغاهم. عمدوا إلى إحصاء الكتب والمخطوطات الموجودة في غرف مهجورة لبعض السکان تتهالك من فرط الإهمال والرطوبة. وحيث إن جل مالكي هذه النفائس يجهلون قيمتها، فقد تخلصوا منها، وهم سعداء بأن يحرروا بعض الأمتار لاستغلالها لحفظ أشياء أكثر نفعا مثل الحبوب والقطاني وغيرها
كان متروي ينحدر من أسرة معروفة أنجبت بعض العلماء اشتهروا بالتصوف، وكانت لهم علاقات متذبذبة مع أعيان المنطقة لأنهم اختاروا الحياد إزاء الصراعات المتعددة التي كانت تنجم بين هؤلاء الأعيان أو بينهم وبين السلطة المركزية. ورغم كل المضايقات، نجحت أسرة متروي في الحفاظ على نفوذها العلمي ولم يستطع لا الأعيان ولا ممثلوا السلطة المركزية النيل منها. لم يكن ذلك يسيرا، ولكن سر قوة الأسرة كان يكمن في حفاظها على مكتبة جل مكوناتها مخطوطات في الفقه والتاريخ والفلسفة، إضافة إلى إجازات نادرة بخط يد شيوخ في الطرق الصوفية وشهادات مريدين وأتباع ممن أصبح لهم باع طويل في تفسير التصوف وعلاقته بالمعرفة إجمالا. وكان السر فی عدم ضياع المخطوطات ــ أو إتلافها ــ يرجع إلى توزيعها بین أفراد العائلة وإخفائها في أماكن متعددة يصعب على الغرباء اكتشافها. كان حرص الجميع على هذا التقليد من باب فرائض العبادة. وقد عمل متروي، أثناء اطلاعه على ما اكتشفه، على تصنيف الكتب والمخطوطات والإجازات وإخفاء الفريد منها. وقد لجأ إلى هذا الإجراء الاحترازي، غداة بدء السلطات المركزية حملة تحسيسية لجمع المخطوطات التي كانت تتوفر عليها بعض الأسر من أجل حمايتها من التلف، مقابل جوائز مالية قيمة. وقد عبر الذين استجابوا للنداء عن خيبة أملهم، وذلك لعدم تتبع ملفاتهم، ومنها، على وجه الخصوص، الحصول على شهادة رسمية تثبت أن المخطوط ملكية متوارثة وأن تسليمه للسلطة المركزية لا يعني أن الملكية قد انتقلت إليها
كان متروی يرى أن إطلاع العموم على بعض المخطوطات والوثائق سيحدث صدمة في أذهان البعض أو سيهدد السلم الاجتماعي الهش. حدث أن صراعا نشب بين قبيلتين حول حق التصرف في أراضي سلالية. كان الكل يعلم بأحقية من في ماذا، ولكن ميزان القوى منع غالبية من كان لهم دراية عميقة بالموضوع من التدخل أو إبداء الرأي. صادف ذلك فترة شرع فيها المشرع إعادة النظر في اشكالية الحالة المدنية وتقنين إجبارية إصلاح المنظومة من الأساس. كما لجأ المشرع الى مسلسل جرد الأراضي السلالية وتصفية الخلافات حول ملكية أراضي من طرف بعض الزوايا الصوفية التي ازدهرت في المنطقة. طفت أشياء غريبة على السطح زكت موقف متروي وقوت عزوفه عن الاستجابة لكل الضغوط. ولولا المكانة الاعتبارية التي كان يتمتع بها، بكونه حفيد شخصية صوفية اشتهرت بمساهمتها في إشعاع الفكر الصوفي غير المرتبط بالزوايا، لحصل له ما لا تحمد عقباه
اكتشف متروي، وهو يحاول أن يوثق ما للعائلة من حقوق وما عليها من واجبات، ليحصنها من شوائب زمن لم تعد فيه للأخلاق مرتبة، أشياء خطيرة تهدد تماسك الأسرة، بل وتهدد الوضع في المنطقة کلها. وكان أهم اكتشاف، هو أن القبائل تتواجد على أراضي ليست في ملكيتها وأن شيئا ما غريبا طرأ في الماضي جعل الأعيان يتبادلون ملكية الأراضي شفهيا، دون توثيق العقود، لأن بعض الأراضي كانت جماعية وسلالية وترتبط بالملكية الخاصة التي كانت، على العكس، موثقة بصفة محكمة. كما أن المصاهرة عززت من وضعية البعض وأضعفت من وضعية البعض الآخر
اهتدى متروی، بصفته المسؤول الأول عن حماية المركز الاجتماعي وشأن وهيبة الأسرة، وبعد تفكير طويل، إلى حيلة نفذها على مراحل: المرحلة الأولى تمثلت في ادعاء عدم قدرته على الاهتمام بقضايا الأسرة لأسباب صحية، والثانية بالتظاهر بفقدان الذاكرة جزئيا، والثالثة بالعمل على كتابة تفويض صوری لابن عمه، الذي كان يطمع في الزواج من أخته التي طلقت حديثا، والرابعة باللجوء الى منقار، أحد العدول من أصدقاء الطفولة للتوسط، عبر طرق مختلفة، من أجل تغيير إسمه الشخصي مع اختيار إسم قريب من الإسم الحقيقي، دون إثارة الانتباه. وقد وفر التشريع الجديد حول الحالة المدنية هذه الإمكانية. عرف منقار بكونه سريع الكتابة، كلما تعلق الأمر بخلق البلبلة في أذهان الناس، وذلك من أجل المحافظة على وضعه الاعتباري. ولمزيد من الإقناع، اطلع متروي منقار على بعض مما اكتشفه في الوثائق والمخطوطات وبعض الإجازات التي تطعن في أحقية بعض الشيوخ في تلقين الأوراد وكتابة الإجازات. أنجز منقار المطلوب في زمن قياسي بتواطئ مع شهود مأجورين وضابط حالة مدنية متساهل. لم يشمل تغيير الإسم سوى حرف واحد، حتى يمكن في حالة الاعتراض التحجج بورود خطإ غیر مقصود. وضمن التغيير في شهادة وموجز لرسم الولادة وليس في سجل الولادة الأصلي
كان لا بد لمتروي من اللجوء الى أقصى ما يمكن من نكران الذات والتملص من عرف الدم والقرابة لينقذ الجميع من الضياع. ولكن مشروعه سقط في بركة من وحل، بعد أن أفشى منقار السر وأصبح الحصول على الوثائق الهدف الأول لحفدة الشيوخ المتضررين وأبناء بعض الأعيان الطامعين في تركة أفضل. تعرض متروي لمضايقات عديدة، ولكن عبر أساليب ملتوية نظرا لوضعه الاعتباري. وحيث إنه كان متزوجا من ابنة أحد الأعيان ، كان عليه أن يلعب على أوتار مختلفة لحماية أسرته ــ أخته وأمه و زوجته، أساسا، لأنه كان عاقرا ــ من كل عمليات المساومة التي كان ضحية لها. وتطورت المساومة لتصل الى حد التهديد. لم يكن التهديد استعراضا مجانيا. كان متروي يعي جيدا أن الحماية التي كان يحظى بها في السابق قد لا تنفع هذه المرة. العلاقات الاجتماعية تطورت بشكل سريع، وتداخلت المصالح لتهدد تماسك الأسر. ومن أهم الأسباب التي ساهمت في تقويض الرباط الأسري والقبلي، أن التطورات صادفت عملية إحصاء أقرتها السلطة المركزية في سياق التطبيق السلس لمنظومتي اللامركزية واللاتمركز من أجل تأهيل المدن الصغيرة والقرى النائية. وبالتالي، تعددت التطلعات والتفسيرات. فما كان على متروي إلا أن يسابق الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والاستعداد للخطوة الكبرى التي لم يكن له خيار سوى اتخاذها