أقصوصة:ضربة مقص
ضربة مقص
تصفح الهاتف ويديه ترتعشان، اليد التي تحمل الهاتف والأخرى ذات الخاتم الذهبي والجسد، وكله. هذه الرعشة ليست من شدة البرد والصقيع الذي اكتسح مونتريال، ولكنها رعشة أخرى غريبة أصابته في غفلة كضربة مقص
بحلق في شاشة الهاتف وصوب عينيه الجاحظتين في الصور المتلاحقة، و.. وضرب يدا بيد وصاح باعلى صوته: ”Merde!”:
كنت أراقبه من بعيد عندما أخفى الهاتف في جيب معطفه، وعندما أخرجه بسرعة، وعندما بحلق في الشاشة مرة أخرى، وحاول أن يخطو ولكن أين سيأخذه الخطو وهو لايستطيع ان يميز ما بين خطوة وخطوة. كان يحوم في عوالم أخرى لا تمت لهذا المكان ولا لهذا الزمان بأي صلة. قدره ان يتحمل هول هذا الكابوس الذي اصابه في مقتل وأن يتحمل وخزه المؤلم كما يتحمل القماش الممزق وخز إبرة مجنونة في آلة خياطة. ممزق هو الآن كالقماش، والإبرة المجنونة لاتحمل في ثقبها خيط الشفاء ولا تخيط ضربة المقص.
همه الآن أن يصارع كي يصل الى الخارج، الى زنقة(Berri UQAM)بعيدا عن دفئ المترو، تماما كحيوان منوي يحاول ان يصل إلى البويضة، حيث التعاسة والجنون وأصدقاء غرباء اجتمعوا من كل حذب وصوب، إختلفت جنسياتهم واتفقت مصائرهم، يتقاسمون الريح والصقيع والنوم في الفضاء العاري وحتى رؤية الشريط.
لا يزال يجر قدميه جرا وسط الممر المؤدي الى الخارج، مرتديا معطفه البني الذي رأيته على ظهره آخر مرة عندما كان يصيح في العمارة بأعلى صوته معلنا أنه رآها بعينيه. كان شخصا أخر تماما، تفوح منه رائحة ‘crack” الكريهة وعلى خده وجبهته نذوب،. حاولت تهدأته وسألته ماذا رأى ولم يجب. تبعثر في فمه الكلام كما لو أنه جن و تفوه بكلام مشين على زوجته وذهب.
سألتها، فقالت: « منذ ثلاثة أشهر وهوعلى هذه الحالة، يأتي الى البيت مخمورا ويقول لي رأيتك، ينظرمليا في وجهي كأنه يراني لأول مرة، يضع أصبعه فوق جبهتي وفوق هذه الخالة التي على خدي ويقول هذه علامتك، وهناك علامة أخرى في بطنك. يضرب يدا بيد ويصيح Merde!. وكلما هددته بإ بلاغ الشرطة، كلما انسحب بدون فوضى واختفي»
كان قد أخبرني قبل ستة أشهر وطلب مني أن أرى، ألح فرأيت الوجه و الخالة وتأكدت بأنها ليست هي، ولكنه ألح أنها هي، لأنه يعرف جسدها أكثر مما يعرف جسده، حاولت أن أقنعه وأعيده الى رشده ولكنه « Merde! ثلاث مرات » أطلقها في وجهي كالرصاص.
الهاتف في جيب معطفه البني لايزال يحوي الخالتين و ضغط جسده المكتنز يزيد قدميه ثقلا فلا تكادان تحملانه، قعد في ركن الممر ومد رجليه وأسند ظهره على الحائط ومال برأسه ببطء حتى لامس الأرض، خليط من العابرين من مختلف الأجناس يمرون كالعادة من نفس المكان، لا أحد التفت جهته ولاخطرفي بال أحدهم أن هذا الشخص المتسخ ذو البطن المنتفخة المنبطح على الأرض العارية، كان يمر قبل ستة أشهر من نفس المكان بنفس خطوهم و بزيه الجميل وشعره المصفف.
أخذني الخيال بعيدا، إلى أولئك التعساء المتواجدين بكثرة في زنقة Berri UQAM و Hochelaga والذين يفترشون الأرض ويقتاتون من الأزبال ويتسولون ويتناولون مخدر الكراك والهروين. كم من مرة مررت و السيد فابريسيو من هناك، من أمام ذلك الشارع الممتد وكم من مرة سألني هذا الصديق عن سر تواجد هؤلاء هنا، وكيف هم هنا، وهم في هذا البلد المتمدن.
كانت تساؤلاته لاتعنيني في شيء بقدر ماكانت تعنيه، وبقدر ما أصبحت تعنيه اكثر.