( 3 في القنطرة جلجلة: (الجزء الثاني

( 3 في القنطرة جلجلة: (الجزء الثاني
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
الكاتب: حسن حامي

في القنطرة جلجلة

قام مصطفى عندما دخل إلى غرفة البخار رجل يتبعه لفيف من المستحمين يسبقهم صاحب الحمام نفسه، وقد ظهر في كامل ملابسه والعرق يتساقط من جبينه. اختار الرجل ركنا غير بعيد عن مكان متروي وافترش ما يشبه حصيرا مطاطيا وتمتم ببعض التعويذات، ثم أغمض عينيه وغفا. انسحب الجميع في هدوء، ولم يبق بجانبه سوى مصطفى. أثار المنظر فضول متروي. نظر حوله، فلاحظ أن بقية المستحمين انتقلوا إلى غرف أخرى. هل هو مطالب بأن يفعل مثلهم أم لا؟ حاول الاسترشاد بمصطفى، لكن هذا الأخير أمره بالصمت. لم ير متروي في حياته من قبل شخصا ينحني بتلك الطريقة أمام شخص آخر مثلما فعل مصطفى. بل الأدهى من ذلك، أنه لم يكن يدري ماذا يجب عليه أن يفعله. غط الشخص المهم في سبات عميق. كان يصدر بين الفينة والأخرى شخيرا خفيفا. من يكون هذا الشخص؟ لا أحد يستطيع إفادته في هذه اللحظة. قرر متروي تنظيف ما تبقى من جسمه بسرعة. أسر إلى مصطفى بأنه سيترك له أجره عند صاحب الصندوق؛ لكنه لم يعبأ. كان كل همه هو ألا يزعج أحد الشخص المهم وهو نائم. وبينما وقف متروي استعدادا للمغادرة، استفاق الشخص وأمره بالجلوس. امتثل متروي وهو في حيرة من أمره. بادره مخاطبه
ـــ لمَ لم تغادر الغرفة مثلما فعل الآخرون؟
لم يدر متروي ما الذي يجيب به، فقذف من غير تصويب
ـــ لم أكن قد انتهيت من الاستحمام
ـــ لا أحد من المستحمين كان قد فعل؛ ولكنهم غادروا
ـــ لست أدري، يا سيدي. العلم عند الله
ـــ هل تعلم أني أعرفك جيدا
ـــ ربما، يا سيدي، ولكنني لا أعرفك
ـــ سمعت عنك أشياء كثيرة ــ أغلبها ضرب من العبث
ـــ أتمنى ألا يكون ما سمعت يضر بسمعتك
ضحك الشخص، وصب قليلا من الماء على كتفه، ثم استطرد
ـــ سوف تسمع عني أشياء كثيرة؛ أغلبها ضرب من العبث أيضا
ـــ ليس في اللسان عظم يا سيدي
ـــ حتى ولو كان فيه عظم، سيظل مثل كاسحة ألغام
ـــ نعم، يا سيدي
ـــ كيف هي الأحوال في القنطرة؟
ـــ أية قنطرة؟
ـــ قنطرتك؟
ـــ أنا لا أملك أية قنطرة. ـــ أنت تملك كل شيء، ولكنك لا تعلم
ـــ لا أفهم يا سيدي
ـــ سوف تفهم قريبا إن شاء الله
ـــ أتمنى أن يكون ذلك خيرا
ـــ أنا مستعد. أعني أن اسمي مستعد. وسوف تسمع أشياء غريبة حول هذا الإسم. الناس تحب السخرية من أسماء بعضها البعض، رغم أن الإسم لا يعني شيئا أصلا
ـــ تشرفت بمعرفتك، وأنا… عذرا، قلت لي قبل قليل إنك تعرفني
ـــ حق المعرفة… وسوف أتصل بك قريبا لأمر مهم جدا. إلى اللقاء
ـــ إن شاء الله
لم يكن مصطفى بعيدا، وتابع الحديث كله، وهو يتساءل عن مغزى هذا الحوار الغريب. سأله متروي هل يترك له أجره مع صاحب الصندوق، فأجابه بأن لا داعي لذلك الآن، وبأنه سيزوره في القنطرة لتحصيله لاحقا. لم يكن مصطفى الوحيد في الحمام الذي أثار فضوله حديث الرجلين. وبينما كان على عتبة الخروج، قال له صاحب الحمام
ـــ كم أنت محظوظ يا صاحب القنطرة
ـــ ماذا أصابكم جميعا؟ حتى أنت… أنا لا أملك شيئا. لو تعلمون ما هي مصيبتي
 غادر الحمام والغضب يتطاير من عينيه. ولكنه لم يتوجه مباشرة إلى القنطرة. ما الذي أصاب الناس؟ إذا كان في قرارة نفسه يشعر بنوع من الفخر والاعتزاز أن أغلب سكان القنطرة يحترمونه، وأن لديهم فكرة إيجابية عنه ــ كونه ليس متشردا أو بلا مأوى حسب المألوف ــ فإنه يشعر، أيضا، بأن أشياء غريبة تحاك ضده. وقد صدق حدسه عندما عاد من تيهانه يتصبب بالعرق وقد أصبحت وصلة الحمام في خبر كان. وجد أن العربة قد فتشت وأن معداته التقليدية، مثل الفأس والمذراة والمكنسة والمقص قد حركت من مكانها. حتى الكتب لم تسلم من العملية، بينما لطخت إحدى اللافتات وأضيف إلى صياغتها.  أصبح المعنى أكثر إثارة. قرأ وهو يبتسم: “قمة الذكاء أن تتظاهر بالغباء… ولن تنفعك…”. كم هو بارع الشخص الذي أغنى المعنى! ولكن ما الدافع وراء محاولة تعريض لوازمه إلى التلف؟ تذكر قول مستعد قبل قليل. هل صحيح أن القنطرة أصبحت على هذا المستوى من الأهمية؟ لم ينتظر طويلا ليحصل على جزء من الأسئلة
 لم يتردد لحظة، كتب، وهو يحاول السيطرة على غضبه
“سوف يظلون يبحثون، ولن يجدوا ما يبحثون عنه. السر وراء كل أداة هنا أنها تنفذ إلى الأعماق، ولن تعود أبداً الى السطح. قانون الجاذبية في القنطرة ونواحيها أقوى من تذاكي فضوليين سوف ينقرضون قبل أن يكتشفوا ــ إن أردت لهم أن يكتشفوا ــ السر وراء كل حركة أقوم بها. وأنا الوحيد صاحب الرواية الشفهية العجيبة، وأنا الوحيد الذي أستطيع أن أؤكدها أو أن أنفيها. أنا الوصي الوحيد على كتب رمت بها أدمغة الجهل في عربة، الشيء الوحيد الممتع فيها أنها تتحرك”
زاره مصطفى قبل الغروب بقليل. كانت مئات الأسئلة تكاد تنط من شفتيه. كانت المرة الأولى الذي يزوره فيها
ـــ أعتذر عن سلوكي قبل قليل، بادر مصطفى بالقول. كان واجبي لحظتها أن أهتم بالسيد مستعد
ـــ أتفهم أنك لم تكن في وضعية مريحة، أجاب متروي
ـــ أنت لا تعرف من هو مستعد؛ إنه شخصية مهمة
ـــ قلت لك لا يهمني الأمر
ـــ صحيح، أنني لا أعرف ما هو شغله الحقيقي
ـــ يا سيدي، لا يهمني
وكأن مصطفى لا يأبه، استرسل
ـــ ولكن الذي أعرفه، هو أن له ثلاث بنات متزوجات من ناس مهمين في الخليج
ـــ طيب، وما الغرابة في ذلك؟
ـــ الغرابة هو أنه أرمل ويريد أن يتزوج، ولكنه لا يملك الجرأة
ـــ لا أستطيع أن أستوعب ما شأنك وشأن السيد مستعد؟
ـــ يبدو أن زوجته كانت غنية. ويبدو أن جزءا من ثروتها اكتسبته عن طريق بناتها اللواتي يشغلن في الخليج أو من مصادر لا يعرفها إلا الأعلى
ـــ وما علاقة كل هذه الأمور بكونه أصبح أرملا؟
ـــ العلاقة، حسب بعض الألسن الخبيثة ــ وأنا لست من بينها ــ هي أن مستعد له قرابة مع أحد العدول الذين تورطوا في بعض القضايا التي تخص التطاول على ملكية الغير
ـــ يا أخي أنت كسال… ما لك وهذه الأمور التي لا تهمك لا من قريب ولا من بعيد؟
ـــ كسال، صحيح، ولكني لست غبيا
ـــ وماذا ستسفيده من ذكائك هذا؟
ـــ الكثير… وأنت أيضا، شريطة أن تضع يدك في يدي
ـــ غريب أمرك! لمَ أضع يدي في يدك؟
ـــ لقد سمعت الحديث الذي دار بينك وبين مستعد
ـــ وبعد
ـــ سوف يتصل بك، وربما سيأتي لزيارتك
ـــ أنت غريب الأطوار
ـــ أبدا. أعطني دراهمي الآن، وتذكر أنني وضعتك في خانة لا يحظى بها إلا من له شأن؛ وسوف يصبح لك شأن قريبا إن شاء الله
ابتسم متروي وناوله أجره المعتاد. وقبل أن يغادر مصطفى، اقترح عليه متروي أن يبعث ابنه البكر للحديث معه. سخر منه مصطفى وقال
ـــ أنت تذكرني بقصة الأحول وهلال العيد
وودعه وهو غارق في الضحك
لم يفهم متروي علاقة الأحول بما جرى بينه وبين مستعد؛ على أية حال، فهو لا يعتقد أن الحوَل يهم الأحول بأية صفة من الصفات، ما دام أنه يستطيع أن يميز بين الأشياء ويرى مثل غيره من الناس. ابتسم بدوره وبدأ يفكر فيما قاله مستعد
قرر متروي أن يقدم شكاية ضد مجهول. صحيح أن شيئا لم يسرق من العربة ولا من الأثاث على بساطته، ولكنه ارتأى أن يبلغ السلطات بما حدث، وسيكون ذلك مناسبة جيدة لربط الاتصال بمفتشي الشرطة. المهم هو إظهار حسن النية. في الحقيقة، أعجبه أسلوب المفتشة إلهام، ومن المفيد له أن يتعامل معها. أحكم إغلاق قفل العربة هذه المرة وطلب من أحد الشباب، الذين اتخذوا القنطرة مكانا لمراجعة وحفظ دروسهم، مراقبتها إلى حين عودته. وفي طريقه إلى مركز الشرطة، استوقفه شاب وهو يبتسم. بعد التحية، أخبره أنه ابن الكسال مصطفى وأنه علم باقتراحه وأنه يريد مناقشته معه. لم تكن مفاجأته بالعلم أنه ابن الكسال بقدر مفاجأته بالعلم أنه يعرف هذا الشاب حق المعرفة. فهو ينتمي إلى مجموعة الشباب الذين ينظفون القنطرة ويتدربون على بعض المسرحيات في الهواء الطلق. المسرح في الهواء الطلق، يذكره بزمن كان للمسرح شأن تسلطن فيه هواة كانوا في بعض الأحيان أكثر احترافية من المحترفين أنفسهم.
ـــ أهلا وسهلا، يا بني
ـــ شكرا يا عمي
ـــ عندما أعود من مخفر الشرطة، يمكن أن نتحدث مثلما تشاء
ـــ يمكنني أن أرافقك، فأنا أعرف معظم العاملين هناك
ـــ لا داعي، يا بني؛ أنا فقط أريد أن أبلغ عن محاولة إتلاف العربة من قبل مجهولين. كل شيء على ما يرام، ولكن العبرة في التبليغ.
ـــ لا أظن أن تبليغك سيحظى بأي اهتمام، ولكن، كما ترى يا عمي، إظهار حسن النية أبلغ من العمل
ـــ من الضروري أن أبلغ
ـــ كثيرون هم الذين يهتمون بالمكتبة، ولكن ليس لداعي السرقة
ـــ من عرفك؟
ـــ أعرف وكفى
أعجبه أسلوب الشاب، فسأله
ـــ ما هو اسمك؟
ـــ رائد، أجاب
ـــ إسم جميل! تعجبني الأسماء التي تطابق صاحبها
ابتسم رائد وقال
ـــ بعض الحيوانات تحمل أسماء جميلة، ولكنها تشبه أصحابها أيضا؛ ورغم ذلك، فالناس لا تنتبه
ـــ أنت على حق. نلتقي إذن بعد عودتي، يا رائد
ـــ إن شاء الله. وإن لم يكن اليوم، فغدا. هل يمكن لي أن أعرف رقم محمولك؟
ـــ آسف، منذ مدة طويلة، هجرت المحمول؛ إنه كارثة
ـــ أكاد أشاطرك الرأي، يا عمي؛ ولكنه مهم في عصرنا
لم يتمكن متروي من فهم إشارة رائد إلى قصة شبه الحيوانات بأصحابها، مثلما لم يدرك علاقة الأحول بالهلال. يبدو حقا أن الأب والابن من عينة فريدة ــ وعلى كل حال، غريبة الأطوار
(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com