الشاعر والناقد إدريس زايدي:الكتابة فوضى جميلة تترصد الجمال

 الشاعر والناقد إدريس زايدي:الكتابة فوضى جميلة تترصد الجمال

الخطاب الشعري في قصائدي يرتع في تأمل السؤال

باح الشاعر إدريس زايدي لألوان بأن الكتابة هي الحياة ذاتها.. وأنه لا يجد غضاضة حين يشاكس القصيدة العمودية..أو يكتب دون أن يربط حداثة النص بغير حداثة سؤال المعنى… الشعر عند الشاعر رسالة جمالية قبل أن تكون له مسؤولية إبلاغ الرسالة
ماذا تعني لك الكتابة؟
        الكتابة ترجمة لموقف، مهما كان ذاتيا أو موضوعيا. وهي نوع من التعبير المتعال عن الحال. والهدف هو مزاولة نشاط لغوي يرقى على اللغة بتعبير النقد، أو هو تعبير جسدي رقصا على نبض خفيّ، أو تشكيل لوحة بنبض الألوان، أو رحلة تمازح هدوء المكان والزمان لتشعل فتيل الذات نحو المتاه. والكتابة لا تحمل ترجمة، بقدر ما تدل على أن شيئا ما يقلق الكاتب. هو قلق متحرك، يعيش الكاتب على حافته، باحثا عن واقع ممكن عبر سؤال الكينونة المجاوز أفياء الحاضر. الكتابة لا تحمل صورة للواقع، بل هي فوضى جميلة تترصد الجمال. واختصارا الكتابة نبع السؤال الذي يلاحق الكاتب سرا وعلانية بحثا عن معنى الحقيقة. الكتابة هي الحياة
حدثنا استاذ زايدي عن كتابتك الشعرية التي تختلف عن الكتابات الشعرية عند شعراء آخرين، بحيث نلاحظ آن قصائدك مكتوبة بالشكل الموزون وبلغة منتقاة بشكل رفيع، لا يمكننا ادخالها في خانة القصيدة النثرية أو الحديثة؟
       الشعر لا زمن له حتى نسمه بالقديم أو الحديث.  قضية الحداثة أمر لا يستقيم معزولا عن راهنية الواقع. كل شعر قديم وحديثٌ في آن. يكفي أن تكون اللغة حمالة أوجه، لندرك لذة قراءة شعر امرئ القيس والمتنبي وشعر الصوفية، وصولا إلى شعر السياب وخليل حاوي وأدونيس ودرويش والسرغيني وعلال الحجام ومحمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد مفدي  ومحمد شنوف وغيرهم. أمر الحداثة فينا تحمله قيم اللغة العربية التي رحلت في الأقطار العربية وغير العربية، وهو مبحث لم يكشف عنه بعد. وما إشارات الدكتور عبد الله الطيب إلى أن شعر الغرب عند شعراء أمثال كولردج وووردزوورث  وييتس و ت س إليوت كان امتدادا لاطلاعهم على الصورة الشعرية والبلاغية عند امرئ القيس والمتنبي وأبي تمام وغيرهم
فحين أكتب لا أجد غضاضة في ركوب القصيدة العمودية، أو قصيدة التفعيلة والنثرية، كل ما هناك هو أن تفجر ما تختزنه الذات الثقافية، من إرث متلاقح العناصر. والشعر تجاوز لذاته من حيث هو تشكيل لواقع خارج القصيدة. أن تقرأ النص يعني ترحل في ذوات أخرى، بفعل التأويل الذي لا يتوقف عند حدود الدوال والمدلولات. لأن الدلالة موزعة في الفهم لا يعكسها النص إلا على مشارف الدخول في نص جديد، لا يحتكم إلى لغة ثانية وثالثة وهلم عددا. هكذا أكتب دون أن أربط حداثة النص بغير حداثة السؤال عن معنى جواب يتسول الجواب من بلاغة الإيقاع ونبض الكلمات
كيف ترى واقع القصيدة النثرية اليوم بعد رحيل فطاحلة الشعر الحديث؟
      لم يمت شعراء الحداثة إلا ليعيش سؤال الحداثة. فشعراء الحداثة فجروا سؤال الشعر، وما يزال السؤال ممتدا فينا امتداد صعوبة تعريف مفهوم الشعر نفسه. هم كتبوا بنوع من الارتجاف الذي تسبب فيه قيم الشعر القديم. كتبوا على بحور الخليل الصافية، وكان النبض تفعيليا بما يعني أن الشاعر الحديث يعيش تمزقا وجدانيا، بعد توالي الهزائم العربية، تجاه الاستعمار ووعد بلفور وتأميم القناة وغيرها، لتنتفض الكتابة مع هزيمة 1967، في الشعر والقصة والنقد. لكن ذلك لم يمنع السؤال، وهو ما يجعل الشعر وجها لسؤال الفلسفة التي تراهن على علاقات الزمن بالفكر والمعرفة. ولم تكن القصيدة العربية لتستسيغ واقع الإنسان العربي، فكان البحث عن منافذ جديدة لدخول تجربة الكتابة الشعرية. قصيدة النثر شرعية من حيث اللغة دون تمثيل واقعية الواقع في الثقافة التي تسندها. ومع ذلك صارت إلى جانب العمودية تعانقها لتسل شرعية الانتماء الذي طغى عليه التأثر بأشعار بودلير، وت.س إليوت وغيرهما. فأصبحت وجها لحقيقة السؤال المعطوب في البلاد العربية، أو تبريرا لسؤال إنسانية الثقافة، في تناسٍ لإشكالات الحضارة الحقيقية التي تعكس ممارسة الفعل الثقافي في واقع المجتمعات. وهو ما جعل الحداثة في الشعر تراهن على الفوقي بخطابات التيه والضياع. ولعل قصيدة النثر بما تحمله من جماليات التصوير والتوقيع، تطرح سؤال التأسيس الثقافي الذي ظل مفتقرا لخلخلة واقع الثقافة الرسمية، نحو الفعل الثقافي للسياسة، الذي يشرك الجماهير العربية في إنتاجه وتذوقه
ما هي المؤثرات التي جعلت كتاباتك بهذا التميز الأدبي ؟
       الحكم بالتميز فيه كثير من غرور الإجابة. فأنا لا أحسن تأويل شعري، إلا من حيث أعتبره جزءا من تكويني من خلال قراءة الشعر في موروثنا الثقافي بتحولاته وتشكيلاته إلى الآن. وهو ما يمكن أن يكون له تأثير في نصوصي الشعرية، ولا أدعي نضجها إلا بانتشارها بين القراء. هم يملكون مفاتيح تشريح النص والحكم على لغته. فقط أكتفي بأن لعنة الشعر تطاردني كعاصفة دائرية لا تُعرفُ طرفاها
كيف تستطيع من خلال القصيدة الشعرية تمرير الخطاب الشعري للمتلقي بشكل يجعل القارئ يدرك ما وراء الصور الشعرية؟
       الشعر رسالة جمالية قبل أن تكون له مسؤولية إبلاغ الرسالة. وأهم رسائله هي تحقيق تأثير جمالي في النفس. الشعور بالشعر هو البدء في التحول نحو الجمال. فمن لا يدرك الجمال يستعصي أن يندمج في بناء المجتمع. وهذه هي علة التخلف الذي نجتره في بلادنا العربية. تخلف جديد ينضاف لتخلف تقليدي. نحن مطالبون بأن نكون جميلين، لكن من أين نبدأ؟
      ربما مرحلة الإيديولوجيات مضت. لكنها لم تخلف رؤية جديدة، تؤكد تجاوزنا لانكسار مزدوج: انكسار الذات وانكسار السؤال عنها. فماذا تعني الثقافة حين تصبح تمسحا لأفكار لا تلبسنا ولا نلبسها. الشاعر في الكتابة يقع بين الوعي واللاوعي، يجرد من نفسه تشظي المعنى في المتلقي، وما يدركه موزع بين متلقين كُثْر. والصورة الشعرية مهما أخلصت لمنطق اللغة فهي تغتال واحدية المعنى. فحين نقرأ أشعار محمود درويش نحتاج إلى قدرة على الفصل بين المضمون وشكله. كيف عبر محمود درويش؟ القضية الفلسطينية عنده معنى خالص، وشكل المعنى رحلة في شعرية الإحساس الذي يفجره في المتلقي. ذاك هو الحد الذي يجعل من الصورة شعرية، تتعالى على الجاهز لتخلق موعدا مع القارئ، ينتظره في بناء صوت مشترك في الشعر، يربط بين أشكال العناصر المكونة للإنتظارات وخرقا لآفاقها لتحدث زلزلة في الذات الثقافية الشعرية
      والخطاب الشعري في قصائدي يرتع في تأمل السؤال، السؤال الذي يعبرني كلما تهيأ له أسباب النزول: قراءة عابرة لفكرة كانت موقوفة التنفيذ في الذاكرة، فجاءها المخاض، لتندلف إلى الوجود في شكل لعبة أدبية لا تتم بغير الآخر، المتلقي الذي يتقاسم نبض الصورة بعد أن أودعها سره، فنشترك عبر المجاز والاستعارة وفنون التأويل دلالاتنا الثاوية خلف اللغة لنقرأ فينا شعرية المعنى، سيرة أخرى
تعرف أن الساحة الأدبية تضج بالكتابات، ومن يسمون أنفسهم شعراء والشعر منهم براء. كيف للقصيدة الجيدة ان تصمد أمام هذا الصخب من الكتابات المنشورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأحيانًا بعض دور النشر؟
      ما كان الكم مقياس الشعر ولا كيفه، فكل المعايير نسبية عبر العصور. وما خلا زمن من الغث والسمين. يكفي أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في بلورة وتجديد دماء الكتابة. لم تكن المرأة يسمح لها بالمشاركة في مجالس الأدب إلا ما نذر من صالونات أدبية. ولم يكن النشر عبر الورق متاحا إلا لمن حملوا وصاية الثقافة الرسمية أو الموالون لها، بحكم الوظيفة السياسية أو الأدبية. ربما كانت الثقافة نخبوية تستجيب لمراحل الخروج من نفق المستعمر، وكانت الوصاية على الثقافة محفوفة بأسئلة التأسيس قدر المغالطة في الإقصاء. ونشأت ثقافة بما لها وما عليها كما حدثتنا المجلات والجرائد في وقتها، قبل دخول زمن التكنولوجيا الرقمية التي أتاحت الفرصة لثقافة المهمشين في شتى ألوان التعبير. عبروا كمّاً وكيفا، دون رقابة تاريخ الثقافة العربية، حيث تم التواصل باللغة والرقص والمسرح، والرواية، والأغنية وغيرها. كان هذا أول تبشير بانفجار عوالم الذات التي ظلت حبيسة الإقصاء زمنا. في كل ذات يتشكل العالم الحر. الحرية معناها الكتابة، ونحن في زمن الكتابة نبحث عن زمن جديد
  ولعل الأدب الفرنسي من خلال الرواية الجديدة أثبت أن الكتابة مُجاوزةٌ لأفق الانتظار، بحيث لم يدرك المتلقي قيمتها إلا بعد زمن، مع كتابات نتالي ساروت وروب جرييه وغيرهما. ونفس الشيء وقع مع أبي حيان التوحيدي بعد قرون طويلة ومع شعراء الصوفية
ما تقييمك للساحة الأدبية اليوم؟ ترى هل النقد الأدبي بخير؟
       النقد الأدبي أمر في غاية الأهمية، لا يمكن أن نفصله عن نقد باقي المجالات. ولما تعلق بالحديث عن الأدب تخصيصا، يلزم النظر إلى المعرفة النقدية في أصولها وتفريعاتها التي استمدت مفاهيمها من أسئلة الفلسفة بشكل عام. الأصل هو التأمل والنظر، وفي ذلك تكمن علاقة الأدب بالفلسفة، من حيث وظيفة المفهوم. لقد استعار النقد آليات اشتغاله من صميم النظريات الفلسفية، فالتمس توظيفها من حيث هو سؤال عن الأدب. والأدب اشتغال لغوي ماكر لأبنية ذهنية تعتمد أنساقها المعلنة والمضمرة. النقد العربي بهذا المفهوم موسم لاستقطاب عناصر بنائه. فقد وظف نقادنا الواقعية الجدلية والبنائية والاجتماعية والتكوينية والسيميائية والثقافية…فكان لذلك حسن التوثيق في مؤلفات نجيب العوفي، ومحمد برادة، وحميد لحميداني، وأحمد اليابوري، وبنعيسى بوحمالة وغيرهم … لكن مجمل المحاولات ظلت رهينة خلفيات فلسفية ودينية فكرية معيارية، تستنجد بالطروحات المنهجية الغربية وتفتقر إلى مساءلة النص المغربي والعربي في إطار سوسيولوجيا التراكم الثقافي. وما دام سؤال المنهج مطروحا بإلحاح، حري بالناقد أن ينغمس في قراءة النص ضمن سياقات إنتاجه وتفكيك البنى المتحكمة في تشكيله
هل يمكن ان نقر بوجود قراء للشعر؟ وكيف السبيل لتشجيع الطاقات الشابة بالاهتمام بهذا اللون الادبي؟
        إن قراءة الشعر لغة لازمة لوجود الإنسان. فإذا كان الشاعر القديم قد استمد توقيعاته من صوت الطبيعة والحيوان، ومن هدوء العاصفة، ورقود الكثيب، وانهمار المطر، ورحيل الخيمة… فذلك ما يعني أن حضور الشعر يعتبر مكونا في الذات الإنسانية، حين يستهويك التيه فتزجي الخطى بصوتك الداخلي، ويخرج الكلام سمفونية يصاحبها وقع، كما هو الشأن ساعة تمنحك القصيدة عريها، فتلبسها من عندك مفاتن الخروج إلى الحفل. ذاك هو سبيل السامع وهو يتمثل الخطى لينقدح منه شرارة البوح بسؤال: ما معنى الشعر؟ هو موجدة غائرة في الذات، لا يمكن الهرب منها إلا لتعود إليها، تستنطقها ساعة القراءة فيكبر حجم القدرة على السفر. هو حال الشعر اليوم، في محافله ينبيك أنه يعيش في برجه، لكنه يستهوي المرء كاتبا وسامعا ومطربا ليصعد إليه، وحال رغبة المرء أن يمتلك درجته. من هذا المنطلق تكون الطريق بابا لتفجير أسئلة الشعر في وجه جيل الشباب الجديد الذي يتملكه الجمال خلف أستار التقنية

” قصيدة جديدة خص بها الشاعر”ألوان

على باب القيامة

على باب القيامة وقفنا
نحن العائدين من الموت
نستلم شهادة ميلاد
وكسرة خبز يابسة
الصوت يأتي من وراء حجاب
 بعيدا بعيدا  
كمن تخلف عن حضور المرافعة
قال الذي أشعلَهُ الكلامُ
كنتُ كما كنتُ
 فهزّني الشوقُ
وقال الثاني أنا متّ مرتين فجئتُ
ولم يأتِ دورُ الذي ناداه  ظلُّهُ
منهكاً بمحو اسمه
من ورقةٍ صفراءَ جدّاً
راقبتُ فيها وجهي
وقرأتُ الذي بلّغَ عنِّي تُهمةَ السؤالِ
وساءني لمّا بدَا السؤالُ
حين سألتُ
 عن بائعةٍ هواها للعائدين من الموتِ/الحربِ
مثخنةً جباهُهُم بالتَّمَرُّدِ
على شجْرة التين الناعسهْ
 وبعد أن يبستْ أوراقُ الانتظار
وقفنا مُتسَمِّرين
خشباً خشباً
طلعتْ على جسدي سورةُ الكهفِ
و العنكبوتُ يُحْدِثُ صُرَاخاً شَجيّاً
في نفسهِ
لكن تأخّرَ أن يكملَ الكلامَ
عن ميلادِ أغنيتهِ الأولى
الموؤدَةِ بينَ الأسماءِ
ساهِمةً هي الرؤيا
وأنا أتنفسُ في الهواءِ غورَ المكانِ
رأيتُ الشمسَ والقمرَ يَنصِبانِ تمثالاً
لمنْ كانَ النقشُ ؟
قاضِي القِيامةِ واقفٌ
لم أكنْ أعرفُ خاتِمَتِي
ولاَ
لماذا يقولُ لِيَ الحارسُ
اُكْتُبْ
أرُبَّمَا نسِيتُ سؤالاً فاقَ لثْغَتي
رُبَّمَا كلَّمتُ القائمَ على الموتَى
متى يعودُونَ
معْنِيّاً كنتُ أسْتَجْدي دوْرِي
لكنْ تأجّلَ فيَّ الحُكمُ
وَصِرْتُ خلفَ البَابِ نِسْياً مَنْسِيّاً

:نهج السيرة

إدريس زايدي مزداد سنة 1959 بعين أگرى سيدي سليمان مول الكيفان – إقليم مكناس
– أستاذ باحث. حاصل على شهادة التعليم العالي في الأدب العربي
– عضو مؤسس لجمعية “إثري” للثقافة والتنمية الاجتماعية بجماعة سيدي سليمان مول الكيفان
– عضو جمعية أصدقاء المكتبة الوسائطية بمكناس
– عضو جمعية صروح للثقافة والفن بمدينة فاس

: المنشورات

– في الشعر : ثلاثة دواوين ( وجع النخيل / أسأتُ لي/ قبل صيف مضى)
: في النقد
ملامح النقد المغربي الحديث
مقامات الوطن في المنجز الشعري لأحمد مفدي(تأليف مشترك)

“ألوان”

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com