في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
“في القنطرة جلجلة”
ننشر رواية “في القنطرة جلجلة” للكاتب والشاعر  المغربي حسن حامي بموافته بالطبع ضمن حلقات ليتمكن القارئ من الاطلاع عليها عبر موقع الوان. جزيل الشكر للروائي الشاعر حامي الذي دأب منذ سنين يتابع مسبرة الوان ويمدها بالدعم والتشجيع المستمر
      المؤلف: حسن حامي
      لوحة الغلاف بريشة التشكيلية جميلة هاشموفا Jamila Hashimova
      الإيداع القانوني
      ردمك
      الطبعة الأولى: 2020
      الإخراج الفني والطباعة: دار أبي رقراق للطباعة والنشر

في القنطرة جلجلة

1

كثرت التأويلات والتعاليق، ولم يستطع أحد أن يفك شفرة القنطرة. ظاهريا، هي قنطرة مثل أغلب القناطر الموجودة في المنطقة. كانت مدرجة إلى عهد قريب في سراديب النسيان، تبدو مهترئة يتربع الشرخ على كل شبر منها، وهي تترنح بين الفصول لاحول ولا قوة لها، تنشد اهتماما بدا عزيزا على الجميع، ساكنة وفضولا
دفعت القنطرة ضريبة الخلافات السياسية وتضارب المصالح بين مكونات لم يجمع بينها، أحيانا، سوى الرغبة في التموقع في رقعة الشطرنج التي بدأت تتشكل معالمها على خلفية تغييرات أصبحت حتمية على أصعدة مختلفة. تغييرات فرضتها تصفية حسابات ورغبة أكيدة من قبل الفاعلين المتمكنين في طي صفحة ماض لم يكن مشرقا، بل غلفته غيوم سميكة اختلط فيها الحابل بالنابل والتمكين بالتدليس والصالح بالطالح
ظن بعض الفاعلين أن تدبير شؤون الساكنة من دونهم مستحيل ولن يقوى أحد على تعويضهم. كما اعتقد خصومهم أن إطلاق الشائعات وتقمص أدوار جديدة سيمنحهم صفة المنقذ والصالح في كل مكان وزمان. ولكن القنطرة تنشد اليوم حظا أحسن؛ تغير جلدها وأصبح لنفسها رائحة ولأعطافها صلابة والناس في أمرها يتوزعون بين حائر ــ من باب المسؤولية ــ ومتطلع ــ من باب الفضول
 تتموقع القنطرة بين مطرح للأزبال، تمت مصادرته مؤخرا، على خلفية استفحال الأمراض التي خلقها للساكنة، ومعبرين أخذ الوهن منهما، ولكنهما يظلان المسلك الأمثل للربط بين مختلف الممرات الضيقة. ولكن أهمية القنطرة تأتي في كونها تطل بمئات الأمتار فقط على البحر، ومن خلالها يمكن رصد تحركات الساكنة وهوس بعضهم بالصيد خلال فترات متفرقة من السنة. وقد أصبحت القنطرة أكثر شهرة غداة تحويل المجزرة البلدية الشهيرة، التي تجاورها، إلى مرافق مخصصة للحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والعروض المسرحية، في وقت تضاءل فيه اهتمام الناس بالفن وشغل الفنانون أنفسهم بالبحث عن الاستفادة من المنح الحكومية (على ضآلتها) أو من هبات الجماعات المحلية الموسمية أو الظفر بفرصة تقديم إنتاج من فصيلة الوجبات السريعة خلال شهر رمضان. هكذا أخذت القنطرة تتفاعل مع محيطها بسلاسة ومرونة كي تجد لنفسها، من جديد، موطئ قدم في وجدان الساكنة
لم يكن تطور القنطرة بالشيء الهين، ولم يكن أحد يتصور أن تصبح ملجأ لأصناف متعددة من البشر والحيوانات والحشرات والطفيليات. ولكن كل شيء تغير بين عشية وضحاها. هل لهذا التغير علاقة بتغير الأمزجة وتطور العقليات في ظرفية اختلطت فيها المعايير؟ هل لأن الساكنة في الجوار سئمت من روتين مزمن تآكلت معه كل رغبة في التطلع إلى غد أفضل؟ هل لأن السلطات قررت، ــ أخيرا ــ أن تأخذ على محمل الجد الشائعات حول رغبة بعض الجماعات اتخاذ القنطرة منطلقا لعمليات تعبئة عامة ترمي إلى تهديد السلم الاجتماعي؟
يظل السؤال المحير، مقارنة مع كل هذه الأسئلة الأخرى، هو لم اختار الجميع هذه القنطرة بالذات، في الوقت الذي توجد في الجوار قناطر أخرى لا تقل أهمية عن القنطرة المنشودة من حيث الشرخ والهوس وتنامي التسيب والرعونة؟
بدأت الحكاية غداة وصول رجل يسوق عربة محملة بأثاث قديم وبمكتبة صغيرة تتسيد بين رفوفها الهشة كتب من أحجام مختلفة مكتوبة بلغات متعددة. كانت المحتويات مرتبة بعناية فائقة وتتضمن مجلدات صغيرة غير مكتملة، بعضها موسوعات معروفة، وبعضها الآخر مراجع مهمة في بعض العلوم، إضافة إلى كتب في الفقه واللغة والأدب. كما كانت جنبات المكتبة مزينة بلافتات متنوعة معنونة بمقولات مثل: “قمة الذكاء أن تكون غبيا!”؛ “أحلى تجليات السعادة لحظات جنون!”؛ “الحب رصيد ينتهي؛ ليس إلا!”؛ “أكتب قبل أن يجف المداد، سيحفظ تعبك عسس المجهول!”؛ “السماء سقف والأرض سرير، وبينهما يتبخر الأثير!”
 كانت العربة كل ما يملك هذا الشخص ــ أو هكذا بدا الأمر في الوهلة الأولى. أركنها في الجانب الأيمن من القنطرة في مكان تقل فيه الشقوق لايحركها قليلا من مكانها إلا في المساء، حيث يغلفها بأغطية من بلاستيك سميك وعالي الجودة وينام بداخلها. ومع الأيام، تحولت العربة إلى شبه كوخ، ولكن دون مواصفات تليق بالعيش اللائق
في البداية، لم يعره أحد اهتماما. كان الشخص وسيما إلى حد ما وتنضح من جبينه ومضة كبرياء وعزة نفس. لم يكن كثير الكلام. وقبل أن ينام على ما يشبه سريرا صغيرا من خشب، بسبب ألم في الظهر يلازمه منذ مدة طويلة، كان يشعل مذياعا صغيرا ويستمع إلى الموسيقى في غالب الأحيان ــ ونادرا ما يبدي اهتماما بنشرات الأخبار. كان المذياع مثل تحفة ثمينة بالنسبة إليه، وكان حريصا على حمله معه أينما تحرك في محيط القنطرة
 وما هي إلا أسابيع قليلة حتى بدأ تواجده تحت القنطرة يثير الفضول. حاولت مجموعة من المتشردين إقلاق راحته بمختلف الوسائل، ولكنه ظل هادئا. بل كان يبادل وقاحتهم بابتسامة مكنته، في النهاية، من كبح جماحهم. ثم لوحظ أن مجموعة من الكلاب والقطط الضالة أصبحت تتجمع بالقرب من القنطرة. لم يكن ذلك غريبا بقدر ما كان الأغرب هو تغير سلوك الكلاب والقطط التي أصبحت أكثر هدوءا وأقل عدوانية تجاه بعضها البعض. وخلال فترة وجيزة، انضمت بعض الجرذان إلى المجموعة. وأصبح من المألوف أن ترى الشخص الغريب يراقب الكلاب والقطط والجرذان باهتمام كبير ويدون ملاحظاته في إحدى المفكرتين اللتين كان يستعملهما حسب المزاج ــ أو هكذا كان البعض يظن ــ بعد أن يختار صفحة بطريقة عشوائية. كانت المفكرتان من حجمين ولونين مختلفين: أسود وبني
 بل ازدادت دهشة البعض حين لوحظ أن كلبين وقطتين وثلاثة جرذان اعتادت التجمهر أمام المكتبة الصغيرة، كل صبيحة، وتنتظر خروج الشخص الغريب من كوخه البلاستيكي لكي يبدأ في القراءة بصوت خفيض. كان الجميع ينصت باهتمام كبير، وبعد انتهائه من القراءة، كان يطعمهم قبل أن يتفرقوا ويذهبوا كل إلى حال سبيله
“ما الذي يقرأه هذا المعتوه؟”، تساءل البعض؛”وهل بإمكان الحيوانات فهم مايقرأه لها؟ وما الذي يجب فعله لإنهاء هذه المسخرة؟”، تساءل البعض الآخر.  قيل إن الحيوانات المواضبة كانت تهدف إلى الحصول على الطعام. ربما، ولكن الشخص الغريب كان له رأي آخر
لم يكن هذا الشخص سوى متروي. إسم زاد من توجس الناس، ليس فقط لكونه غريبا مقارنة بالأسماء المتعارف عليها، ولكن لأنه يقع في الأذن موقعا حسنا وكأنه نوطه على مقام سلس الاستيعاب، رغم أنها تعزف على إيقاع رتيب. لم يكن كبير السن. ربما ما بين الأربعين والخمسين على أكبر تقدير. ورغم كثافة شعره، كان يلبس قبعة روسية الشكل يتوسطها شريط أحمر رقيق، لايضعها جانبا إلا نادرا. ولكنه كان يحرص على حلق لحيته كل صباح؛ كما حول مرحاضا عموميا قديما إلى مكان تتوفر فيه بعض شروط النظافة، حيث كان يقضي حاجته.  كان يجلب الماء من صنبور يرتبط بمصنع قديم للصلب، أفلس صاحبه بعد تخلي أشهر الأبناك العائلية عنه، بينما ظل الماء تحت تصرف منعش عقاري حديث العهد بالمهنة اشترى بقعة بجانب المصنع وأعدها للسكن الاجتماعي، ولكنه كان يتباطأ في إنجاز المشروع، خشية أن يحصل له ما حصل لصاحب مصنع الصلب. كما كان متروي يذهب إلى الحمام العمومي مرة في الأسبوع، وبعد ذلك، يجلس في إحدى مقاهي الجيل الجديد، تحمل إسم ‘المنتزه’، لتناول فنجان قهوة أو شاي حسب الظروف. لم يكن يلبث هناك كثيرا، لأنه كان لا يتحمل رائحة السجائر ولا يحب الحديث مع زبناء لا يعلمون ما الفائدة من قضائهم نصف يومهم هائمين بين المارة والدخان. كما كان يجلس أحيانا في قمة القنطرة ويظل ساكنا لدقائق، ثم يقوم بحركات تشبه حركات اليوغا، قبل أن يغادر وهو يتلو ما يشبه أناشيد صوفية أو روحانية غريبة
 ومما كان يؤثث أحاديث البعض، العناية الفائقة التي كان يوليها متروي لأظافره. كان ينظفها ويقلمها ويحرص على جمع جزيئيات الأظافر المنزوعة ويضعها في علب صغيرة، ثم يدفنها غير بعيد عن العربة ـــ وفي مكان مختلف كل مرة. كانت عملية الدفن تخضع إلى طقوس غريبة، وكأن متروي يودع جزءا من نفسه؛ لم تغب سوى الدموع. وبعد مراسيم الدفن، يعمد إلى تأمل أصابع يديه الواحد تلو الآخر، ثم يقوم بتدوين ملاحظات في المفكرة السوداء. وحدث مرة أن جرح أصبعه الوسطى، فوضع لزقة لحمايته من الجراثيم، ومع الوقت، تعود عليها وأصبحت مثل خاتم لايغادره أبدا؛ بل غدت كتعويذة أوحت إليه بفكرة صنع طائرات ورقية كان يدون عليها رموزا غريبة، تراكمت بعد مدة، فقرر التخلص منها. اختار عشوائيا يوم الأربعاء من كل أسبوع لإطلاق الطائرات الورقية في الجو شريطة هبوب رياح كافية لذلك. لأول وهلة، بدا الأمر ضربا من العبث، ولكنه أصر على إنهاء هذا الطقس مهما كلف ذلك من وقت. وما كان ليستمر لو علم أن عيونا تراقبه من بعيد وتترصد كل خطوة يقوم بها
تحول المرحاض العمومي، الذي أهله متروي، إلى مكان محترم يقضي فيه المارة حاجتهم، فسنحت له فكرة إرغامهم على دفع درهم أو درهمين لواجبات النظافة. قبل الكثيرون بالفكرة، ولا سيما أن السلطات التي تتكفل بإدارة الشأن المحلي فشلت في فرض ثقافة المراحيض العمومية، حيث كان بعض المتهورين يكسرون المرافق أو يسرقون الصنابير ولوازم النظافة. بالمقابل، لوحظ أن بعض المقاهي المتوفرة على مراحيض محترمة قليلة جدا؛ وكان مصيرها نفس مصير المراحيض العمومية النادرة من حيث الهدم والتكسير والهمجية. مكنت المداخيل الضئيلة التي يستخلصها متروي من خدمة المرحاض من شراء وغرس شجيرات وأزهار وورود في كل جنبات القنطرة. كان لبادرته هذه الوقع الحسن على فئة من شباب المنطقة المجاورة دفعتهم إلى القيام بحملة تنظيف للقنطرة والجوار مرة في الشهر. لم يستأذن أحد منهم متروي، كما أنه فضل عدم الاختلاط بهم. بل لوحظ أنه أثناء تواجدهم، كان يذهب إلى البحر، القريب جدا، ليقوم بما يمكن تشبيهه برياضة المشي
فرض متروي الاحترام على الناس، ولا أدل على ذلك من أن العربة والأثاث والكتب لم تتعرض خلال تلك الفترة للإتلاف من قبل أي أحد. كما أن جملة من المتشردين فضلوا الابتعاد عن محيط العربة، وذلك بعد أن فشلوا في التأقلم مع الشروط التي وضعها متروي للحفاظ على النظافة. لم يكن هذا يعني أن حبل المودة بينه وبينهم قد انقطع. لا، أبدا! الأمر كله هو أنهم أصبحوا حريصين على الاحتفاظ بكلابهم وقططهم بعيدا حتى لا تتأثر بسحر متروي في استقطاب الحيوانات ــ وهي الدعاية الكاذبة التي كان يروج لها أحد الشباب الذي لم يكن سعيدا أن تتحول القنطرة إلى مكان شبه نظيف
 من أين كان متروي يستمد مصاريفه؟ لا أحد أمكنه أن يجزم، ولكنه كان يؤدي ثمن كل ما يقتنيه نقدا، كما أن حاجياته كانت بسيطة جدا، وتستثنى منها اللحوم بكل أصنافها، وكأنه من دعاة نمط الحياة النباتي. كما لوحظ أن شابة كانت تأتي لزيارته بين الفينة والأخرى ــ وعلى فترات متباعدة ــ تحمل قفة محكمة الإغلاق وتقضي بعض الوقت معه، بجانب المكتبة الصغيرة، ثم تغادر إلى جهة مجهولة. من تكون هذه الشابة؟ كانت ترتدي دائما لباسا محتشما وتمشي بسرعة ولا تنظر خلفها أبدا. وفي كل مرة، كانت تستعد فيها للمغادرة، كان متروي يحرص على ألا يضايقها أحد من الشباب، ولا سيما عندما كان يصادف تواجدها قيامهم بنشاطهم الشهري في تنظيف القنطرة وجنباتها. وبعد رحيلها، كان يخلد إلى الصمت، وأحيانا ينغمس في قراءة كتاب يخرجه من مكتبته، وأحيانا أخرى، كان يتأمل اللافتات، وكأنه يحاول إعادة صياغتها في ذهنه. كان يبدو أكثر هدوءا ويرسم على وجهه ابتسامة غامضة. ومرات أخرى، كان يلجأ إلى الكتابة في إحدى المفكرتين
وذات يوم، لم تأت الشابة كما كان مبرمجا. لم يستطع إخفاء انشغاله، ولكنه حاول الحفاظ على هدوئه. أخرج المفكرة السوداء من جيبه، وكتب
“لو كان بوسعي أن أغير الزمن، أنا الذي غمست نفسي في العفن، هل كنت اختزلت معاناتي في ضحكة قوية تستنزف فضول الأغبياء وفصاحة الأذكياء من بين معارفي؟ أحياة تكون حياتي، وأنا لا أستطيع أن أركن إلى مكان وأستريح؟ ماذا بعد، إذ تنكشف اللعبة ويصبح اللعب ضربا من الجنون؟ عانيت وما أستطيع أن أستمر في مغالطة نفسي؛ فقدت الثقة في البشر، وهل من حقهم أن يعلنوا أنهم، بدورهم، فقدوا الثقة في شخصي، أنا الذي كنت سحابة صيف في حياة أغلبهم؟ ماذا بعد، حين يصبح الألم، رغم عنفه، نغما وكلما زاد، زادت معه الرغبة في التلذذ؟ وهذه الكلمات المتقاطعة، ما أصلها أصلا كي ترغمني على محاكاة مأساتي؟ وهل من حقي أن أكفر بكلمات هي الرابط الوحيد الذي يربطني بهذه الأرض… بهذه القنطرة؟ وسوف أكشف أسرارها… وسوف أنهي ترددي على أضرحة النفي لعلني أسائل قدسيتها وأنفذ إلى أعماقها بحثا عن أجزاء مني فقدتها، وأنا بعد في نعومة أظافري، أقفز بين المسافات…”
توقف عن الكتابة، حين لاحظ أن أحد الشبان، الذين يعملون على تنظيف القنطرة، يمشي وراء فتاة، خيل لمتروي أنه يعرفها، قبل أن يلتحق بهما شخص ثالث ويتيه الجميع وسط الزحام. طرد الفكرة من رأسه، منذ مدة، لم يعد نظره يسعفه ليميز بين كل ما يراه عن بعد. حاول العودة إلى الكتابة، غير أن أحد المتشردين جلس على بضع أمتار للتغوط. لم يتركه متروي يفعل، بل أشار إليه باستعمال المرحاض العمومي. أجابه المتشرد بأنه لا يتوفرعلى سنتيم واحد ليدفعه له. شرح له متروي أن بإمكانه استعمال المرحاض بالمجان. فأجابه المتشرد بأنه سمع مؤخرا أن أحد الناس المهمين يفكر في استئجار جنبات القنطرة ليحولها إلى مكان للترفيه شريطة أن تنظف كليا وأن يهدم المرحاض العمومي. وبناء عليه، يرى المتشرد أنه من واجب المواطنة الحقة التبول والتغوط في مختلف الجنبات لكي يتراجع صاحب المشروع عن فكرته. لم يصدق متروي أذنيه، بيد أنه كان يعلم أن المتشردين والسكارى وحراس السيارات والحلاقين من أكثر الناس دقة في تقصي الأخبار وترويجها. ورغم ذلك، نصح متروي المتشرد باستعمال المرحاض العمومي، لأن ذلك من شأنه أن يحافظ على نظافة القنطرة ويحرم المستثمر الافتراضي من ذريعتة المثلى لإقناع السلطات بمنحه حق استغلالها
قهقه المتشرد وقال
ـــ أتركني وشأني يا صاحبي! أنا لا أقبل نصائح من شخص لا يصلي ولا يذهب إلى المسجد يوم الجمعة. ثم ليكن في علمك أنك ستنتهي هنا مثل جرذ أغراه زبد البحر، فخيل إليه أنه قشدة، ليسبح فيه مغمض العينين ظنا منه أنه سيظفر بها في النهاية. كانت نهايته حزينة جدا. ما كان الزبد زبدا، ولا القشدة قشدة
كانت ملاحظة المتشرد دقيقة. فعلا انقطع متروي عن الصلاة منذ مدة. كما أنه، قبل ذلك، لم يكن يذهب إلى المسجد لصلاة الظهر يوم الجمعة. من قال إن الناس لا يهتمون بحياة الآخرين ولا يراقبونهم ليل نهار، لأسباب مختلفة ومصالح متعددة؟ ولكن ما هي مصلحة هذا المتشرد في السلوك الديني لمتروي؟
استأنف متروي الكتابة
” النظافة من الإيمان شعار فقط! يؤسفني أن أقر بأن النظافة في مراحضينا ومطابخنا وشوارعنا وأزقتنا وغرف نومنا تئن تحت وطأة الإهمال. يؤسفني أن أقول إن من يترك قطته وكلبه ــ مع احترامي للكلاب والقطط، أصدقائي في القنطرة ــ تنام إلى جانبه في السرير أو أن يقبلها وتقبله صباح مساء، وإن على مائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء، لا يمكنه أن يتحدث عن القيم الكونية وكافة الترهات حول التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وسمو النفس البشرية. يؤسفني أن أرى ناسا يرمون الأزبال من النوافذ والشرفات، ويدعون أنهم يمثلون المواطنة الحقة. يؤسفني أن أقول إن من يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، هو أول من يترنم بتعدد الزوجات، وبتزويج الطفلة القاصر، وبمحاربة الإنصاف في الإرث وبالدفاع عن الحكم بالإعدام ويتلذذ بمآسي الآخرين لأسباب واهية. يؤسفني أن أكرر بأن عدم نظافة المراحيض والمطابخ ثقافة تبخس الإنسان وتفند كل الادعاءات حول تطور الأخلاق. يؤسفني، أخيرا، أن أقر بأنني لم أعد أجد أي تفسير للأخلاق في زمن أصبحت فيه الأخلاق أرملة ومشردة ومومسا تتلاعب بها الأهواء… يشرفني أن أقول إنه لا بد من القيام بشيء ما للتخلص أو للقصاص من هذه الفئة من البشرــ وفي أقرب وقت ممكن.”
ـــ السلام عليكم، أستاذ!
رفع متروي رأسه، ليجد أمامه شخصا لم يكن غريبا عليه، يقف أمام العربة. قد يكون من رواد ‘المنتزه’ أو الحمام العمومي
ـــ وعليكم السلام، رد عليه، وهو يتساءل في أعماقه عن سر قدومه
ـــ أتمنى ألا أكون ضيفا ثقيلا عليك
ـــ أبدا! ربما! أبدا! أبدا
ـــ كيف هي الحال؟ كنت أريد أن أسأل. لا جرأة مني لحشر نفسي فيما لا يعنيني
ـــ الحال هي الحال في كل الأحوال
نظر إليه مخاطبه، وابتسامة ساخرة عميقة تطفو على شفتيه. هذا الشخص الفضولي غير مرحب به في كل الأحوال. لم يتمالك متروي نفسه من إلقاء نظرة تشخيصية كاملة عليه. لم يكن هذا الشخص ليقف هنا إلا لكونه يحمل شيئا أو يضمر شيئا ما في نفسه، مثله مثل كثير من الفضوليين في هذا المكان. كان طويل القامة قوي البنية، يزين وجهه بشارب يذكر بشيوخ زمان، عندما كان للشعر مقام في فهرس الرجولة؛ لكن لم تكن تبدو عليه أية مسحة من الورع أو الوقار. شخص عادي بكل المقاييس. ولكن ماذا يريد؟
ـــ أستسمح من جديد على فضولي، كنت أود أن أسألك، ما دمت تعرف المنطقة، عن بعض الأشياء. هل ممكن؟
تجاهله هذه المرة. لا داعي لاحترام من لا يحترم نفسه
ـــ أنا معجب بما تقوم به. ولكن أريد أن أعرف كيف تقوى على التعايش مع الجرذان والقطط والكلاب؟
كان سؤاله في قمة الغباء. كل الناس تتعايش مع الجرذان والقطط والكلاب وغيرها من الحيوانات والحشرات والطفيليات. ما العجب في ذلك؟ لم يجبه، بل تظاهر بالبحث عن شيء ما. لكن الآخر لم يأبه بذلك واسترسل
ـــ اعذرني إن قلت لك إنني أراقبك منذ مدة. ويمكن أن أجزم، بكل يقين، أن وراء وجودك في هذا المكان قصة
ياللغباء! مَن مِن بين الخليقة كلها ليس له قصة؟ أما عن المكان، هل يختار الناس أماكنهم بكل تجرد وبكل حرية؟
ـــ ماهي قصتك يا أستاذ؟، أعاد مخاطبه الكرة
كان لا بد له أن يوقف هذه المهزلة؛ طأطأ رأسه وتناول عصا صغيرة وخط رسما غريبا، ومن دون أن يرفع رأسه، لوح بأصبعه الوسطى، وكأنه يشتم أحدا، ثم خاطب الآخر
ـــ معذرة يا سيدي! اسمح لي بدوري بجملة من الأسئلة: أولا، أنا لا أعرفك، لأنك لم تتفضل بتقديم نفسك؛ ثانيا أنا لست بأستاذ، ولايعنيني أن تناديني بهذا اللقب إما تملقا أو استخفافا؛ ثالثا، من حقي أن أمتنع عن الجواب، لأن الحكمة عدوة الأجوبة السريعة؛ رابعا، الأرض بسيطة وملك الله واسع وجنبات القنطرة زمهرير، وكل قصة لا نهاية لها؛ خامسا، الوقت ليس كالسيف، والسيف لا يقطع إلا من مد عنقه لمسافة غير مسموح بها؛ سادسا، قصص عنتر وعبلة وجوليو ورومييت وقيس وليلى إما ملفقة أوسخيفة؛ سابعا، من لا يقرأ، يختزل الزمن في أربعة فصول ولا يؤمن بالاحتباس الحراري ولا يسمع أنين الأرض وهي تحتضر؛ ثامنا، أن تزين المرحاض بأجمل ديكور، وأن تضوعه بأزكى العطور، لا يمنع الروائح الكريهة والشخص واقع في المحظور؛ تاسعا، الجرذان  والقطط والكلاب تتعايش عندما يتسلل بينها حيوان جديد، فتضع الحرب بينهم أوزارها ويتجمعون بالتناوب كي يتأقلموا مع الوضع الجديد؛ عاشرا، لم يكن للنكسة أن تقع لولا حفنة من المخبرين والجواسيس والخونة؟ إحدى عشر، كان قطاع الطرق أكثر رحمة بالحجاج وهم يتنقلون بين الأمصار والإيمان سبيلهم إلى النجاة، لأن السرقة كانت مصدر عيش لا غاية في ذاتها؛ إثنى عشر، تداول الأئمة قد يعني هشاشة الحجة، وقد يعني حاجة إلى التجديد، وقد يعني أن الحرف لم يبق له بما يفيد؛ ثالث عشر، من قرر أن يكون هذا الرقم نذير شؤم والأرقام كلها مسألة حظ؟ رابع عشر، هل تريد مزيدا أم أن أسئلتي مثل أسئلتك غباء في غباء؟
رفع رأسه، كان الشخص قد اختفى
كم كان غريبا تصرف هذا الرجل؟ يسأله. لم يسأله؟ كل ما يذكره هو أنه، منذ مدة، فقد ذاكرته جزئيا. يمكن لكل شخص أن يختار ما يتذكره وما يريد أن ينساه، يكفي أن يذر الرماد في عينيه ويقاوم فضول الآخرين، مثلما فعل الآن. هل عسكرة الذكريات وحدها كفيلة بإعطاء نفس جديد للحياة؟ عندما كان صغيرا، كان أبوه يستفز حذقه بإرغامه على ترديد عبارات نمطية من ثرات العائلة، كانت أقواها حدة تلك التي تغرق المستمع في دوامة اللاوجود: ” كن أول المغادرين، عندما تغيب العفة ويقل الحسب! أما النسب، فهو برَد مهما كبر حجمه، لا يعوض زخات المطر!” وعندما كبر قليلا، تعلم أن تكرار الجمل، ولو كانت عميقة المعنى، لا يعني في فضاء المعرفة، إنجازا يذكر. ويتذكر جملة قالها أحد ضيوف برنامج تلفزيوني حين أكد أن من بين الحسنات التي يمكن لأي شخص عاقل أن يسديها لنفسه، في زمن يتنفس جنونا، هي أن يتجاهل قراءة الرسائل السريعة على شبكات التواصل الإجتماعي وأن يغفل قراءة بريده الإلكتروني، لأن كلا الوسيلتين سم زعاف وهم لا ينتهي! وكذلك الجواب عليها
توجه متروي إلى أحد أركان القنطرة يحمل فأسا وجلس يحملق في أحد الشقوق. وتناهت إلى مسمعه شذرات من موسيقي يحبها كثيرا، فتسمر في مكانه وأغمض عينيه يستجلي سحرها كي يستعيض به عن الألم الذي سببه له مخاطبه الوقح. وبينما كان يدملج في رأسه كلمة السر التي سيختارها للتصدي لجحافل الفضوليين، طرأت له فكرة: لم لا يعلن العصيان وسيلة والصمت الأبدي درعا والسخرية ومضة كبرياء؟ فلربما اتقى شر الآخرين وشر نفسه. لكنه إذا انساق وراء استفزاز الآخرين، فإنه سيحيد عن الهدف الذي حدده بتواجده في هذا المكان. لم يتمالك نفسه، فحمل الفأس من جديد وبدأ يحفر… كانت ضربات الفأس ضعيفة، في الأول، ثم أصبحت أكثر قوة مع توالي الدقائق. واستمر على هذا المنوال حتى فقد وعيه.
ـــ هل استطعت أن تستجلي أمره؟
ـــ لا، للأسف. يبدو أنه أذكى مما كنت أتوقع.
ـــ لا بد من الوصول إلى شيء. أنا لا أومن بالصدف. وهذا الوقار على وجهه بضاعة مستهلكة، لن أدفع مقابلها سنتيما واحدا.
ـــ ولا أنا، ولكن هذا الشخص غير عادي. أعني أنه، إضافة إلى ذكائه، يبدو وكأنه يحمل في أعماقه هما لا يوصف. هل يكون بارع التمثيل إلى هذا الحد؟
ـــ مهما يكن، لا بد أن نعرف
ـــ ما يقلقني حقا، هو اللافتات المعروضة على أركان العربة
ـــ اللافتات لا تعني شيئا، ربما استنسخها من الكتب التي تعشعش في مكتبته الرديئة
ـــ وما أدراك أن الكتب رديئة وأنت لم تقرأها؟
ـــ أكثر الناس الذين يتبجحون باستعراض الكتب لايقرأونها بتاتا. هم يتصرفون مثل أولئك الذين يعلقون صورا على الجدران مع شخصيات مشهورة للتباهي.
ـــ معذرة، ما هو آخر كتاب قرأته؟
ـــ لا تمزح معي بهذه الطريقة! منذ زمان، كف الناس عن القراءة. الناس تعيد صياغة نفس الأشياء وتدعي أنها تجدد؛ ولكن هذا ليس موضوع حديثنا الآن
ـــ ما العمل إذن؟
ـــ لننتظر قليلا، بعض الوقت يكفي. لا بد لهذا الشخص أن يكشف أوراقه يوما! والانتظار، بلا تهور من جانبنا، سيكون ورقة رابحة في كل الأحوال
دار هذا الحوار بين مستتر ومفيد، شخصان تفرق بينهما أشياء كثيرة، ويجمع بينهما شيء واحد، حب الاستحواذ على كل ما يوجد في هذه المنطقة، أرضا وهواء وناسا. وكلاهما اختصر الطريق للوصول إلى مبتغاه. استغلا حجم الفراغ الذي نتج عن صراع طويل بين بعض شخصيات للتغلغل داخل النسيج الاجتماعي وشغل مكانة ما كانا ليحصلا عليها لولا كسل الآخرين وتقاعسهم أمام التحديات المتكررة. لم يكن أحد يتصور أن ما كان يعتقد أنه مرحلة انتقالية سيطول إلى الأبد. لم يجد أحد الجرأة الكافية ليقر بأن طول مدة المرحلة الانتقالية ليس سوى إقرار بصعوبة إيجاد حلول لمشاكل عدة؛ حتى التهرب من المسؤولية، من وجهة نظر البعض، لم يكن اختيارا سهلا
في خضم العجز الذي أثقل الجفون، أصبحت عبارة: “كم حاجة قضيناها بتركها” صك غفران تترجمه موجات السفر إلى الخارج.  وكم كان مثيرا للغرابة أن يتنافس الناس في اختيار وجهات السياحة الداخلية أوالخارجية أوالذهاب إلى أماكن عبادة متعددة كالأضرحة، رغم أن روائح البدعة والخرافة أصبحت تزكم الأنوف. هذا، علاوة على القيام بمناسك الحج أكثر من مرة، حتى بالنسبة لأناس لم يكونوا بتاتا في يسر من أمرهم. ولكن الموضوع اتخذ حجما أكبر عندما قام حطاب، أحد الأعيان الجدد (أو من يدعون ذلك) من أقارب مستتر، بزيارة مدينة القدس، بناء على دعوة توصل بها من أحد المغاربة اليهود، صديق صباه، إسمه سامي. وتمكن حطاب، خلال تواجده هناك، من الصلاة في المسجد الأقصى، رغم ظروف الحصار والاستنفار الذين أعقبا استحواذ اليمين الأكثر تطرفا في إسرائيل على الساحة السياسية وتمكنه من إنهاء انتظام الانتفاضة الفلسطينية
لم يكن الأمر ليثير أية حساسية لولا أن حطاب أبدع في نسج الحكايا حول المدينة المقدسة ونصب نفسه كفيلا على كل الفلسطينيين بدعوى أن باب المغاربة شيده مغاربة من بينهم أحد أجداده كان قد اشتهر بالورع والإيمان والدعوة إلى تحريم تعدد الزوجات. ‘ماعلاقة تعدد الزوجات بتشييد باب المغاربة؟’ سئل أكثر من مرة. وكان جوابه هو أن الامتناع عن تعدد الزوجات يساعد الرجال على الحفاظ على كامل قواهم وتركيزهم من أجل إنجاز الأعمال الموكولة إليهم. ولتقوية حجته، ضرب حطاب مثلا بالأهرام المصرية، حيث ادعى أنه ماكان لهذه المعلمات الرائعة أن تشيد لولا عملية خصي العمال ومنعهم، وإلى الأبد، من أية خلوة شرعية أو غير شرعية. أحكام وتفاسير أصبحت، بين عشية وضحاها، كتفا يسهل قضمه وملجأ لتفريغ لاءات العصيان والتمرد على وضع كلما ساء، عرى عورة ساكنة لا تدري إلى أين تسير
 استمد مستتر بعض الشرعية من رحلة قريبه حطاب، سيما وأن هذا الأخير ادعى أن بإمكانه تأمين الحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي الفلسطينية لمن يرغب في ذلك دون حاجة إلى إذن من سلطات الاحتلال. وياليته لم يسرف في التبجح! لأن بعض الأصوات بدأت تتعالى لتشكك في الطريقة التي تمكن بها من ولوج مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى. إن لم يكن بتواطئ مع سامي ــ لغرض ما ــ تساءل البعض، فمن يكون إذن وراء تنظيم الرحلة؟ ومما أضفى مسحة من الريبة على القضية كلها، هو عدم وجود خاتم الدخول والخروج على أية صفحة من صفحات جواز السفر. كان لا بد لمستتر أن يتدخل أكثر من مرة ليشرح أن سلطات الاحتلال هي التي تصدر تأشيرات الولوج إلى والخروج من الأراضي الفلسطينية، بما فيها تلك التي توجد تحت نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية، بموجب اتفاقيات أوسلو
 لم يفلح مستتر، كما لم يفلح حطاب أيضا، في تفسير تردد مجموعة من أبناء وحفدة يهود مغاربة على المدينة بغية صلة الرحم والتعبير عن اعتزازهم بانتمائهم للوطن. إن كان صحيحا أن الهوية اليهودية لشريحة مهمة من المغاربة لم تكن يوما محط شك أو رفض ــ بل كانت مبعث فخر واعتزاز، ونص عليها بوضوح في دستور البلاد ــ، فإن نسق الزيارات، أشهر قليلة بعد عودة حطاب، طرح أسئلة متعددة، وعلى رأسها أهم سؤال، ‘لماذا الآن؟’ قد يقول قائل إنها تدخل في إطار رياح العودة التي أصبحت تهب بين أوساط اليهود الشرقيين بعد تبخر حلم العيش في ظروف أحسن من تلك التي خبروها في بلدانهم الأصلية، أو لأن الساحة السياسية في الشرق الأوسط أصبحت لا تبعث على الاطمئنان، وأن نشوب حرب مدمرة من أجل إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة غير مستبعد. لم تكن هذا التفاسير مقنعة. زعم بعض المتحججين بمرجعيات إديولوجية أكل عليها الدهر وشرب، أن هناك مؤامرة خبيثة تحاك ضد البلاد، بسبب فشل الربيع العربي في زعزعة استقرارها. كما ادعى آخر أن الزيارات تحصيل حاصل بعد أن رممت بيَّع ومقابر يهودية في بعض المدن المغربية العريقة لتعيد للثرات اليهودي المغربي بريقه، وتأكد التميز الثقافي المغربي في محيطه العربي وأنه لا يمكن لأحد أن ينكر تشبث اليهود المغاربة بوطنهم الأم وقد عبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة. انتفض آخرون ليطعنوا في عروبة هذه الربوع، ويذكروا بأنها أمازيغية حتى النخاع، وبأن الدين لاعلاقة لها بالانتماء العرقي والإثني للمغاربة. بل لم يتردد بعض الناشطين في السفر إلى إسرائيل نكاية في كل الذين يتشدقون بعروبتهم، ليذكروهم بتعاقب الديانات في البلاد من وثنية ويهودية ومسيحية قبل مجيء الإسلام
 كل هذا مع تداول التسريبات حول وجود “صفقة قرن” لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يتم بموجبها إقبار القضية الفلسطينية وطي الملفات العالقة حول الوضع النهائي، وعلى رأسها مدينة القدس واللاجئين والحدود والمياه. أمام كل التأويلات، اختار مستتر الصمت لمدة، عسى أن تهدأ الأمور ويتسنى له الانكباب على الأهم، وهو الاستفادة من الفراغ الذي يتجول بين أزقة وشوارع المنطقة. في الواقع، كان مستتر يخشى أن تتطورالأمور وتدفع الناس إلى النبش في ماضيه؛ ماض أقل ما يقال عنه إنه يزداد غموضا يوما بعد يومفمن يكون مستتر في حقيقة الأمر؟
كل ما يتداوله الناس حول مستتر، هو أنه بنى ثروة هائلة في وقت قياسي. ‘ما أصله وما فصله؟’ تتناقض الروايات، ولكن علاقته بمفيد، من أعيان المنطقة، خولت له نسج نسب وحسب لا يضاهيهما سوى عجز الخصوم عن إثبات عكس ذلك. استفاد مستتر من سياسات عمومية متتالية حول التقطيع الإداري للبلاد والشروع في تنفيذ ما سمي، آنذاك، بإرهاصات الديموقراطية المحلية. كانت البلاد تمر بمرحلة دقيقة من تاريخها في خضم بداية تصدع العلاقات بين النخب السياسية التي عبدت الطريق للدولة الحديثة غداة الاستقلال ــ أو هكذا كان يعتقد. كان باديا للعيان أن الارتجال يطغى على القرارات المتخذة وعلى الوتيرة التي تصاحب تنفيذها، رغم حسن نية الفاعلين الأساسيين الذين كانوا أعمق رؤية ـــ نظريا على الأقل ـــ من بقية المتدخلين
كان يبدو جليا وجود شرخ عميق في ذهن مدبري الشأن العام يعكس تناقض المقاربات المعتمدة وبعدها الواضح عن الواقع المعاش للساكنة. كان لا بد للحواضر والقرى أن تتطور وأن تتمدد: السكان في تزايد مستمر والمتطلبات في زخم سريع والأجوبة لا تشفي الغليل. ولكن أخطر من كل هذا، كان ظهورصراعات إيديولوجية بين أصدقاء الأمس مع رشوح تسريبات حول تحالفات متناقضة قديمة وجديدة اختلفت في حجمها وبعدها وتأثيرها على الخريطة السياسية والمجتمعية. انعدمت الثقة ولم يعد بمقدورالفاعلين، الذين قدموا من كل حدب وصوب، أن يخفوا الحقيقة. كان لا بد من البحث عن دماء جديدة، ولكن من خارج الدائرة الضيقة لنخب استنفذت كل طاقتها في البحث عن مربض الفرس في عرين الأسد
بدأت عملية الانتقاء. فلح ناس وفشل ناس. وحاول بعض الأعيان والمنتفعين الركوب على الموجة لربح الوقت وترتيب الأوراق. كان لا بد لهم من البحث عن مطايا وركوبها أو التواري، ولو إلى حين، عن الأنظار. لكن عوض أن يجددوا أنفسهم ويطوروا كفاءاتهم لاستيعاب المرحلة، غرقوا في العشوائية، فأنتجوا عينة جديدة من الأفراد لا همَّ لهم سوى جمع ما يمكن جمعه وفي أقرب وقت ممكن. وكان مستتر من بين هؤلاء. لحسن حظه ــ وسوء حظ الآخرين ــ أنه كان على دراية بتضاريس منطقة مجاورة لحاضرة المدينة الاقتصادية، فهو ينحدر من هذه الربوع وترعرع فيها حتى بلغ سن العشرين. استغل مستتر ما يعرفه جيدا ليجعله في خدمة مفيد، الرجل النافذ في المنطقة منذ عهد قريب، للاستيلاء على أراضي سلالية كانت محل نزاعات بين أفراد ينتمون لقبائل لم يكن حبل المودة قويا بينهم في يوم من الأيام. استفاد مفيد ومستتر من عدم اهتمام أغلب الناس بهذا الموضوع ومن توافق المصالح بين زمرة من الأعيان لم تكن مشكلة الأراضي السلالية من الأولويات بالنسبة إليهم. ولكن مفيد كان يطمح إلى أكثر من ذلك: استعادة أراضي خصبة كان أحد الأعيان قد حصل على ملكيتها بطرق ملتوية إبان فترة الحماية ويعتقد أن له حقا فيها
لجأ مستتر ومفيد إلى حل بسيط استنبطاه من الإرث الثقافي للمنطقة، وهوالمصاهرة ــ وفي أحيان أخرى الزواج من الأرامل. كان الزواج من الأرامل يعتبر فرضا أضفي عليه ‘ولد الكحلة’، فقيه المنطقة، طابع الشرعية في سبيل الحفاظ ــ نظريا ــ على شرف الجميع رجالا ونساء. لكن الشيء الذي أغفله كثيرون، بمن فيهم علية القوم في القرى المجاورة، هو أن جل الأرامل اللواتي سقطن في شراك مستتر ومفيد كن من فصيلة السلاليات. لم يكن هذا المعطى ليثني الإثنين عن الاستمرار في مخططاتهما، لمَ لا وقد وجدوا في الفقيه ‘ولد الكحلة’ السند؟  كان ‘ولد الكحلة’ يوثق الزواج ويهيء الظروف للطلاق كلما صعبت الأمور أو اتخذت منحى آخر. صحيح أن هذا الفقيه كان ورعا وذا مصداقية، بيد أن ضلوعه في المؤامرة، قلل من هيبته لدى مستتر ومفيد؛ وكان لهما في ذلك حجة قوية ودليلا صادما كانا يهددانه بهما كلما استيقظ ضميره وحاول وضع حد لمشاركته في ألاعيبهما
 لم يكن التشريع آنذاك يسمح للأرامل السلاليات بالتمتع بحقهن في استغلال الأرض بعد وفاة أزواجهن. كان لا بد من الالتفاف على القانون وانتظار سخاء بعض حكماء القرى لتمكين الأرامل من الاستفادة من الأراضي التي كان أزواجهن يستغلونها.  لعب مستتر دور الزوج والمنقذ المثالي، وفور الانتهاء من إجراءات الزواج، الذي كان يتم في شبه سرية ــ وبإيعاز من بعض الشيوخ لإضفاء طابع العرفية عليه ــ يبدأ مستتر ومفيد لعب دورهما المعتاد على النحو التالي: يختفي مستتر، فيقيم مفيد الدنيا ويقعدها ويقضي جل وقته في البحث عنه من أجل إعادته إلى ‘بيت الطاعة’ ــ هكذا كان الناس يمزحون بترديد هذه العبارة ــ إلى أن يبلغ السيل الزبى وترضخ الزوجة البئيسة، حسب الأحوال، لضغوط مفيد، وتقبل بالأمر الواقع. الأمر الواقع، يعني أن تطلب الطلاق ــ وفق نفس شروط السرية ــ بعد أن يكون مستتر قد جردها من جزء كبير مما تملك مع الابقاء على القليل لتمكينها من العيش الكريم. لم يجرؤ أحد أبدا أن يطرح موضوع الزواج العرفي في هذه الحالة حول مطابقته أولا، وقبل كل شيء، لأحكام الشريعة؟ والحالة هذه أنه رغم إصلاح مدونة الأسرة، وتعاملها المرن مع موضوع الزواج، لم ينته كثيرون، من بين أعيان القرى ــ وكذا بعض الشيوخ ــ عن الغطس في بركة تعدد الزوجات. كان قلة من المتفائلين على ثقة بأن الزمن وحده كفيل بتغيير العقليات وصنع رجل جديد مجرد من أنا التملك وحصانة الرجولة الزائفة التي تختبر في الفراش وكأنها في كل يوم فتح جديد
كانت الأمور تسير على أحسن ما يرام إلى أن حدث أمر جلل. وقع مستتر في فخ لم يكن في الحسبان. تقرب كالمعتاد ــ وبنفس الطريقة ــ من شابة سبق لها أن تزوجت مرتين. كانت مالكة لمساحات كبيرة من أراضي كان يديرها زوجها، مضياف، الذي توفي في حادثة سير غامضة، بينما كانت تتواجد معه أثناء الحادثة، وهي حامل في شهرها الثالث. وللأسف، فقدت الجنين جراء الحادثة. اختلفت الروايات حول توقيتها ومسؤولية من تسبب فيها.  يقع جزء من الأراضي (من بينها أراضي صنفت سلالية) بين حاضرتين كبيرتين وتدخل في إطار برنامج طموح لتوسيع المجال الحضري، وتقع أجزاء أخرى في أماكن متفرقة في مدينة الدار البيضاء كانت وماتزال موضوع نزاعات لم تتجاوز المراحل الأولى من التقاضي نظرا لتعدد الأطراف ولوجود ثغرات قانونية حول تعريف الملك العمومي. وبناء عليه، كانت كل هذه الأراضي والمساحات تسيل لعاب السكان والمستثمرين والمضاربين العقاريين والفضوليين. ولكن الشائعات كانت تقول إن عائلة مضياف اغتنت عن طريق استلائها على الأراضي، سنوات قليلة قبل الشروع في سياسة استرجاع أراضي المعمرين ــ أو ما سمي بسياسة المغربة في بداية السبعينيات من القرن الماضي
كانت السيدة تحمل إسم انتظار. ولكنها لم تكن بنفس سذاجة من سبقنها من الضحايا. كانت متعلمة وخريجة جامعة. كانت تنحدر من مدينة تافراوت، ولكنها لم تكن تتكلم عن ذلك كثيرا. عملت، منذ البداية، على توثيق جميع المعاملات وتمكنت من حبك خيوط اللعبة إلى درجة إيهام مستتر بأنها تحبه إلى حد الجنون. كانت جميلة حقا؛ رجال كثيرون وقعوا في حبها وتمنوا أن يحظوا بنظرة منها واستلطافها. وقد عملت على الاستفادة من هذا الإسم: تركت الجميع ينتظر، بمن فيهم مستتر. لم تسمح له بلمسها أبدا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، أيام قبل إعلان الخطوبة المرتقبة، اختفت. لم يستسغ مستتر ذلك. بذل جهودا كبيرة في البحث عنها، ولم تنفعه فصاحة مفيد ولا دهاء شيخ القبيلة، ولا فتاوى ‘ولد الكحلة’
استمر البحث شهرين، ثم ظهرت انتظار من جديد. كانت عودتها حدثا كبيرا وتزامن مع سنة فلاحية جيدة بعد سنوات عجاف متعاقبة.  وعندما سئلت عن غيابها، أجابت أنها كانت تتفقد خيوط زمن وثق لوعد لم يتحقق. قررمستتر ومفيد أن يستفيدا من الوضعية، وأقنعا انتظار بقبول الزواج، لكنها اشترطت أن يكون هذه المرة ما بين العرفي والعلني، ولو إلى حين، ويوثق في مرحلتين. لم يكن ذلك بالأمر الهين بالنسبة لمستتر. مستتر كان متزوجا من امرأتين: الأولى أم لبناته الأربعة، إسمها محجوبة؛ والثانية، سلالية في نواحي مدينة بني ملال، إسمها كرمات. تعقدت الأمور، فإذا كان من السهل التخلص من سلالية بني ملال، فلم يكن ذلك ممكنا مع أم البنات
عرفت أم البنات بقوة شخصيتها، ورغم علمها بغزوات زوجها، كانت تجد السلوان في بناتها الأربعة، ولا سيما بعد أن أصابها مرض خطير. كما أنها كانت تتعرض لنوبات من الصرع لم ينفع معها لا الطب العصري ولا الطب البديل. ما كان مستتر ليتجرأ ليطلب منها الإذن بالزواج من إمرأة أخرى كما تنص على ذلك مدونة الأسرة المعدلة. كما أن ظروفها الصحية خلقت له مشكلة أخلاقية: للجشع حدود في بعض الأحيان. طلب مستتر مهلة لتيسير الأمور، فقبلت انتظار. كانت أقل لهفة ولم تكن الأرض السلالية التي يتلهف عليها مستتر ومن معه الملك الوحيد الذي تشرف عليه. كانت تصبو إلى أكثر من ذلك، الحفاظ على حريتها، واستغلال جمالها في توطيد مكانتها بين الأعيان وغيرهم من الأغنياء الجدد. كانت تسعى إلى أن تعوض فقدان زوجها بأن تأخذ مكانه ــ ولو نظريا ــ بين علية القوم. ولكن الطريق كان طويلا، لأن ماضي مضياف لم يكن ورديا، ويحكى أن جزءا كبيرا من الأراضي التي تملكها عائلته، كانت نتيجة لتلاعبات والتفاف على القانون واستعمال أساليب غير أخلاقية. ولم يكن غريبا أن كثيرين من بين الضحايا ــ أو ورثتهم ــ يبحثون عن الطريقة المثلى لاسترجاع حقوقهم أو للانتقام. هذا، إضافة إلى أسر ميسورة كانت تتمنى أن تأخذ إحدى بناتها مكان انتظار قبل أن تظهر هذه الأخيرة في المشهد وتستحوذ على كل شيء. ولم يكن يشفع لها أنها كانت توحي بأنها على علاقة بشخص آخر. وحيث إن أحدا لم يره أويصادفه، فقد شكك كثيرون في روايتها
سقطت محجوبة في بئر، أثناء إصابتها بنوبة من الصرع، وتوفيت على الفور. في بداية الأمر، حامت شبهات حول مستتر، ولا سيما أنه لم يفارقها كثيرا خلال أسابيع، رغبة منه، ربما، في إقناعها بقبول الطلاق أو لذر الرماد في عيون الحساد والفضول على حد سواء. إلا أن أحد السكان زعم أنه رأى مستتر في الجوار ساعات قبل ما قيل إنه حادثة انتحار. ثم بعد أيام، نسي الجميع الأمر وطوي الملف مؤقتا. أصبح الطريق معبدا لمستتر للزواج من انتظار. قبل ذلك، أقنع مستتر كرمات بقبول صفقة الفراق بأن دفع لها مالا كثيرا وتعهد بعدم إعلان الطلاق للملأ. وكان لها ذلك. ولكن انتظار أصرت على الانتظار. كاد المسكين أن يفقد عقله. حاول جاهدا ــ ومفيد معه ــ أن يقنعانها؛ دون جدوى. كان جوابها بسيطا: “إنتظر حتى تجف دموعك من فقدان زوجتك!” وكلما حاول أن يثنيها  من جديد، أردفت: “إنك تهين كرامتي، وأنت لا ترى في شخصي سوى جسدي!”.  كانت أجوبتها كالسهم، تصيبه من الرمية الأولى. بدأت الظنون تستحوذ على فكره. متى ستكف هذه اللعوب عن قصف مشاعره؟ لم يرد يوما أن يصدق أن انتظار قد تكون على علاقة بغيره وأنه من الممكن أن تتركه. جند بعد الشباب لتعقبها، كلما ذهبت إلى التبضع وحيدة. لم يفلحوا ولم يفلح. هل لم يبق لنفوذه نفوذ؟ كيف لم يستطع مفيد أن يحل اللغز، وهو الذي سيكون المستفيد الأكبر من زواج مستتر بانتظار؟ ذهب ليستجلي الأمر
ـــ ما الحكاية؟ إلى متى سنقبل أن تتلاعب بنا صبية بهذا الشكل؟ بادر مستتر بالسؤال
اكتفى مفيد بالنظر إليه. هو الآخر لا يدري
ـــ لقد نفذت كل ما طلبت مني؛ ما العمل؟
ـــ إنتظر قليلا، أنت خبير في مثل هذه المسألة! هل فقدت سحر مناوراتك السابقة؟ انتظر! أجابه مفيد وقسمات وجهه تنم على اللامبالاة
ـــ لا أستطيع الانتظار
ـــ لا تتسرع!  بنفاذ صبرك، ستفتح علينا ملفات نحن في غنى عنها الآن. هناك مستجدات في الساحة، وكأنك لا تعلم. تغيرت الأمور ولم يعد من السهل تجاهل يقظة الساكنة. كما أن انتظار سيدة محبوبة لدى الكثيرين، ليس لجمالها فقط، وإنما أيضا لذكائها. وقد نجحت في كسب معركة الكرامة، وحسن السيرة والأخلاق عندما امتنعت عن التسرع في عقد قرانها معك دليلا على احترام ذاكرة المرحومة محجوبة وحفظ ماء وجهها
ـــ لا أصدق ذلك! أنا أظن أن لها خطة أخرى؛ إنها تريد كسب الوقت وربما الارتباط بالشخص الآخر
ـــ لا يوجد شخص آخر في حياتها. لا تنس، والعهدة على جيرانها، أنها كانت تحب زوجها كثيرا، وأنها، نفسيا وجسديا، ليست مستعدة لدخول تجربة جديدة. وأهم من ذلك، سامحني إن قلت لك، إنها تعرف من أنت؟ وما هو ماضيك؟ وما هي خططك؟
ـــ يؤسفني أن أقول لك إنك نسيت الأهم وهو الأرض التي سوف تضيع منا بسبب تعنت هذه المتغطرسة.
ـــ هل تنكر أنك تحبها؟
ـــ لا أنكر أنني أميل إليها ميولا غير عادي؛ ولكن الأهم يظل الأرض.
لم يتمالك مفيد إطلاق قهقهة أثارت فضول ناس حولهم، فعلق على جوابه بترديد مقطع من أغنية غيثة بن عبد السلام:’بالصراحة وباغية فلاح، يحرث أرضه بالمحراث.’ انتفض مستتر وقال
ـــ أنت مخطئ على طول الخط
ـــ أنا أعلم ــ وأنت تعلم أيضا ــ أن الإيحاءات الجنسية لبعض الأغاني المغربية عديدة، وهي تترجم لهيمنة ثقافة الفحولة الزائفة. هذا مع العلم أن ألحان محمد بنعبد السلام كانت رائعة، وأنا أتأسف لأنه، مثل كثيرين من فناني جيله، لم يأخذ حقه من العرفان. من لحن “أنا من أنا”، قصيدة إيليا أبي ماضي لعلية التونسية بتلك الروعة، لا يمكن إلا أن يكون عبقريا. كما أن صوت غيثة، ابنته، يظل فريدا!
ـــ لم أكن أعرف أنك بمثل هذه السخرية والاستعلاء.
ـــ دعني أسألك سؤالا يستفز فضولي منذ مدة: كيف تقبل أن تتزوج أرامل أوغيرهن من النساء؟ كيف تنجح في إقناعهن؟
ـــ غريب أن تسألني هذا السؤال، وأنت من سخرني لهذه العمليات في بادئ الأمر؛ كما أنك، بين الفينة والأخرى، تقوم بنفس الشيء.
ـــ لا غرابة في الموضوع. أنا كنت أعرف ما أريد. وأنت، هل كنت تعرف ما تريد؟
ـــ سأجيبك: كل أمرأة تزوجتها، كانت تعرف أني متزوج، وكانت تقبل بالزواج وراء الستار ــ سميه كما تشاء، عرفي، توافقي، انتهازي ــ وبالتالي تبدأ تجربة جديدة مع قلة الاحترام لنفسها، أولا، ولزوجتي الأولى، ثانيا. كيف تنتظر مني أن أثني عليها، وهي لم تفعل ذلك؟ كما أنني لا أنظر بمنظار العطف إلى سيدة تتنقل من سرير إلى سرير بكل سهولة وبسرعة قصوى بدعوى الحفاظ على سمعتها
ـــ وجهة نظر تحترم، ولكنها لا تقنعني. كما أنك تتغاضى عن حقيقة أخرى، وهي أن كل رجل، مهما ادعى فحولة لا تعني غيره، لا يقل احتقارا لنفسه من نفس المرأة عندما ينتقل من فراش إلى فراش. ثم لا تنس أنك لست الوحيد في الميدان
تجهم وجه مستتر وغادر المكان
كان لا بد لمستتر أن يتدبر الأمر بنفسه. وهو في طريقه، استنفرته ملاحظة مفيد بأنه ليس وحده في الميدان. نعم، هو يعرف ذلك، ولكن لم ركز صديقه على ذلك الآن؟ هل تكون له خطط أخرى قد تدفعه إلى قلب الطاولة عليه؟ مهما يكن، الظرفية تدفعه إلى إنهاء الصفقة في أقرب وقت. سافر إلى بني ملال ليتأكد من أن كل شيء على مايرام. كانت كرمات في قمة الالتزام بالاتفاق، بل كانت تستعد لزواج عرفي جديد. وفورعودته بأيام، اتصل ب ــ ‘ولد الكحلة’ للاستشارة والرأي. نصحه هذا الأخير بعدم التسرع في التصادم مع مفيد، الذي يظل أولا وقبل كل شيء، ولي نعمته. لكنه وعده بمحاولة إيجاد حل وسط ونصحه بالسفر إلى مكة للقيام بالعمرة، بحثا عن نوع من الطمأنينة الداخلية وإعادة الأمور إلى نصابها من حيث أولوية أماكن العبادة من المنظور الديني الصرف. الإشارة كانت واضحة إلى الحطاب وسفره الأسطوري إلى القدس
 قبل أن يتهيأ للسفر، وبعد تردد دام أسبوعين، ارتأى مستتر أنه قد يكون من المفيد إعادة الاتصال بانتظار. لم تبد انتظار أي اعتراض من حيث المبدأ، لكنها اشترطت أن تحصل منه على ضمانات قبل أن يسافر. كان الطلب مفاجئا له. ولكنها أوحت إليه أنه في غيابه قد تطرأ أحداث، ولن تستطيع أن تقاومها لوحدها. استفسر عن نوعية الطلب، فكان أنها تريد عقد القران بصفة سرية يوثقه عدل من معارفها وحسب شروط، بدت تعجيزية في بادئ الأمر، ولكنه قبلها في النهاية. وكان من دوافع قبوله هو أن العدل، واسمه منتفع وينحدر من تافراوت، كان شخصا معروفا نسبيا، لأنه ارتبط في فترة سابقة بظاهرة تجويد القرآن وتبادل النزال الفقهي مع فقهاء يؤثثون مسجد الحسن الثاني والمساجد المجاورة له خلال شهر رمضان. ولكن انتظار لم تقف عند هذا الحد، بل أخبرته بأن لديها معلومات حول ما جرى بينه وبين زوجته، ساعات قبل ما قيل إنه انتحار، قد تتسبب له ولها في مشاكل هي في غنى عنها
لم يخبر مستتر أحدا بالصفقة التي عقدها مع انتظار خوفا على سمعته وعلى ما قد تؤول إليه الأمور علاقة بزوجته المتوفاة.  كما كان يعلم جيدا أن انتظار تتلاعب به، بيد أنه لم يجد بدا من مسايرتها، ولا سيما أن الشكوك بدأت تساوره حول تصرفات مفيد وتردد ‘ولد الكحلة’، الذي اتخذ مسافة بينهما وأعرض عن الظهور إلى جانبهما مؤخرا
 ثم عقد القران في إحدى الضيعات بدار بوعزة لم يخبر أحد مستتر عن صاحبها الحقيقي، حينها، لأنه كان يريد إتمام الصفقة في أي مكان. كانت الضيعة مرتبة على أحسن طراز ومؤثثة بأسلوب يجمع بين مميزات ثقافة الشاوية والحوز وثقافة عصرية ذات نفحات إيطالية. كانت المراسيم بسيطة جدا وغريبة في نفس الآن. حتى الشهود جيء بهم من مسقط رأس العدل، وكانوا لايتكلمون سوى الأمازيغية، وبدا وكأنهم لايعلمون ما الذي يقومون به في هذا التجمع الغريب. ولكن مما أثار نوعا من الحيرة لدى مستتر، هو تواجد شاب وسيم جدا، في عقده الثالث، كان يقوم بدور الضيافة ولا يتكلم كثيرا. سأله مستتر عن إسمه، فلم يجبه، كما أنه تجاهل طلب منتفع عندما طلب منه أن يكون من بين الشهود؟ تم عقد القران. ولم يختل مستتر بانتظار، لأن ذلك كان من ضمن الشروط. غادر الجميع فور انتهاء المراسيم: انتظار ومنتفع والشهود أولا، مستتر والشاب الغريب ثانيا
عاد مستتر من العمرة قبل أن ينهيها. بلغ إلى علمه أن الشرطة قد أعادت فتح ملف وفاة محجوبة بناء على طلب تقدمت به عائلتها بعد أن تسرب خبر زواج مستتر من انتظار وعدم احترامه للزمن الرمزي إكراما لذكراها كما كان يفترض. بل الأدهى من ذلك، هو أن أحدا أسر إلى العائلة أن مستتر كان يتواجد مع محجوبة يوم الحادث، وأنه شوهد يتجول معها قبل أن ينشب بينهما تشابك بالأيدي، توجهت محجوبة على إثره نحو البئر مهددة بالانتحار. لم يجزم الشاهد هل فعلا امتنع مستتر عن مساعدتها، ولكنه أكد على أنه أمسك بيدها، لمدة، فيما يشبه أنه كان يحاول أن يقبلها أو احتضانها، ثم تخلص منها ولاذ بالفرار
أمر وكيل الملك بإخراج جثة الهالكة وإعادة تشريحها. وكانت النتيجة التي توصلت إليها الشرطة العلمية صادمة: تواجد كميات كبيرة من السم في جسدها، له علاقة مباشرة مع المرض الخبيث وترتبت عنه نوبات الصرع الذي دفعها إلى الجنون والانتحار ــ فرضياــ إن لم يكن ذلك بفعل فاعل. حكاية السم المزعوم أصابت مستتر بهلع كبير، لأنه، علاوة على الشكوك حول تواجده ساعة انتحارها، كان الوحيد الذي كانت محجوبة تقبل منه أن يناولها الدواء. ولهذا السبب، كان يتوجس من سؤال المحققين ويتخوف من نظرية المؤامرة، ولا سيما أن جرائم اقترفت خلال السنوات الأخيرة راح ضحيتها أعيان وأغنياء جدد، ونسجت حولها حكايا لا يقبلها العقل تتوزع بين خيانة الأمانة والشرف وزنا المحارم. وكان الدافع الأساسي، هو الجشع والرغبة في الاستحواذ على الأرض. كل القرائن كانت تقود إلى مستتر، ليس فقط لأن زوجته كانت لها علاقة ما بالأرض وغير ذلك من فتن التملك، بل، أيضا، لأنه عرف عنه عدم قدرته على السيطرة على أعصابه كلما كان عرضة للضغوط
 وكانت مفاجأته كبيرة حين أخبره ضابط الدرك المكلف بالتحقيق أن زوجته كانت قد حصلت على حق في إرث جدها كان أبوها يترافع حوله قبل أن يتوفى، أيضا، في حادثة غامضة. كيف لم يعلم بهذا الأمر؟ صحيح أن علاقته بصهره لم تكن جيدة، ولكن ذلك ما كان ليمنعه من أن يعرف. لو كان عرف، لكانت الأمور مختلفة الآن. تشعبت القضية إذن. مهما يكن، لا بد له من إيجاد حل. عادت الروح إليه، عندما همس المفتش في أذنه أن الشكوك التي تحوم حوله تبدو واهية، ولكن القضية تتطلب وقتا طويلا لفك شفرتها. فقد تبين أن لزوجته المتوفية أقارب كانوا يستغلون الأرض لعقود وأنهم لم يكونوا راضين عن المنحى الذي اتخذه النزاع حول الإرث وأن دوافع ارتكاب جريمة من قبلهم واردة جدا
حاول مستتر تدارك الوقت وعمد إلى تحديد الأولويات. وكان من بينها محاولة لم الشمل مع انتظار وطي صفحة التلاعبات في موضوع السلاليات. لم يعد في حاجة إلى المال ولا إلى الجاه، يكفيه ألم البؤس العاطفي والفراغ الروحي الذين أصبح يعيشهما. ولكن بدا أن متاعبه لم تنته. أولا، انتبه إلى أن مفيد أصبح يناصبه العداء في واضحة النهار. لم يترك له مكانا يحفظ فيه ماء وجهه، بل وجه سهامه من خلال ‘ولد الكحلة’ ليفند أقواله فيما يتعلق بالسطو على ملكية الغير. كان هذا الأخير في حالة يرثى لها، ولكن لم يكن باليد حيلة. ثانيا، وهذا هو الأهم، علم أن منتفع الذي وثق زواجه من انتظار في صيغته العرفية تعرض لسكتة دماغية ونجا من الموت بأعجوبة، ولكنه ظل يعاني من شلل نصفي ومن عدم القدرة على النطق. كانت الصدمة قوية جدا. ثالثا، تراجعت انتظار عن وعودها ونصبت الشاب الوسيم، الذي قام بواجب الضيافة أثناء مراسيم عقد القران، طرفا في القضية. كان هذا الشاب جريئا
ـــ الخيبة مُرّة، لكنها عنوان الحقيقة! بل هي الحقيقة عينها. إسمح لي بأن أقطع عليك طريق التفاصيل وأن أوفر علي وعليك زمهرير التأويلات، بادره مخاطبه الشاب، وكان من رواد ‘المنتزه’ قياسا بالطريقة التي سلم بها على مجموعة من الزبائن في الطاولة المجاورة
ـــ لا أدري عما تتحدث؟ أرجوك وفر علي وعلى نفسك عباراتك المنمقة! أجابه مستتر
ـــ المسألة بسيطة جدا؛ الصفقة لم تعد صفقة
ـــ عن أية صفقة تتحدث؟
ـــ مرة، سئل مكسيم جوركي عن الوجود، فأجاب إن التناقض يؤدي إلى الحركة. وقبله اعتمد الأمازيغ طريقة التعايش مع الوافدين الجدد من أجناس أخرى، وذلك لكسب الوقت ودراسة الوضعية الجديدة لتحصين أنفسهم
ـــ أنت تستهزئ بي، بلا شك
ـــ أبدا! أريد فقط أن أضعك في الصورة. أنت توجد في وضعية لا تحسد عليها. الأوراق الموجودة بين يديك مبعثرة. ومن الواضح أنك لا تملك استراتيجية خروج واضحة. تكالبت عليك الظروف، ولا يمكنني إلا أن أتعاطف معك في الحدود المسموح بها.
ـــ يا أخي، أنت تزعجني
ـــ سوف تجزم بعد حين أن إزعاجي لك أقل ضررا مما هو آت
ـــ وماهو الآتي؟
ـــ الآتي هو أنك ستضطر إلى التخلي عن عرفك أيها الديك الملون كالطاووس
ـــ حقيقة، لم ألتق من قبل في حياتي إنسانا مثلك يتنفس بالوقاحة إلى حد الغثيان
ـــ أحب هذا التعبير؛ ذلك يعني أننا يمكن أن نتفاهم
ـــ نتفاهم حول ماذا؟
ـــ انتظار
ـــ ما بها انتظار؟
ـــ انتظار لا تريد أي شيء منك
ـــ كيف؟ أنا الذي أريد منها كل شيء
ـــ كيف؟
ـــ إسألها! إسأل نفسك
ـــ إسأل روحك! سؤالك يذكرني برائعة أم كلثوم. الأمر، ياسيدي العزيز، هو أنني الوحيد المؤهل لمفاوضتك
ـــ مفاوضتي؟ حول ماذا؟
ـــ حول كل شيء. إسمع، سأحاول أن أشرح لك باقتضاب شديد. انتظار أخذت ما كان يجب لها أن تأخذه. وحسب علم الجميع ــ أو على الأقل، حسب علم من حضروا مراسيم القران ــ لم يتم أي شيء خلال تلك الليلة. انتظار أخذت الوقت الكافي للتفكير، وقررت إنهاء علاقتها بك. لا رابح، لا خاسر!
ـــ كيف لا رابح، لا خاسر وأنا وقعت على وثائق؟
ـــ لا يهم. ما يهم هو أن نتدارك الأمر
ـــ كيف نتدارك الأمر، إذا كنت لا أفهم جيدا ما الذي تتحدث عنه؟
ـــ باختصار جديد، أبلغك بأن عقد القران قد ضاع. وبما أن العدل فقد السيطرة على جسمه، فقد ضاع كل شيء
ـــ لا أفهم
ـــ تخيل أنك وانتظار والمراسيم والشهود والحضور… كل ذلك لم يكن
ـــ سأسايرك وأقبل بهذا التفسير، ولكن ما هو مصير الوثائق التي وقعت عليها؟
ـــ عن أي وثائق تتحدث؟ إذا لم يكن هناك شيء، فإن ما ينتج عن لا شيء، فهو لا شيء
احتاج مستتر لكل رباطة جأشه كي لا ينتفض في وجه هذا الشاب الجريء والوقح والمتعالي واللامسؤول. ما هي حكايته؟ وما الذي يريد أن يقوله وهو يطنب في الشرح من غير أن يفيد؟ وما حكاية انتظار لتفوض له الحق في مخاطبته وكأنه مخلوق من كوكب آخر؟ هل سينقلب السحر على الساحر؟ لن يحدث هذا. سيعمل كل ما في وسعه لتلقين انتظار ــ وهذا الشاب ــ درسا لن ينسيانه أبدا. لكن عليه أن يتريث قليلا. وقبل كل شيء، لا بد أن يستدل على خيوط الحكاية بالعودة للبداية. يقال في كتاب التربص بالضحايا: ” تسقط الضحية في الفخ ليس لأن المعتدي باغتها، ولكن لأنها كانت مستعدة لأن تكون ضحية.” من تكون الضحية إذن في الحالة التي يعيشها الآن؟
ـــ إذا فهمت ما تقول، فإن الشيء المفقود، يظل مفقودا إذا كان الحديث عنه لا يعدو أن يكون سوى حديث في الهواء؛ وبالتالي لا يعني أي شيء حتى ولو تنقل عبر الأثير من أذن إلى أخرى.
ـــ تماما
ـــ إذن، مادام كل ما حدث في الضيعة لم يحدث، فهذا يعني أن كل من حضر لم يحضر
ـــ تماما
ـــ في هذه الحال، إخبر انتظار، أنها لن تكون، لأنها لم تكن
انسحبت الابتسامة الساخرة من شفتي الشاب. عقد جاجبيه وأشعل سيجارة استخرجها من جيب جاكيتته بسرعة. أخذ منها نفسا طويلا، ثم سأل
ـــ لا أفهم ما تعنييه
ـــ سوف تحتاج إلى أكثر من سيجارة، وأنت في الطريق، لتبلغ انتظار ما أخبرتك به
استجمع كل قوامه ونهض، وقبل أن يذهب إلى حال سبيله، سأل الشاب
ـــ لم تخبرني أبدا ما هو اسمك؟
ـــ معذرة! أنا منتصر.
ـــ سعيد بمعرفتك أخيرا، يا منتصر، وأتمنى أن تنتصر دائما. ولكن هزيمتك، ستكون على يدي بحول الله، إلا إذا نفضت يدك من حكاية انتظار وعدتما إلى رشدكما
غادر مستتر المكان، دون أن يلتفت، تاركا منتصر في حيرة من أمره. هل تجاوز منتصر الخطوط الحمراء؟ لن تكون انتظار سعيدة بالطريقة التي دبر بها اللقاء مع مستتر. هذا الأخير لم يكن غبيا مثلما كان يتصور
يتبع الاسبوع القادم

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com